نشرة أخبار طقس اليوم 15 نوفمبر| الأرصاد تكشف تفاصيل أجواء الساعات المقبلة    عمرو سعد يطمئن الجمهور بعد حادث شقيقه أحمد: "الحمد لله بخير"    «رحيل المدفعجي».. وفاة محمد صبري لاعب الزمالك السابق تهز قلوب الجماهير    فلسطين.. جيش الاحتلال يعتقل 3 فلسطينيين من مخيم عسكر القديم    ترامب: سنجري اختبارات على أسلحة نووية مثل دول أخرى    العنف المدرسى    أحمد سعد يتعرض لحادث سير ويخضع لفحوصات عاجلة بالمستشفى    ترامب: أشعر بالحزن لرؤية ما حدث في أوروبا بسبب الهجرة    انفراد ل«آخرساعة» من قلب وادي السيليكون بأمريكا.. قناع ذكي يتحكم في أحلامك!    مناقشة رسالة دكتوراه بجامعة حلوان حول دور الرياضة في تعزيز الأمن القومي المصري    دعاء الفجر| اللهم ارزق كل مهموم بالفرج وافتح لي أبواب رزقك    قتلى ومصابون باقتحام حافلة لمحطة ركاب في إستكهولم بالسويد (فيديو)    مقتل 7 أشخاص وإصابة 27 إثر انفجار مركز شرطة جامو وكشمير    عضو جمهوري: الإغلاق الحكومي يُعد الأطول في تاريخ الولايات المتحدة    تفاصيل مشروعات السكنية والخدمية بحدائق أكتوبر    استقرار سعر الريال السعودي أمام الجنيه المصري خلال تعاملات السبت 15 نوفمبر 2025    مناوشات دعاية انتخابية بالبحيرة والفيوم.. الداخلية تكشف حقيقة الهتافات المتداولة وتضبط المحرضين    اشتباكات دعاية انتخابية بالبحيرة والفيوم.. الداخلية تكشف حقيقة الهتافات المتداولة وتضبط المحرضين    أموال المصريين غنيمة للعسكر .. غرق مطروح بالأمطار الموسمية يفضح إهدار 2.4 مليار جنيه في كورنيش 2 كم!    7 قتلى و27 مصابا في انفجار بمركز شرطة بالهند    مستشار الرئيس الفلسطيني: الطريق نحو السلام الحقيقي يمر عبر إقامة الدولة الفلسطينية    باحث في شؤون الأسرة يكشف مخاطر الصداقات غير المنضبطة بين الولد والبنت    جوائز برنامج دولة التلاوة.. 3.5 مليون جنيه الإجمالي (إنفوجراف)    عمرو عرفة يحتفل بزفاف ابنته بحضور ليلى علوي ومحمد ورامي إمام وحفيد الزعيم    "رقم واحد يا أنصاص" تضع محمد رمضان في ورطة.. تفاصيل    نانسي عجرم: شائعات الطلاق لا تتوقف منذ زواجي.. ولا أقبل أن أعيش غير سعيدة    هولندا تضع قدما في المونديال بالتعادل مع بولندا    فرنسا: 5 منصات تجارية تبيع منتجات غير مشروعة    سفير السودان بالاتحاد الأوروبي يشيد بالدور المصري ويشدد على وحدة السودان واستقراره    شتيجن يطرق باب الرحيل.. ضغوط ألمانية تدفع حارس برشلونة نحو الرحيل في يناير    صدمة في ريال مدريد.. فلورنتينو بيريز يتجه للتنحي    إلى موقعة الحسم.. ألمانيا تهزم لوكسمبورج قبل مواجهة سلوفاكيا على بطاقة التأهل    سيارة طائشة تدهس 3 طلاب أعلى طريق المقطم    عصام صفي الدين: السلوكيات السلبية بالمتاحف نتاج عقود من غياب التربية المتحفية    إبراهيم صلاح ل في الجول: أفضل اللعب أمام الأهلي عن الزمالك.. ونريد الوصول بعيدا في كأس مصر    مصر تبيع أذون خزانة محلية ب99 مليار جنيه في عطاء الخميس.. أعلى من المستهدف بنحو 24%    اليوم.. انقطاع الكهرباء عن 31 قرية وتوابعها بكفر الشيخ لصيانة 19 مغذيا    رئيس قناة السويس: تحسن ملحوظ في حركة الملاحة بالقناة    حسام حسن: هناك بعض الإيجابيات من الهزيمة أمام أوزبكستان    زعيم