كان لابد للحادثة أن تحدث وللواقعة أن تقع، فتلك هي النتائج التي تسبقها أسبابها. فانفجر العنف الديني، ومعه حالة من الاحتقان الديني المزمن، بين المسلمين والمسيحيين في مصر، وكانت تلك هي النتيجة التي سبقتها أحداث مهدت لها. ورغم تداخل الأحداث التي صنعت لحظة الأزمة، إلا إن بعضها مثل عصب تلك الأزمة. فما الذي يدخل جماعتين في أزمة، أليست هي مرحلة إعادة التفكير في الهوية. فعندما يقبل مجتمع على إعادة التفكير في هويته، وينحي جانبا الهوية الجامعة له، والتي مارس من خلالها عيشه المشترك عقودا وقرونا، هنا يصبح المجتمع بصدد البحث عن هوية جديدة، وكأنه ألغى دستور حياته السابق، وأصبح يبحث عن دستور جديد. وهنا تلغى المسلمات التي عرفها الجميع وأمن بها الجميع، ويبدأ المجتمع في البحث عن مسلمات جديدة. وفي أثناء رحلة البحث عن المسلمات الجديدة، والقواعد الجديدة، والهوية الجديدة، تختلف مسارات الجماعات داخل الوطن الواحد، فلم يعد الإطار الجامع لهم قائما، فالبحث يتم في خارج أي إطار، فيفتح الفضاء أمام كل التصورات، وكل الرؤى. ولم يكن لمرحلة البحث عن هوية جديدة من قائد يقود الجماعة المصرية، أو نظام سياسي يمثل إطارا حاكما للجماعة المصرية، ولم يكن هناك مشروع نضال تتأسس عليه عملية إعادة التفكير في الهوية. ولم يكن المجتمع بصدد إحداث تغير تاريخي في حياته، بل كانت النخبة الحاكمة هي التي تعيد التفكير في الهوية الجامعة للوطن، لأنها وجدت أن الهوية القائمة لا تحقق لها مصالحها، وأصبحت تبحث عن هوية تحقق مصالحها، وهوية تيسر لها ما تنوي القيام به. تلك كانت لحظة مهمة، فبعد هزيمة يونيو 67، أصبح المجتمع المصري يبحث عن هويته من الجديد، ويستعيد رابطه الديني، بعد أن فقد الثقة في المشروع القومي العربي. ولكن في تلك اللحظة جاء الرئيس الراحل أنور السادات، ليفتح الجدل حول الهوية بعد حرب أكتوبر، فلم تتحول الحرب إلى فرصة لاستعادة الهوية التاريخية للجماعة المصرية، وللأمة كلها، بل أصبحت مدخلا لتحقيق تسويات سياسية تحقق مصالح النخبة الحاكمة. وفتح باب الحوار حول الهوية، وبدأ الحديث عن الهوية المصرية المنقطعة الصلة بالهوية العربية والإسلامية، وبدأت مصر الرسمية تفصل نفسها عن محيطها العربي والإسلامي، وتبني لنفسها هوية قومية قطرية. وكان المجتمع المصري يمر بمرحلة البحث عن هويته الحضارية، ويحاول الخروج من أزمة الهزيمة. وهنا أصبحت كل جماعة تبحث عن هويتها، دون إطار جامع، بعد تراجع دور النظام السياسي في التعبير عن الجماهير، وعدم بروز أي حركة وطنية جامعة. تراجعت مصر الرسمية عن هويتها العربية الإسلامية، وفتحت الباب أمام الهوية المصرية المنفصلة عن المحيط العربي والإسلامي. فضاقت هوية مصر وانحصرت في حدودها، ولم يعد لها الامتداد التاريخي أو الجغرافي أو الحضاري. ولكن مصر الشعبية لم توافق على هذا المنحى، بل اتجهت نحو هويتها الإسلامية، تعيد بناء الإطار العربي الإسلامي المشكل للأمة الواحدة، وتعيد وصل