انفجرت حالة العنف الديني بين المسلمين والمسيحيين منذ سنوات، وهي في تزايد مستمر. وكلما تزايدت معدلات حوادث العنف وتكررت بصورة مطردة، أصبحت حالة الاحتقان الديني مزمنة، ويصعب حلها أو التعامل معها. فالأحداث المتتالية ترسب حالة من البغض والتعصب العميق، مما يجعلها حالة مستمرة وقد تستقر لعدة سنوات، وربما عقود. فحالة الاحتقان الديني بدأت منذ عقود، ولم يتصد لها أحد، ولم يتم مواجهتها وعلاج آثارها الاجتماعية، وظلت مجرد حالة أمنية، يتم تغطيتها بالعناوين الأمنية الشائعة، فتبقي وكأنها حالة فردية لا تؤثر في النسيج الوطني. ولكن الأمر تجاوز مرحلة الحادث الفردي منذ سنوات طويلة، وأصبحنا أمام ظاهرة احتقان ديني مزمن، تشكل صورة سلبية من قبل كل طرف عن الآخر. فتتحول إلي حالة كراهية داخل مكونات الجماعة المصرية. فلقد تعمقت المشكلة إلي حد خطير، وأصبحت تمثل حالة تفكك مجتمعي حقيقي، لا يمكن التعامل معها أمنيا، ولا يمكن السكوت عليها طويلا. فالواقع الديني المأزوم معرض للتحول إلي حالة احتراب اجتماعي عميق، يؤثر في السلام الاجتماعي، ويهدد تاريخ التعايش المشترك. فقد أصبحنا علي أبواب المرحلة التي يتم فيها محو تاريخ التعايش بين المسلمين والمسيحيين في مصر، مما يهدد بفقدان ميراث التعايش الإيجابي، ويدخل المجتمع المصري في مرحلة من الصراع الاجتماعي المفتوح. والعنف الذي نواجهه ليس عنفا سياسيا، ولا يرتبط بتنظيمات سياسية، ولكنه عنف اجتماعي، يقوم به أفراد لا رابط بينهم، وفي أماكن متفرقة، ولأسباب متعددة. وهو بهذا شكل من أشكال العنف العشوائي، الذي لا يستند إلي أغراض محددة، بل يمثل حالة من الغضب والكراهية والتعصب، لا تعرف منطقًا ولا تعرف حدودًا. وكل حادث يحول الأوضاع إلي مرحلة أسوأ، لأن كل حادثة جديدة تعمق الخلاف والكراهية، وتعمق الإحساس بالخطر. فلا أحد يعرف أين تحدث الحادثة القادمة، ولا أحد يعرف من سيكون الضحية. فكل شخص قد يكون ضحية لحادثة قادمة، بل إن أي شخص قد يكون الفاعل في الحادثة القادمة. فهي موجات من الغضب التي تنفجر في لحظة لم يخطط لها أحد، فأي حادثة قد تكون شرارة لتفجر الموقف، وأي مواجهة قد تكون سببا في مواجهات تالية لها. والعنف الاجتماعي يحدث بسبب تصورات راسخة في ذهن العامة من الناس، تصورات تري في الآخر عدوا محتملا، أو تري فيه خصما. وتلك التصورات تسمح بإعادة تفسير أي حادثة علي أساس أنها عمل مقصود ضد الآخر، وأنها نوع من التعدي علي المجموع وعلي الجماعة. وبهذا يمكن لأي حادث عادي، أن يتحول إلي مواجهة مفتوحة بين الطرفين. فما قد يحدث بين شخصين، يتحول إلي معركة بين جماعتين. وتخرج الجماهير تدافع عن جماعتها ضد الجماعة الأخري، ويتحول المشهد إلي لقطة من حرب أهلية كامنة، يمنع حدوثها التوزيع الجغرافي للمسيحيين في مختلف أرجاء الوطن الجريح. الكثير يمكن أن يقال عن أسباب ما يحدث، لكنه في مجمله حالة من التفكك في علاقة المسلم بالمسيحي، وهي حالة تحول التفكك إلي تعصب وإلي كراهية، فيحدث التفرق الاجتماعي، وتضرب وحدة الجماعة الوطنية المصرية في مقتل. ويجب ألا يغيب عنا، أن المسيحيين في مصر أقلية عددية، وتلك الحوادث ذات تأثير عميق في الجماعات الأقل عددا، لأنها تثير في نفوسهم حالة الخوف العميق، ويتحول الخوف إلي فقدان الشعور بالأمان. وعندما يغيب الإحساس بالأمان، تحدث تحولات هائلة داخل الجماعة الأقل عددا، فهي تبدأ بالشعور بالغربة، وتحس أن الوطن لم يعد لها، وأنها أصبحت غريبة في أرضها، وهي الأرض