الثغر يحسم تأهله لنهائي دوري المرتبط لكرة السلة    إخماد حريق في مخبز وسوبر ماركت بالسويس    اليوم.. أولى جلسات استئناف المتهمين في حادث الطريق الإقليمي بالمنوفية    قائد الجيش الثالث: الدور التنموي يكمن في توفير البيئة الآمنة لتنفيذ المشروعات القومية    بيان من مستشفى الحسينية المركزي بالشرقية للرد على مزاعم حالات الوفيات الجماعية    رئيس الطب الوقائى: نوفر جميع التطعيمات حتى للاجئين فى منافذ الدخول لمصر    آخر تطورات الحالة الصحية لطبيب قنا المصاب بطلق ناري طائش    الباز: العزوف تحت شعار "القايمة واحدة" عوار يتحمله الجميع    تربية عين شمس تحتفي بالطلاب الوافدين    «الصحة» تنظم جلسة حول تمكين الشباب في صحة المجتمع    انطلاق برنامج دولة التلاوة عبر الفضائيات بالتعاون بين الأوقاف والمتحدة في تمام التاسعة    أذكار المساء: حصن يومي يحفظ القلب ويطمئن الروح    الائتلاف المصري لحقوق الإنسان: صعود المستقلين وتراجع المرأة في المرحلة الأولى لانتخابات النواب    تكافؤ الفرص بالشرقية تنفذ 9 ندوات توعوية لمناهضة العنف ضد المرأة    مؤتمر السكان والتنمية.. «الصحة» تناقش النظام الغذائي ونمط الحياة الصحي    صندوق "قادرون باختلاف" يشارك في مؤتمر السياحة الميسرة للأشخاص ذوي الإعاقة    الثلاثاء.. إعلان نتائج المرحلة الأولى وبدء الدعاية الامنخابية لجولة الإعادة    سنن التطيب وأثرها على تطهير النفس    سنن الاستماع لخطبة الجمعة وآداب المسجد – دليلك للخشوع والفائدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رغم أنف سلفيي مصر .. سيبقى نجيب محفوظ
نشر في صوت البلد يوم 08 - 12 - 2011


هذا هو إسلامكم، ونحن لنا إسلامنا
الحمد لله، نجا نجيب محفوظ هذه المرة. لن تستطيع يد أن تطوله وتطعنه بسكين مثلما حدث في المرة السابقة. قبل حوالي ربع قرن كفره أحد شيوخ السلفية الكبار وهو عمر عبدالرحمن المسجون الآن في أميركا، فجاء شاب أرعن لا يعرف من هو نجيب محفوظ، ولم يقرأ له حرفا كما اعترف هو بعد ذلك ليطبق "شرع الله" على الرجل "الكافر". طعنه بسكين في رقبته والرجل كان في الثمانينيات من عمره.
أما الآن، وبعد أن وصف دعاة السلفية أدب نجيب محفوظ بأنه أدب دعارة وحاض على الرذيلة، ثم غمزوا في دين الرجل وسيرته الذاتية، وهذا تراه في تعليقاتهم الكثيرة على الأخبار المتصلة بالرجل. فإنها دعوة أخرى للقتل. لكن نجيب محفوظ نجا. ترك لهم الأرض وما عليها ليلتحق بالرفيق الأعلى.
محظوظ هذا الرجل الذي مات قبل أن يرى هذا التغول والتوحش وهذه الغلظة في المشاعر والافتقاد إلى الحس الإنساني البسيط يسود وينمو ويحاول أن يستولي على الروح المصرية السمحة.
سيقولون هذا هو الإسلام وهذا هو شرع الله. وأقول ليس هذا هو الإسلام. بل هذا هو إسلامكم، ونحن لنا إسلامنا. إنكم تريدون أن تقدموا للعالم صورة كئيبة عن الإسلام. دين عنيف يكره معارضيه ويعرض حياتهم للخطر عند أول سوء فهم. ونحن نرى الإسلام دينا جميلا متسامحا حتى مع الكفار بله معارضيه.
اضطرونا إلى أن نؤكد لهم أننا لسنا أغيارا، أن اختلافنا لا يعني نفي كل منا للآخر وربما قتله. لسنا مسؤولين عن معاناتهم. لكنهم مصرون على أنه من ليس معنا فهو ضدنا، أو من ليس معنا فسندعو له بالهداية حتى يكون.
