يزدحم عالم الفيروسات بالتحدي والغموض، لكن هناك علماء بارعون يحولون هذا الغموض إلى فرص للابتكار وحماية الأرواح، من بينهم الدكتورة هبة مصطفى مديرة مختبر الفيروسات الجزيئية بجامعة جونز هوبكنز في أمريكا، التى تعمل على تطوير تقنيات تشخيص مبتكرة وسريعة، وفهم تطور الفيروسات وآليات انتقالها واستجابات الجسم المناعية، مستفيدة من خبرتها خلال التعامل مع جائحة «كوفيد-19» وما بعدها. في هذا الحوار الذي أجرته معها «آخرساعة» تحكى الدكتورة هبة مصطفى عن رحلتها من دراسة الطب في مصر إلى أعرق مختبرات العالم، وتقدم نصائحها للشباب المصرى الطامح للمشاركة في أبحاث عالمية رائدة، إضافة إلى رؤيتها لدور مصر في دعم علم الفيروسات والتشخيص الجزيئي وتطوير الحلول الوقائية الحديثة. ◄ سر دراستي للفيروسات فتاة أصيبت بمرض كبدي بعد زيارة طبيب أسنان ◄ الذكاء الاصطناعي أحدث ثورة في طرق دراسة الميكروبات المسببة للأمراض ◄ أساليب التشخيص الحديثة تساعد على تقليل معدلات الإصابة والوفاة ◄ عالم الأمراض المعدية لا يعترف بالحدود الجغرافية بين الدول ■ محرور ومؤلفو كتاب دليل علم الأحياء الدقيقة الإكلينيكي وبينهم د. هبة مصطفى ◄ بعد مرور خمس سنوات على تجاوز العالم لجائحة كورونا، كيف تغيرت أولويات البحث في علم الفيروسات؟ ساعدت جائحة «كوفيد-19» على تسريع المبادرات العالمية للتحضير للأوبئة وأكدت أهمية التحليل الجينى للفيروسات لفهم تطورها، كما دفعت إلى ابتكارات كبيرة فى مجال التشخيص والفحص، مع التركيز على الحاجة الملحة للكشف المبكر وعزل الحالات لمنع الانتشار. ونتيجة لذلك، شهدنا زيادة كبيرة فى تطوير تقنيات التشخيص الجزيئى المختلفة، بما فى ذلك ابتكارات مثل اختبارات الفحص المنزلى. ■ د. هبة مصطفى في السفارة المصرية بواشنطن ◄ إلى أي مدى ساهمت الجائحة في تسريع تطوير تقنيات التشخيص الجزيئي عالميًا؟ تم بالفعل تسريع الابتكارات فى هذا المجال بشكل غير مسبوق، ففى وقت قصير ظهرت اختبارات تعتمد على تقنيات جزيئية متنوعة، مثل التضخيم الحرارى المتساوى (طريقة سريعة لتكثير المادة الوراثية دون الحاجة لأجهزة معقدة)، وتقنية البلمرة المتسلسلة PCR (اختبار يضاعف المادة الوراثية لكشف الفيروس بدقة عالية)، إضافة إلى طرق التشخيص المعتمدة على التسلسل الجينى (قراءة الشفرة الوراثية للفيروس للتعرّف عليه بدقة). والأهم من ذلك، شهدت هذه الفترة ظهور أول اختبارات تشخيص جزيئى للاستخدام المنزلى (اختبارات يمكن للشخص إجراؤها بنفسه دون مختبر). ■ د. هبة مصطفى خلال مشاركتها في مؤتمر طبي بجنوب أفريقيا ◄ تقودين جهود تطوير طرق دقيقة وسريعة للكشف عن الفيروسات، ما أكثر التقنيات الواعدة في هذا المجال اليوم؟ لا تزال طرق PCR تهيمن على مجال التشخيص الطبى، لكن فى المقابل تظهر تقنيات أخرى جديدة قد تكون أقل كُلفة وأسهل استخدامًا فى الأماكن ذات الإمكانات المحدودة، ومن بين هذه التقنيات، تبرز طرق التضخيم الحرارى المتساوى، خصوصًا تلك المخصصة للاختبارات المنزلية، حيث إنها حسّنت من سهولة الوصول للاختبارات ودقتها، وتعد واعدة لتطبيقات تشخيصية أوسع. كما أن الأساليب المعتمدة على التسلسل الجزيئى المكتفٍ بذاته تكتسب