لم يبدأ الأمر اليوم... فالقمار قديم كقدم الطمع في قلب الإنسان، وموغل في التاريخ كحلم الثراء السريع. كان الناس منذ قرون يجلسون حول طاولة بسيطة، يرمون نردًا أو يوزعون أوراقًا ملونة، وكلٌّ منهم يرى في ضربة حظ خلاصًا من فقرٍ أو بدايةً لنعيمٍ لم يأتِ. لكن اللعبة لم تكن بريئة يومًا، كانت تُغري وتُهلك، تمنح النصر مرة لتستعبد اللاعب إلى الأبد، وتُشعل داخله نارًا لا تنطفئ إلا لتشتعل من جديد. ومع مرور الزمن تغيّر كل شيء إلا الفكرة ذاتها: أن الربح يمكن أن يأتي بلا جهد، وأن الحظ وحده قادر على أن يصنع حياة جديدة. من الحانات الشعبية إلى الكازينوهات الفخمة، ظل القمار وجهًا واحدًا لحلمٍ زائف، يتبدّل شكله لكنه لا يفقد جوهره... حتى دخل عالم الإنترنت، وارتدى ثوبًا جديدًا من البريق والتقنية. تحوّلَت الطاولة إلى شاشة، والورق إلى رموز، والنرد إلى ضغطة زر. لم يعد اللاعب بحاجة إلى السفر أو الخجل من الظهور، فكل شيء صار متاحًا بلمسة واحدة من الهاتف. في البداية كانت الألعاب البسيطة، ثم ظهرت المراهنات الرياضية، ومعها مواقع تعد بالربح الفوري، وتطبيقات تُغريك بعروض البداية المجانية، فتظن نفسك محظوظًا حتى تكتشف أنك وقعت في فخ إلكتروني لا يرحم. الرهان اليوم لم يعد في صالات مغلقة، بل في فضاء بلا حدود، يقف خلفه عقول جشعة تدير اللعبة بذكاءٍ شيطانيّ، تعرف متى تُشعل الأمل ومتى تُطفئه. مافيا رقمية تسكن الظل، تسوق الشباب نحو هاوية الرهان، وتستدرجهم بخوارزميات مدروسة تجعل الخسارة تبدو كأنها قاب قوسين من الفوز، ليعود اللاعب مرة بعد أخرى، حتى يفقد كل شيء. تطورت اللعبة... لكنها احتفظت بسحرها القاتل، إذ أصبحت أكثر قربًا وأكثر خطرًا. لم تعد تحتاج إلى مال نقدي بل بطاقة مصرفية، ولا إلى مكان خاص بل هاتف صغير، يدخل منه الشيطان بهدوء ليعقد صفقة العمر مع ضحيته. ومن يجرّب لمرة واحدة يفتح بابًا يصعب إغلاقه، لأن الخسارة الأولى تُولد رغبة في الانتقام من الحظ، والرغبة تتحول إلى عادة، والعادة إلى إدمانٍ يسلبك إرادتك. النتائج مؤلمة... بيوت تهدمت، شباب فقدوا وظائفهم، وآخرون أنهوا حياتهم بعد أن خسروا كل شيء. هؤلاء لم يخسروا أموالهم فحسب، بل خسروا الثقة، وانهارت أمامهم صورة أنفسهم. كلهم دخلوا اللعبة بحثًا عن أمل، فخرجوا منها رمادًا يحمله الريح. الأرقام تتحدث، تقول إن مليارات الدولارات تُنفق سنويًا في هذا العالم المظلم، وإن نسب الإدمان تتضاعف، وإن المقامرة الإلكترونية أصبحت وباءً خفيًا يلتهم جيلًا بعد جيل. لكن خلف الأرقام وجوه لا تُنسى، ودموع لا تُحصى، وأحلام سقطت في حفرة من الوهم. القمار في صورته الحديثة لم يعد ورقة تُقلب على طاولة، بل خوارزمية تلتهم الوقت والمال والروح. إنه وجه آخر من وجوه العبودية المعاصرة، يُلبس الحلم ثوب الربح، ويخفي تحته حقيقة الفقد. وربما علينا أن نتوقف قليلًا ونسأل: هل نحن نلعب اللعبة، أم اللعبة هي من تلعب بنا؟ في زمن تتبدّل فيه المفاهيم ويُباع فيه الحلم بالضغط على شاشة، يصبح الوعي طوق نجاة. الحظ لا يصنع حياة، والثراء لا يأتي من طريقٍ معتمٍ يخطوه الشيطان. من يراهن على الحظ، يضع قلبه على مائدة الوهم. ومن يثق بأن النصر يأتي بلا تعب، يخسر نفسه قبل ماله. احذروا هذا اللهو المسموم، فكم من ابتسامةٍ كانت بداية حزن، وكم من ربحٍ زائفٍ كان أول الخسارة. الحياة لا تحتاج إلى رهان... بل إلى عقلٍ يختار، وقلبٍ لا يُغويه البريق الزائل. فمن أراد الثراء، فليزرعه في عمله، لا في نردٍ يقرره الحظ. فالنار مهما تلونت... تبقى نارًا.