لقد قال الأخوان المسلمون إننا نحمل الخير لمصر، وأضاف مرشدهم بأنهم يحملون لنا الخير في الدنيا والآخرة، وهي عبارة خطيرة تخلط ما هو سياسي بما هو دعوي، وحين يكون السياسي في مركز قوة، فلا يمكن التنبؤ بأسلوبه في فرض آرائه التي تحمل خير الآخرة إلى الناس.
محظوظ هذا الرجل: نجيب محفوظ، ومحظوظ معه رجل بقيمة أسامة أنور عكاشة. تركا لهم الأرض يمرحون فيها حيث شاءوا، وغادرا إلى الملأ الأعلى. لن يسمعا بعد الآن أحاديث عن ضرورة التمسك بهوية مصر الإسلامية، ولن يشاهدا مليونيات تحت شعار "جمعة الهوية". رأى الرجلان أن هوية مصر لا يمكن اختزالها في دين واحد ولا حقبة واحدة. ومثل الرجلان في إبداعهما وشخصيهما على السواء صورة للهوية المصرية المعتدلة في تدينها، المرحة في حضورها، ذات الألق الإنساني في تعاملها مع المختلفين معها. هوية تجمع خلاصة تاريخ المصريين في بوتقة واحدة لتخرجه روحا جميلة لطيفة متسامحة مقبلة على الحياة تهفو فتستغفر الله على هفوتها، وتجرم فتبكي وتتضرع، ولا تنقطع هفواتها ولا استغفاراتها.
لكنا الآن نسمع حديثا عجبا عن هوية مصر التي يراد لها أن تختزل في بعدين لا ثالث لهما: أنها إسلامية عربية. لعل أكثر المطنطنين بحديث الهوية هو حزب النور السلفي القادم بقوة من المجهول ليحتل جزءا مهما من صدارة المشهد السياسي في مصر. لا أفتئت عليه حين أصف أحاديث المنتسبين لهذا الحزب عن الهوية بالطنطنة، ولا أفتئت أيضا حين تكون الطنطنة وصفا لما قاله برنامج الحزب عن "الثقافة والهوية".
بدت الهوية في أحاديثهم مفهوما جامدا متصلبا متعاليا على الزمان والمكان، بدت مفهوما مطلقا لا يخضع للتغير ولا يقبله. وخلطت عن جهل أو عن عمد (لا أدري) بين مفاهيم متشابكة للهوية لا يمكن لها أن تعرض بمثل هذه السذاجة التي ظهرت في برنامجهم أو في أحاديثهم المرسلة. لا يمكن تجاوز موضوع الهوية إلى مناقشة تفاصيل برنامجهم الذي يبدو خليطا من كل شيء.
رأى حزب النور أن (قضية الهوية قضية محورية لا بد من الاهتمام بها والتركيز عليها)، لذلك وضعها في صدارة برنامجه الحزبي. وانطلق في كل حديثه عنها من مسلمة ظهرت في ثنايا الكلام. "فالهوية المصرية هي الهوية الإسلامية العربية بحكم عقيدة ودين الغالبية العظمى من أهلها، واعتماداً على أن اللغة العربية هي لغة أهلها"، في هذه الجملة لا يعترف حزب النور بالتنوع الديني ولا العرقي ولا التتابع التاريخي الذي تشكلت منه الهوية المصرية: لا يعترف بالمسيحيين حين يماهي بين الهوية المصرية والهوية الإسلامية، ولا يعترف بالنوبيين حين يستبعد لغتهم من موضوع الهوية، ولا يعترف بالفترة الفرعونية التي يرى بعض دعاتها أن حضارتها حضارة نجسة. وهذه الجملة وحدها تكفي لوسم حزب النور بأنه حزب عنصري.