رواجًا لتحديد الحالات المعقدة أو غير النمطية. علاوة على ذلك، تتقدم الأساليب التى تهدف لتسريع التشخيص وتقليل معدلات الإصابة الحادة بالمرض والوفاة، بينما أحدثت الأتمتة والذكاء الاصطناعي ثورة فى علم الميكروبيولوجيا الطبية، مع ظهور النماذج التنبؤية كأداة قوية لتوقع النتائج السريرية ومسار الإصابة لدى المرضى. ■ الدكتورة هبة مصطفى مع فريق الأبحاث في مختبر الفيروسات ◄اقرأ أيضًا | كيفية تقليل فرص إصابتك بفيروسات الجهاز التنفسي هذا الشتاء ◄ من وجهة نظرك، أي الفيروسات تشكل أكبر التحديات العلمية حاليًا، وما الذي يجعل دراستها معقدة؟ لطالما شكّلت الفيروسات ذات الحمض النووى الريبى RNA (نوع من الفيروسات سريع التحوّر لأن مادته الوراثية أقل استقرارًا) تحديًا كبيرًا، بسبب تنوّعها الجينى الهائل وقدرتها السريعة على التطوّر. ومن أمثلتها فيروسات الإنفلونزا وفيروسات كورونا، المعروف منذ عقود قدرتها على التسبب فى حدوث جوائح. كما تعد الفيروسات القادرة على إحداث تفشٍّ عالمى والانتقال عبر الجهاز التنفسى الأكثر إثارة للقلق، لأنها أصعب بكثير فى الاحتواء ويمكن أن تنتشر سريعًا مثلما رأينا بوضوح خلال جائحة «كوفيد-19». وإلى جانب هذه الفيروسات، هناك أخرى لا تزال تمثّل تهديدات صحية عالمية خطيرة، سواء لأنها تسبّب أعباء مرضية مستمرة مثل فيروس التهاب الكبد الوبائى (فيروس C) وفيروس نقص المناعة البشرى (الإيدز)، أو لأنها تؤدى إلى تفشّيات ذات معدلات وفاة مرتفعة فى مناطق محددة مثل فيروسات إيبولا وماربورج. ومن المهم هنا التذكير بأن عالم الأمراض المعدية لا يعترف بالحدود الجغرافية، إذ يمكن أن تنتقل العدوى سريعًا من مكان إلى آخر. وقد لخّص الطبيب والباحث الأمريكى المتخصص فى الأمراض المعدية دانيال جريفين هذه الحقيقة بمقولته الشهيرة: «لا أحد فى أمان ما لم يكن الجميع فى أمان». ■ أثناء حصولها على جائزة خاصة بأبحاث كوفيد 19 ◄ ما الدور الذي يمكن أن تلعبه مصر في دعم أبحاث علم الفيروسات والتشخيص الجزيئي؟ وهل ترين إمكانية التعاون المباشر مع المؤسسات البحثية المصرية؟ من وجهة نظرى تمتلك مصر قدرات قوية فيما يتعلق بالبحث العلمى، فقد استثمرت الدولة فى مؤسسات مبتكرة وتمتلك الموارد اللازمة لإجراء أبحاث متقدمة. كما أن التنوع السكانى فى مصر والتفاعل الوثيق بين البشر والحيوانات والطيور يشكل فرصة فريدة لدراسة انتقال الأمراض ذات المنشأ الحيوانى وفهم العلاقة التفاعلية بين الإنسان والحيوان فيما يخص الأمراض الفيروسية. إلى جانب ذلك، فإن الخصائص المناعية المميزة للسكان (أى نمط الاستجابة المناعية المتشكّل عبر التاريخ بفعل التعرض لمسببات أمراض مختلفة) تجعل من مصر بيئة مثالية لدراسة كيفية تطوّر المرض داخل الجسم (pathogenesis) وطبيعة الاستجابات المناعية. علاوة على ذلك، فإن تقبل السكان فى مصر للتطعيم تاريخيًا يجعل الدراسات المتعلقة باللقاحات ذات قيمة خاصة عند إجرائها على مجموعات بحثية من المتطوعين أو المرضى. وبوجه عام، يمكن أن تكون فرص التعاون وتبادل المعرفة مثمرة للغاية، بدءًا من برامج التدريب المتبادل وصولًا إلى مشاريع بحثية منظمة ومتعددة التخصصات تجمع بين خبرات مختلفة. ◄ كونك عالمة مصرية تعملين في بيئة بحثية عالمية، ما الذي ترين أنه ينقص المنظومة العلمية في مصر؟ وما الدروس التي يمكن الاستفادة بها من النموذج الأمريكي؟ من وجهة نظرى يجب إدخال مفاهيم البحث العلمى فى كل الجامعات والكليات، فالطلاب بحاجة إلى التفكير خارج نطاق المناهج الدراسية، وتعلم كيفية صياغة أسئلة بحثية وتطوير طرق للإجابة عنها. ومن الضرورى أيضًا مناقشة الأبحاث المنشورة عبر جلسات تدريبية يقرأ فيها الطلاب دراسة علمية ثم يناقشون منهجيتها ونتائجها، إذ ينبغى لكل الطلاب تعلُّم كيفية قراءة وتحليل ونقد الأدبيات العلمية. ولا يجب أن تكون هذه النماذج مكثفة أو معقدة، بل يمكن تقديمها على شكل صفوف تقوم على المشاركة فقط دون ربطها بالحصول على درجات، فهذا الأمر مهم للغاية فى تشكيل طريقة تفكير الخريجين الجدد تجاه العلم والابتكار وفهم المشهد البحثى عالميًا. ◄ كيف توازنين بين طبيعة عملك البحثي المرهق وحياتك العائلية؟ وكم مرة تزورين مصر سنويًا وتتواصلين مع العلماء المصريين؟ غالبًا ما يكون العمل مكثفًا جدًا، وتحقيق هذا التوازن كان تحديًا، لكن ترتيب الأولويات ساعدنى كثيرًا، أحاول زيارة عائلتى مرة كل عامين على الأقل، وأتمنى أن أتمكن من تكرار الزيارة بوتيرة أعلى، كما آمل أن أتواصل أكثر مع العلماء المصريين وأن أعمل على تعزيز التعاون مع المؤسسات البحثية فى مصر. وقد قمت بالفعل باستضافة طلاب طب من مصر للمشاركة فى فترات تدريب بحثى وسأواصل دعم مثل هذه الفرص وتسهيلها كلما أمكن. ◄ ما الرسالة التى تودين توجيهها لشباب الباحثين المصريين الذين يطمحون للعمل في مؤسسات دولية رائدة؟ أعتقد أنه من المهم التركيز والعمل الجاد وعدم الاستسلام، ومن الضرورى جمع المعلومات عن الفرص المتاحة المختلفة وفهم متطلبات كل برنامج، أقول لكل باحث يجب أن يكون لديك خطة واضحة لتلبية هذه المتطلبات، وأن تبنى شبكة علاقات، ولا تتردد فى طرح الأسئلة، والأهم من ذلك هو الحفاظ على التفاؤل والثقة بقدراتك. ◄ ما الذي ألهمك فى بداية مسيرتك للتخصص في علم الفيروسات؟ عندما كنت أدرس فى كلية الطب كانت مصر تمر بأزمة فيروس التهاب الكبد الوبائى (C)، وكان الكثير من الناس مصابين دون أن يعرفوا، ولن أنسى شابة قابلتها أثناء تدريبى العملى كانت تعانى من مرض كبدى فى مرحلته الأخيرة، ولم يكن لها أى تاريخ مرضى سوى زيارتها لطبيب الأسنان، وهذه التجربة ألهمتني للتخصص فى علم الفيروسات وزادت من شغفى بالأمراض المعدية. ◄ كيف تصفين رحلتك من الدراسة فى مصر إلى العمل بإحدى الجامعات البحثية الرائدة عالميًا؟ أصفها بأنها رحلة مزدحمة، مليئة بالتحديات، مرهقة، ممتعة، غنية ومجزية.. أنا ممتنة لكل لحظة ولكل الفرص التى حظيت بها. وفيما يتعلق بالدراسة فى مصر فقد وفّرت لى الأساس والبنية اللازمة لمسيرتى المهنية. كما أن دراسة الطب منحتنى خلفية قوية وعلمتنى التفكير بطريقة منهجية، فهو علم يفتح الآفاق ومثير للاهتمام. أما التعلم فى الولاياتالمتحدة فكان تجربة مختلفة تمامًا، فقد تعلّمت كيفية إجراء الأبحاث، وكتابة طلبات تمويل المشاريع البحثية (المِنَح) والأوراق العلمية، والعمل فى إطار تعاونى ضمن فريق متعدد التخصصات.