ما انقطع من تاريخها. ولكن مصر الشعبية لم تكن كلها في طريق واحد. فقد تفرقت الطرق، وبدأت الجماهير المسلمة تسير في طريق إعادة بناء هويتها الحضارية الإسلامية، ولكن الجماهير المسيحية كانت تبني هويتها المصرية القومية القطرية. فقد تفرق مسار الجماعة المسلمة عن الجماعة المسيحية، وأصبحت الجماعة المسيحية تسير في طريق مصر الرسمية، وتنادي بالهوية المصرية القطرية المنقطعة الصلة بالهوية العربية والهوية الإسلامية. وأصبحت الجماعة المسيحية في مصر تبني هويتها ووعيها من داخل الكنيسة بمفردها، وليس بالشراكة مع أخوة الوطن. وسارت الجماعة المسلمة في طريق استعادة هويتها الإسلامية، ولم تكن الجماعة المسيحية تشاركها تلك اللحظة. وظل النظام الحاكم يبني الهوية التي يريدها، والتي تخلصه من التزامه العربي والإسلامي، وتمكنه من الوصول لحل منفرد مع الكيان الصهيوني. أما الجماعة المسيحية فكانت تبني هويتها داخل الكنيسة، ومالت إلى الهوية المصرية، وتوافق ذلك مع الاتجاه الرسمي للنظام السياسي. حتى أن المواجهة بين الدولة والكنيسة، تمثلت في قول السادات بأنه رئيس مسلم لدولة مسلمة. وكأنه تذكر الهوية المسلمة، حتى يقف يواجه الكنيسة. ولكن الأمور سارت في مسارها، رغم لحظات المواجهة، حتى باتت الجماعة المسيحية تعيش هويتها المصرية القطرية، وباتت الدولة المصرية محصورة في هويتها المصرية القطرية التي صنعتها النخبة الحاكمة لها. أما غالب المجتمع المصري، فذهب إلى هويته التاريخية الممتدة، يستعيد الهوية العربية الإسلامية، حتى يعيد بناء ذاته الحضارية من جديد، وقادت الحركة الإسلامية تلك اللحظة الفاصلة. وهكذا تم تفكيك الهوية العربية الإسلامية لمصر من قبل النخبة الحاكمة، وفتح باب تعريف الهوية المصرية، فعرفتها غالب الجماعة المسيحية بأنها مصرية قطرية خالصة، وعرفتها غالب الجماعة المسلمة، بأنها مصرية عربية إسلامية. ومادامت الهوية قد تم تعريفها من جديد، ومادامت مكونات الجماعة المصرية قد اختلفت حول التعريف، لذا تبدأ روابط الجماعة المصرية في التفكك، لأن رابطها قد أصبح موضع خلاف. فتماسك الجماعة الوطنية يقوم على توافقها على هويتها، وعندما تختلف الجماعة الوطنية على الهوية الجامعة لها، تتفكك. ولم يكن النظام الحاكم قادرا على مواجهة تلك المشكلة، لأنه ببساطة السبب الرئيس فيها، فقد غيرت النخبة الحاكمة هوية مصر، وجعلتها هوية قطرية قومية، وعضدت بذلك موقف الجماعة المسيحية، بل وأصبحت تحاول استقطاب الجماعة المسيحية لها، حتى تعضد موقفها أمام الحركات الإسلامية، وأمام الهوية العربية الإسلامية الجامعة. اختلفت مكونات الجماعة المصرية على الهوية، وتم زرع الهوية القومية القطرية، فتفككت الهوية الجامعة، وانفجر الاحتقان الديني. وستبقى حالة الاحتقان الديني وتتزايد، حتى تجتمع الجماعة المصرية على هويتها التاريخية الجامعة، وتتوافق مرة أخرى، وتستعيد حضارتها المشتركة، فتخرج من حالة الاحتقان الديني، وتوقف نزيف العنف.