على أن حديث الهوية يجب أن يوضع في مسار آخر غير مسار حزب النور. ويجب أن يناقش مناقشة عميقة مع علمي أن صياغة البرنامج الحزبي لا تحتمل بطبيعتها مثل هذه المناقشات، لكنا نتصور أن من قدموا الصياغة الأخيرة للبرنامج ناقشوا المفاهيم الأساسية التي يقوم عليها البرنامج مناقشة علمية مستفيضة، ثم خلصوا إلى صياغات محددة لكل هذه المفاهيم. فهل فعلت ذلك قيادات حزب النور؟ لا أظن ذلك، والدليل هذه السطحية الشديدة في تصورهم للهوية المصرية على نحو ما جاء في برنامجهم. ولقد كتبت منذ ثماني سنوات بحثا عن موضوع الهوية نشرت مقتطفات منه في بعض الصحف، وها أنا ذا أعيد أهم ما فيه، وأضعه الآن للمقارنة بينه وبين أطروحات هذا الحزب.
هناك سؤالان أساسيان يطرحان حول الهوية: من أنا؟ وإجابته بحث في الهوية الشخصية، وماذا أنا؟ وهو سؤال يبحث في هوية الأمة أو المجتمع، سؤالان قديمان قدم الإنسان ذاته، نجد آثاراً لهما في الكتب المقدسة، وحتى في النقوش والآثار التي خلفها الإنسان الأول.
كما أنهما سؤلان مربكان، والإجابة عنهما قد تكون مبتذلة عادية كما يقول برنارد ويليامز في بحثه عن الهوية والهويات، وقد تكون شديدة التشابك والتعقيد.
فيما يخص الهوية الشخصية، فإنها ترتكز على محورين أساسيين لا يمكن أن تتشكل بدونهما، محور رأسي هو التطابق، ومحور أفقي هو الاختلاف، والتطابق يعني أن الشخص في زمن ما يظل هو الشخص نفسه في زمن تال، والمنطقيون يعرفون الهوية من هذا المنظور على أنها علاقة تعادلية ذات أبعاد ثلاثة: متعدية (فلو أن أ يشبه ب، وب يشبه ج، فإن أ يشبه ج) أو متماثلة (لو أن أ يشبه ب، فإن ب يشبه أ) أو منعكسة على نفسها (كل شيء يشبه نفسه)، والاختلاف يعني بداهة أن هوية الشخص تختلف عن هوية غيره من الناس، وإلا كنا نتحدث عن الشخص نفسه، وهذا الأمر ينطبق أيضاً على التجمعات البشرية، فهل تصبح فكرتا الهوية والتغير متعارضتين؟
بمعنى: لو أن هناك شيئاً يتغير، فإنه لن يصبح الشيء نفسه الذي كان. لكن أرسطو يقول إن الشجرة تظل هي هي برغم أنها تستبدل كل أوراقها، وفي دراسات الهوية هناك سفينة ثيسوس ذلك الرجل الذي ظل يستبدل ألواحاً جديدة بأخرى قديمة من السفينة. تغيرت كل ألواح السفينة، لكن السفينة ظلت كما هي. لكن مثال السفينة يطرح إشكالية أخرى، فلو نقلناها إلى الشاطئ وجعلناها مطعماً عائماً، أو متحفاً بحرياً، هل تظل هويتها كسفينة كما هي؟
لكن إذا لم يكن الشكل هو مفتاح الهوية، فما مفتاحها إذن؟ هناك جدل طويل بين الفلاسفة المحدثين حول هذه النقطة، جون لوك مثلاً يرى أن هوية الشخص المستقرة عبر الزمن ترتبط بالذاكرة والقدرة على التذكر. ثم يحدد أسلوبين للتذكر هما (التذكر من الخارج) وهو الشيء المشترك بين البشر مثل تذكر الحوادث التاريخية، أو حاصل ضرب الأعداد، و(التذكر من الداخل) أي أن يتذكر الإنسان مجمل تاريخه الشخصي بمستوياته المختلفة، وهو الذي يرتبط بالفرد ويمارس عليه التأثير الأكبر. وقد ناقش لوك أيضاً موضوع فقدان الذاكرة ومدى تأثيرها على هوية الشخص نفسه، كذلك ربط الهوية بالمتواصل السيكولوجي Psychological continuity الذي يعرفه ديريك بارفيت بأنه ميل الفرد إلى إنشاء علاقات سيكولوجية مختلفة بين الحالات العقلية والحوادث مثل العلاقات الموجودة في الذاكرة أو في استمرار المقاصد والرغبات وسائر السمات السيكولوجية الأخرى.
لكن بارفيت لا يكتفي بالمتواصل السيكولوجي، بأن يضيف إليه أيضاً ما يسميه المتواصل الفيزيائي، والاثنان معاً ًيفسران وحدة الحياة العقلية للفرد، ويجعلان الأفكار والخبرات التي تحدث في أوقات مختلفة هي خبرات الفرد نفسه وأفكاره.