الوحيدة التي عرفتها وطنا لها منذ قرون. والشعور بالخوف وفقدان الأمان، من جانب الجماعة قليلة العدد، يتحول إلي حالة غضب شديدة من الجماعة الأكثر عددا. لأن الأغلبية هي الأقوي في النهاية، وهي التي يمكن أن تمثل خطرا علي الأقلية العددية. لذا تشعر الجماعة الأقل عددا، بأنها تواجه موجة من الكراهية من جانب الجماعة الأكثر عددا، وفي كل الأحوال فإن نتائج المواجهة تمثل خسائر أكبر علي الطرف الأضعف، بسبب قلة عدده. لذا تتحول الجماعة الأقل عددا إلي حالة من الخوف المزمن، الذي يصعب علاجه مع الوقت. وهذا لا يعني أن المتسبب في تلك الحالة هو الفئة الأكثر عددا، فحالات الاحتراب الأهلي، تنتج من جملة من المواقف والتصورات الخاطئة، التي تنتشر بين جميع الفئات. والمشكلة الأصلية في الحالة التي وصلنا إليها، هي تلك التصورات الخاطئة التي تم نشرها بين المسلمين والمسيحيين منذ سبعينيات القرن العشرين، والتي تحولت مع مرور الوقت إلي تصورات راسخة، وكأنها حقائق لا تقبل الشك. وقد أدت هذه التصورات مع انتشارها، إلي ردم التصورات الإيجابية التي عاش عليها المجتمع المصري عقودا وقرونا، وأصبحت التصورات الإيجابية ذكري في عقول أجيال ترحل الآن، ولم تعد حاضرة في عقول الأجيال الجديدة، وهي الأكثر عددا. فغابت خبرة التعايش الإيجابي عن أجيال بكاملها، فكل من بلغ من العمر عقودا أربع، لم ير تلك الحالة من التعايش مجسدة في واقعه وفي مخيلته. ولم يعد بالإمكان الحديث عن إمكانية استعادة الخبرة المعاشة في الماضي، فقد تركت حالة العنف الديني عقودا، حتي محت الصورة الإيجابية من العقول. وأصبحنا أمام مشكلة تتمثل في سيادة تصورات سلبية لدي أجيال كاملة، لم تعرف غيرها، بل أصبحنا أمام مشكلة أكبر، فقد تم إعادة صياغة التاريخ بصورة سلبية، وأصبحنا أمام تصورات تري أن كل التاريخ كان سلبيا، مما يعني أننا أمام أزمة ليس لها حل في الواقع المعاش. وبهذا تتحول التصورات لدي الجماعة الأقل عددا، إلي حالة مركبة من الخوف وفقدان الأمل، وتتوجه تلك الجماعة إلي تصورات تري أهمية تغيير كل الواقع، وبناء واقع جديد. وكأن الواقع الحالي بكل ما يحمل، لا يعني إلا استمرار حالة العنف الديني. ومع تزايد حالات العنف، تبدأ الجماعة المسيحية في مصر النظر إلي واقعها باعتبار أنه واقع يهدد حياتها، وأنها مقبلة علي خطر يمس وجودها وبقاءها في وطنها مصر. وفي نفس الوقت، سنجد أن تصورات الجماعة المسلمة في مصر، تزايد فيها الشك في الجماعة المسيحية والنظر لها باعتبارها تحمل العداء للجماعة المسلمة، أو إلي الإسلام، أو أنها تستقوي بالعدو الخارجي. لهذا نجد الكل يعتبر نفسه ضحية، أيا كان الضحية الحقيقي الذي سالت دماؤه، وهنا مكمن الخطر. فكل التصورات سلبية، وكلها متعارضة، ولا يربطها رابط، غير سوء الظن المتبادل بين الطرفين. من المؤكد أن ليس الكل في حالة كراهية ويحمل تصورات سلبية عن الآخر، وهناك مساحة كبيرة مازالت موجودة لقيم العيش المشترك، وهناك مساحات بين المسلمين والمسيحيين من التعايش الإيجابي، ولكن تلك المساحات تتضاءل، وحالة الغضب والكراهية تتوسع في محيط الجماعة المصرية، ولم يعد من الممكن القول إن أساس العيش المشترك مازال قويا. فمصر الآن تواجه تحدي تفكك جماعاتها الوطنية، وهي بالفعل مقبلة علي خطر يهدد وحدتها الداخلية، وينذر بدخول مصر في حالة من العنف الديني المنفلت. وكلما تكررت أحداث العنف، أصبح العلاج أصعب. فعمق الجرح الوطني يزداد، والألم يتراكم، والحل أصبح بعيد المنال.