في دول يتطلع سكانها إلى الحياة في درجة عالية من التواؤم المجتمعي تتيح بيئة مواتية للسعي من أجل نيل متطلبات معيشتهم وللإقبال على البناء والتعاون مع الآخرين بلا خوف وبما يعود بالنفع الخاص والعام، يكون منع الجريمة هو أعلى مقياس لمدى تطور القوانين ونجاحها كأداة لتحقيق ذلك الانسجام المجتمعي قبل الحاجة إلى تطبيقها، فالمرحلة التي تتزايد فيها ضرورة اللجوء لتطبيق قانون ما تعكس قصور محتواه الرادع للجريمة التي تم تشريعه بسببها، كما أن تكرار جرائم فردية معينة على مستوى المجتمع قد يشير لتراخٍ في تطبيق القوانين المختصة بها أو عدم تطبيقها. وحين تظهر قلة فاعلية قوانين لا تردع أنواعاً من الجرائم زاد عبئها على المجتمع أو فئات منه، يصبح من الضروري النظر أيضاً إلى ما هو أبعد من القوانين. فالقانون ليس المسؤول الأساسي عن تفاقم جرائم مجتمعية أخلاقية بعينها كالسرقة والاختلاس وجرائم سلب المواريث التي يتعامل معها الكثيرون وكأنها ليست أملاكاً - اللهم إلا إذا كانت أملاكهم، وجرائم العنف الأسري المتعددة كالعنف الجسدي والمالي والمعنوي، وكلها جرائم محورها إيذاء إنسان بأسلوب لا يرتضيه – المعتدى عليه أو حتى المعتدي – لنفسه، وارغامه على شيء غير مقبول بالنسبة له لإرضاء من يؤذيه، كأخذ مال من إنسان بالإكراه أو الاحتيال، أو فرض السيطرة على قراراته أو تشويه سمعته. ويكون وراء تلك الأفعال الجائرة منظومة سلوكية مختلة معيقة للتعاون الحميد البناء على مستوى الأفراد أو ثقافة مجتمعية جزئية بها تغييب لقيم محورية، وكلتاهما تؤديان للإفساد بتطبيع تلك التعديات، كما تفصحان عن خللاً في البوصلات الأخلاقية التي يقتدي بها من يقومون بتطبيع تلك السلوكيات أياً كانت الأسباب. والمشاهد أنه تحت ستار "الدين" أو "العلاقات الأسرية" يمكن أن تغلغل في أواصر المجتمع سلوكيات تستوجب الردع، حين يتم التعلل بتلك الأغطية للجور على الآخرين أو السماح به، رغم كونها مفاهيم لها قدسية ولا تمنح رخصاً للإيذاء، بل تحوي مسؤوليات وحقوق متبادلة، لكنها لا يوجد عليها اجماع. فيظل السؤال: كيف نقف على ما يستدعي المنع أو الردع وما دون ذلك؟ ما المقبول وما اللامقبول؟ في زمن نسمع فيه يومياً عن أمور لا تحصى قد "أثارت حالة من الجدل" الصاخب، في حين أن صوت الحق لم يعد له مستقراً أو صدىً في قلوب الكثير من الناس، بل صار هو أيضاً يثير حالة من الشفقة – عفواً، من الجدل، فهل لنا العودة لفطرتنا الإنسانية؟ لعلها تسعفنا حرفياً من حالة الجدل الهزلية الصادعة المميتة التي تعصف بالأخضر واليابس من حقوق البشر. لعلنا نستدل من الفطرة التي أودعها فينا خالقنا وخالقها على ما نعيد به إحياء ثقافة الحدود في المعاملات الشريفة ومداواة أو تعجيز ما أهدرها من سلوكيات عدوانية. إن من احتياجات الإنسان الفطرية الأساسية أن يسلم في نفسه وجسده وماله وسمعته من أذى الآخرين. وبصرف النظر عن مدى إيماننا برب هذا الكون وهو ما لا يعلمه إلا رب القلوب، رحماءً نحن أم قساة، يعلم كل منا يقيناً وفي مرحلة عمرية مبكرة أن الإنسان يتألم أو يحزن أو يغضب حين يُنتهك - حين يتعرض لإيذاء جسدي أو معنوي أو مادي. هذه الانفعالات تنبهنا، فاعلين ومفعول بهم، أن حدوداً ما قد اقتُحمت. ولأن وسيلة إدراك ماهية تلك الحدود منبتها الفطرة الإنسانية فهو إدراك لا يحتكره أحد، خلقه الله فينا لكيلا يكون ادعاء الجهل حجة للناس. إن العودة للفطرة السليمة لتكريم الحدود من بديهيات الموانع في المعاملات يحول دون الوقوع فيما قد يستدعي ردعاً، فإذا ارتقت سلوكيات الأفراد والثقافات المجتمعية الجزئية التي تحتاج لارتقاء الى موضع تنأى فيه عن تعدي الحدود البديهية، بُنيت في الضمائر سدوداً أخلاقية تصمد أمام ما يدفع لسلوكيات توابعها على الإنسان والمجتمع أشد فداحة ووطأة.