وطرح ريتشارد سوينبورن في بحثه عن النظرية المزدوجة للهوية الشخصية (مصطلح) وحدة الوعي ليفسر به استمرارية الهوية، ووجد أن المصطلح المفيد في هذا الصدد ما طرحه برتراند راسل Copersonal ورأى أن مجموعة العقائد والأفكار التي يشكلها الفرد عن الحياة وعن الناس من حوله تعد أحد محددات الهوية الشخصية.
جانب آخر في الهوية الشخصية يرتبط بالطريقة التي تُدرك بها، وكما يقول برنارد ويليامز: هناك هوية أكون فيها تختلف عن الهوية التي أعرفها عن نفسي وعن الهوية التي يعرفها الآخرون عني. هو يرى أن هذا الخلاف هو جوهر الخلاف في العالم كله. هذا يعني أن مفهوم الهوية سيال سواء في مستويات الإدراك، أو في علاقتها بالتغير، ومع الأخذ في الاعتبار ارتباط الهوية بالذاكرة الواضحة أو وحدة الوعي أو المتواصل الفيزيائي السيكولوجي، أو غير ذلك مما فسر به الفلاسفة المعاصرون الهوية، فإن هناك جوانب فيها لا تقبل التغير، وجوانب أخرى تقبله بدرجات متفاوتة.. ما لا يقبل التغير لون البشرة ومكان الولادة والانتماء إلى جماعة عرقية معينة ووحدة الوعي، وماضي الشخص بوصفه أحد العوامل المؤثرة على الهوية. وأما اسم الشخص ونمط الأزياء التي يرتديها وحتى معتقداته وأفكاره حول الناس والعالم، فإنها قابلة للتغير دوماً. إننا يمكن أن نقول إن الإنسان يتميز عن كل هذا، بل يتميز عن جسده نفسه، وعن سلسلة الحوادث العقلية التي تحدث له، لكن لا يمكن تصور الإنسان ككيان منفصل مستقل. فإذا لم يمكن الوصول إلى كينونة الإنسان إلا من خلال جسده وسائر الحوادث العقلية والأمور الأخرى السابقة، فإن وسائل الوصول إلى الكينونة تعد جزءاً منها. هذا عن الهوية الشخصية التي تواجه العالم كله بمن فيهم الناس الذين يعيشون معك في المجتمع نفسه. أما الهوية القومية فإنها مفهوم كلي يظهر في مواجهة الآخر.
وإذا افترضنا أن الآخر هو الغرب، فإن الهوية الشخصية لا تواجه وحدها الغرب، بل تواجهه أيضاً الهوية القومية، وربما تكون هذه الأخيرة هي المعنية بالحديث عن الصراع المفترض بين العولمة والهوية، لكن الهوية القومية لا تتشكَّل في فراغ، إنها في نهاية الأمر مزيج مركب من آحاد الناس، وكل واحد من هؤلاء له هويته الخاصة، لكن هذا المزيج ليس مزيجاً كمياً أو إحصائياً، إنه مجموعة سيالة من العمليات والأبعاد التي تخلق عبر الزمن معنى المجتمع القومي أو الأمة.
والأساس الذي ترتكز عليه الهوية القومية هو العرقيات. وهناك ثلاثة أنواع من العرقيات: عرقيات لغوية كما في أوروبا، وعرقيات دينية كاليهود والأرمن والسيخ، وعرقيات سياسية كنموذج مصر الذي يُعد أكثر دلالة وأهمية من غيره، وتتحدد سمات العرقيات في ستة عناصر.
1- اسم جامع يفرد المجتمع، ويميِّزه عن غيره.
2- أسطورة الأصل المشترك الذي يربط أعضاء المجتمع بجد واحد ومكان ولادة واحد.
3- تاريخ عرقي مشترك: أو الذاكرة المشتركة التي تتوالى على أجيال المجتمع.
4- سمة ثقافية مشتركة أو أكثر من سمة تساعد على تمييز أعضاء الجماعة عن غيرهم مثل اللون أو اللغة أو الملابس أو الدين.
5- ارتباط بالمكان التاريخي أو أرض الوطن حتى ولو لم يعش فيه عضو الجماعة كثيراً.
