بمناسبة إعداد التعديلات الدستورية أو الدستور الجديد الذى تعمل لجنة التعديلات الدستورية على إنجازه هذه الأيام كثر الحديث، خاصة من حزب النور، عن مواد الهوية. وبدا وكأن الأمر حرص وتوجس من جانب حزب النور على مواد الهوية المصرية -التى يعتبر نفسه حارساً لها- وكأن مصر الدولة بتاريخها الذى يمتد لأكثر من سبعة آلاف عام تنتظر اليوم حزب النور -الذى لم يكمل ثلاث سنوات على تأسيسه- ليحدد هويتها، وهذا بطبيعة الحال أمر مستفز، فهل يتصور حزب النور ومن هم على خلفيته من مرجعية دينية أن الشعب المصرى لم يكن يعرف هويته قبل دخولهم عالم السياسة؟ فلم تكن السياسة أبداً هى العنصر المهيمن والمهم فى تشكيل هوية مصر والمصريين على مدى قرون طويلة، وإنما كانت القواسم المشتركة ووحدة الوطن وتجانس أفراد الشعب وعيشهم بآمال وآلام واحدة وثقافة وحضارة بمرجعية مؤمنة بالدين، سواء الإسلامى أو المسيحى، هى العناصر التى صنعت تشكيل الهوية المصرية. يدل على ذلك أنه فى عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضى كان المصريون، على اختلاف انتماءاتهم الحزبية والدينية، يقفون يداً واحدة فى مواجهة الاحتلال الإنجليزى، وكان ذلك حتى قبل أن تنشأ جماعة الإخوان المسلمين عام 1928 والتى لم تكن تستطيع مقاومة هذا السياق الوطنى وطرح بديل للهوية المصرية المتمثلة فى الدولة الوطنية ذات الخصوصية الثقافية والتاريخية والسماحة الدينية. وبعد انتشار الدعوة لجماعة الإخوان المسلمين بدا اختلاف فى تصورهم ترتيب أهمية الهوية، فقد تربت هذه الجماعة وما تفرع عنها من تنظيمات على وجود تعارض بين الولاء للدولة الوطنية وبين مفهومهم لصحيح الدين الإسلامى، بل وذهب الغلوّ ببعضهم إلى تصوُّر أن الدولة الوطنية هى عدو للعقيدة والشريعة الإسلامية! وحين تمكن الإخوان من حكم مصر صاغوا تصورهم للهوية سياسياً على النحو الذى يصطدم ويتعارض مع مفهوم الهوية المصرية الراسخ فى وجدان غالبية المصريين والقائم على تمسكهم بوحدتهم وتعايشهم فى حالة من السلام الاجتماعى والتسامح الدينى. وهذه الهوية المصرية هى التى انتفضت ودافعت عن نفسها فى ثورة 25 يناير ضد ممارسات الدولة الاستبدادية التى فشلت سياسياً واقتصادياً واستشرى فى عهدها الفساد، ونُذكّر بأن هذه الدولة الفاشية كانت تعقد الصفقات مع الإخوان ومَن فى فلكهم من جماعات الإسلام السياسى للحفاظ على كراسى الحكم، وبعد نجاح ثورة 25 يناير بإسقاط النظام الاستبدادى لمبارك ونظامه استطاع الإخوان وما يسمى بتيار الإسلام السياسى أن يركبوا الثورة ويستولوا على ثمارها بخداعهم للجميع. وفى تصورى أن ثورة الشعب فى 30 يونيو لم تكن ضد فشل الإخوان فى إدارة شئون الدولة وإخفاقاتهم السياسية والاقتصادية فحسب، وإنما كانت فى المقام الأول ضد محاولاتهم تغيير الهوية المصرية وصبغها -كذباً- بصبغة دينية تحقق لهم الاستمرار فى الحكم لعقود طويلة. فقد تأكد لدى المصريين أن هواجسهم من جماعة الإخوان وتياراتها السياسية -وإن اختلفت أسماؤها- عن رغبة الإخوان فى تغيير الهوية المصرية كانت فى محلها، وأن حكام مصر الجدد عازمون على تغيير الهوية المصرية الراسخة فى وجدان وعقل غالبية الشعب المصرى، فانتفض الشعب فى 30 /6، و3 / 7، و26 / 7 لإزاحتهم عن الحكم والعودة بمصر الوطن إلى هويتها الراسخة. ويخطئ من يفصل بين ثورتى 25 يناير و30 يونيو، لأن المصريين لن يقبلوا بعد هاتين الثورتين بحاكم مستبد يتصرف فى البلاد وأراضيها ومواطنيها كملكية خاصة، وكذلك لن يقبل بإخوان أو إسلاميين يعتقدون ويعملون على ترسيخ عوامل الفرقة والتناحر والاحتراب بين أبناء الوطن الواحد وإن اختلفت دياناتهم أو معتقداتهم السياسية، وذلك باستخدام خطاب مخادع فى ظاهره الحفاظ على الدين والقيم وباطنه وحقيقته التمكين من الحكم والتحكم فى الوطن والشعب. الهوية المصرية لا يدافع عنها إلا غالبية الشعب، الهوية المصرية التى أنتجت بيئتُها الحضارة التى أبهرت العالم وتاريخها الذى يدرس للأطفال والطلاب فى معظم أنحاء العالم، مصر الشامخة بإسلامها الصحيح المتسامح والمتحضر، مصر التى أنجبت العلماء والمبدعين والفنانين والأدباء، مصر صاحبة الإبداع الثقافى والأدبى والعلمى والفنى، مصر بمسلميها ومسيحييها التى كانت القوة الناعمة فى الشرق بل كانت تاج الشرق هل يأتى عليها زمن أغبر تعس يتصور فيها نفر قليل منهم أنهم الحراس على الهوية المصرية؟ إننى أحذر من المساس بالهوية المصرية القائمة على المواطنة والمساواة وخضوع كل أبناء مصر للقانون دون تفرقة أو تمييز على أساس دينى أو عرقى، وأن يكون الدين لله والوطن للجميع. وتحذيرى ينبع من ويستند إلى إرادة غالبية الشعب المصرى الذى لن يسمح لكائن من كان أن يستبيح أو يحاول تغيير هويته ولو بالاستخدام المضلل للدين، لأن الدين السمح متعمق فى النفوس من مئات السنين، والمصرى المسلم أو المسيحى متدين بطبعه، فالدين كان قبل الإخوان وقبل السلفيين وسيظل الشعب على إيمانه إلى أن تقوم الساعة، وعلى الأحزاب التى تدّعى محافظتها على الهوية الإسلامية أن تعلم أن الشعب وحده هو من سيحافظ على هذه الهوية.