6- إحساس بالتكافل بين أعضاء الجماعة، أو حتى داخل جزء من هذه الجماعة.
كما أن هناك عناصر ثقافية أساسية تدعم الهوية، وتحافظ على استمراريتها مثل: الرموز والقيم والذاكرة والأساطير والتقاليد، وأهم ما تعطيه الهوية:
1- إحساس بالثبات والتجذُّر.
2- إحساس بالاختلاف والتميُّز والانفصال لهذه الهوية عن غيرها.
3- إحساس بالاتصال مع الأجيال السابقة من خلال الذاكرة والتقاليد والأساطير.
4- إحساس بالقدرية والآمال المشتركة والإلهام الواحد لهذه الجماعة.
ماذا يعني كل هذا؟ يعني ببساطة صعوبة اختزال مفهوم الهوية في بعدي الدين واللغة إلا إذا كان المراد من وراء تكريس هذا المفهوم بعدا دعويا يرى الناس في ضلال، ويطالبهم بالعودة إلى دينهم من خلال شعار التمسك بالهوية.
إن الهوية ليست مفهوما ثابتا كليا ولا حتى مفهوما بسيطا. إن فيها أجزاء تتساقط عبر الزمن، وأجزاء صامدة، وأجزاء يعاد تشكيلها. فماعلاقة الهوية الشخصية أو القومية بالتغيُّر؟ هل يمكن استنباط قوانين واحدة تفسر الطريقة التي يتغيَّر بها شكلا الهوية؟ ليس من المستطاع تفسير الطريقة التي تتغيَّر بها الهوية الشخصية، فإضافة إلى أنه من غير الممكن إحداث تغيير كامل في هذه الهوية، فإن الجزء القابل فيها للتغيُّر يخضع لشبكة شديدة التداخل من العوامل النفسية والاجتماعية والعقلية واللاعقلية التي تدفع به إلى هذا الشكل أو ذاك. لكن المشكلة الأساسية أن سلامة الإنسان النفسية ترتبط بالطريقة التي يتعايش بها جانبا الهوية: الجانب الثابت فيها والجانب المتغير. ذلك أن الانسجام بينهما ضروري جداً في هذه الحالة، وإذا حدث أن دخلت في الجانب القابل للتغيير عناصر ليست من جنسه، أو عناصر ليست قادرة على التكيُّف مع باقي الأجزاء فإن صراعاً حاداً سيحدث، وينتج هذا الصراع أحد احتمالين : إما أن بقية أجزاء الهوية تتكاتف للفظ العنصر الجديد الطارىء، أو إذا لم تستطع وظل هذا العنصر موجوداً لسبب أو لآخر، فإن نوعاً من الانشطار يصيب الهوية، ولن تصبح قادرة على الفعل يختلف الأمر قليلاً في حالة الهوية القومية، فإن تغييرات الهوية تتم من خلال النظام السياسي أو الاقتصادي، ومن خلال التشريعات التي تصدرها الدولة، فلا يمكن تصور أن التغييرات في الأنظمة السياسية أو الاقتصادية تحدث في فراغ، أو لا تؤثر على هوية الأمة، وبخاصة إذا لم تكن هذه التغيُّرات ثمرة تفاعل اجتماعي طبيعي.. إن التشريعات التي تصدرها الدولة في أي مجال مقصود بها إعادة تنظيم العلاقات بين أفراد المجتمع على نحو تريده، مثل هذه العلاقات الجديدة تحدث تأثيرها على الأفراد، وتعيد تشكيل رؤاهم، وهذا يؤثر على هويتهم.
إذا عدنا مرة أخرى إلى حديث حزب النور عن الهوية والسذاجة التي يطرح به رؤيته وربطنا ذلك بكلام بعض قادتهم عن نجيب محفوظ وجاريناهم فيما يتصورون، ووافقنا كثيرا من دعاة الحزب على أن إسلام الرجل محل شك، فإننا سنصل إلى خلاصة مؤداها أن هوية نجيب محفوظ المصرية محل شك اعتمادا على أن الإسلام هو العنصر الأكثر أهمية في الهوية. هل يمكن لرجل عاقل أن يقول هذا الكلام عن سيد الرواية المصرية والعربية.
نجيب محفوظ أكثر مصرية وأكثر تعبيرا عن روح مصر من كل دعاة حزب النور. الحمد لله أنه مات قبل أن يسمع هذا الكلام.
-----
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.