السكون الذي يغلف روحي .. تلك المدينة الوهمية التي ارسمها في خيالي ، وهؤلاء الشخوص الذين يتحركون حولي .. يندفعون في كل اتجاه ، أري عقلي مفتوحًا على اتساعه وكأنه باب للسماء ، وأراهم يتشاغبون ويتناقشون ويدفع بعضهم بعضا في نشوة الجنون التي تنتابني أحيانًا، يقف أبطال مدينتي أو روايتي ، أو قصتي لا مجال للتسمية الآن سم ما شئت ، أحاول أن أتبين رباب من وسطهم ، بالتأكيد رباب ستكون مختلفة عن الأخريات حتى في لون فستانها الأزرق ، تعشق الأزرق لأنها رباب . موج البحر الهادر الذي يسحبك ويجرفك إلى الأعماق ، فأنها رباب ، تلك السماء الزرقاء التي تحتضن البحر ، لأنها رباب ، زرقة الجسد لحظة طلوع الروح للسماء لأنها رباب .. الحلم الأزرق الذي يحتل وحده مكانة في نفسي ، لأنها رباب .. ما الذي يحدث هناك في عمق عقلي ، هناك شاب جالس يحتسي قهوة مضبوط ويلعب دومينو في هدوء وأمامه شاب يحتسي عصير برتقال ويبدو غاضبًا ، لا وقت للذاكرة لاستعادة مشهد الأصدقاء ، ولكني أظن أن من يجلس يسارًا هو أنا ، أبدو أصغر سنًا، ويبدو صالح أمامي أكبر مني برغم أنني أفوقه عمرًا ، ولكن صالح دوما هكذا يبدو كبيرا وكأنه حمل بين تجاعيد جسده كل الرؤى والخيالات عن الحياة ، بل حمل الحياة نفسها ونقش فنونها وصبرها على وجهه ، هل كنت أكلمه وقتها عن رباب ، هل سألته يومها هل عادت ، هل رفض أبوها ، هل قبل ، ماذا فعلت هي ؟ أكنت أسأله ، لماذا يبدو صالح غاضبًا ، ألانني أكسبه في الدومينو أم أنه يعرف أن رباب قد ذهبت ومن ذهب لا يعود ، السماء ، والسكون ، زرقة الموج التي تضرب منطقة ما في عقلي ، أشعر بأن مخي يتسرب من بين جمجمتي ، وعقلي يقف متفرجًا.. يضع النادل القهوة أمامي ويسحب من صالح الكوب من يده بالعصير وهو نصف ممتلئ ، كيف لم يقف صالح ليضرب هذا النادل "قلمين" ، أنه يعرف أنه جرسون مجنون ، يعطف عليه صاحب المقهى . تهرب الصورة ، أجدها أمامي بثوبها الأزرق وعينيها الزقاويين ، الشقة تظهر ، فستانها بين يدي ، ملابسها الداخلية زرقاء أيضًا ، أي عشق مجنون هذا ، لأنها رباب كانت لجسدي ارتواء ، كانت لروحي حياة ، تهرب الصورة من عقلي، لا ، ليس هذا وقت استعادة رباب بين ذراعي ، ولا لحظة الحب المفضوح ، رباب هناك تقف في ركن قصي ألمح دمعتها تفر ، لا تبكي يا حبيبتي ، مستحيل أن تعود تلك الصورة لخيالي مرة أخرى سأمسح ذلك من شريط ذكرياتي ، ستظلين هناك تلك " البنوتة " الصغيرة ذات الفستان الأزرق الذي كنت اصطحبها للمدرسة صباحا وأعود بها ظهرا ، لن تكوني لحظة الانتشاء الجنوني ، لن تكوني سوى تلك البنوتة الصغيرة التي أكبرها أنا بأعوام قليلة ولكنها كانت تسلمني يدها مطمئنة ، وكأنها تدرك أنني قط لن أحيد بها عن الطريق ، لأنها رباب كان مستحيل ألاّ أعشقها . صالح دعهم يتجولون في ذاكرتي ، لن يجدوا أثرا لرباب في عقلي لأنها تحتل روحي ، وهم أبدا لن يستطيعوا الوصول لمكان الروح ! صالح أنت تعرف القصة كلها فلا تعاندني ، أطلب لي كوبا من عصير البرتقال ولكن لا تخبر النادل المجنون أن يعود بنصف الكوب الذي أخذه منك منذ قليل ، مجنون ويفعلها ! أأنت أيضا يا صالح لا تعرف مكانها في روحي ؟! أكنت مثلك أهيم في حياة الآخرين وأنسى حياتي ، مدينتي التي قررت أن أبنيها سأخرجك منها مهما فعلت ، لن أعطيك شقة في عقلي أتحلم بقصر ، لا، كل ما سأفعله أنني سأمحو تلك الصداقة المزعومة ، سأدع عقلي يرتب الشخصيات من جديد ، وأنت ستكون كأنك لم تكن ! لا تحاول إرباكي بتذكيري بها وبك ، ستكون لك ذاكرتك الخاصة انشئها كما تريد ، أهرب من حياتي وذاكرتي ، خذ طريقا آخر غير طريقي ، أنت بعد كل هذا العمر لم تفهم أنني عشقتها وأنني من بنى تلك المدينة في عقلي لها ، لتكون ملكة على شخصيات حياتي ، ولكن هناك في منطقة ما يظل البحث عن رباب جاريًا ، لا يعرفون السر مثلي ، اختفاء رباب أفزعهم ، لأول مرة تختفي فتاة تحب اللون الأزرق من بين أيديهم ، لم يتصوروا أنها هناك في عقلي ، وأنني أغلق عليها الأبواب ولن يعثروا عليها مهما حاولوا ، لأنها رباب لم يكف الحديث عن اختفائها لسنوات ، ولن يمل النسوة أن يتغامزن أنها هربت مع عشيق ما ، سأمسح تلك الذكرى عن النسوة ، يكفي وجود امرأة واحدة في روحي لتغنيني عن كل النساء ، لأنها رباب كان من الصعب أن أتخيل حياتي بدونها ، فكنت أطلقها ليلا من محبسها في عقلي وأجدها أمامي على سطح بيتنا نتأمل السماء طويلا ، تحب النجوم ، مكانها هناك كنجمة في وسط السماء تحمل الضوء للكون ، أكنت أراقصها ، بل هي من علمتني الرقص ، أتذكر يومها أن قالت لي " لا تكن رجعيا " الرقص مذهب ! هل رقصتني يومها على سطح بيتي ، أم رقصتني النجوم نفسها ، هل سقطت منشيا غارقا في خيالي وجنوني ، لأنها رباب كان يجب أن أطلق سراحها أن أعطيها الحياة لتتنفس غيري ، صالح كان يقولها أنت تكتم على أنفاسها مذ كانت طفلة ، أترك لها الحبل قليلا .. لقد طاوعتك يا صالح ، تركت الحبل ، ولكنني نسيت أنها نجمة ومكانها ليس هنا ، بل هناك وسط السماء ، تركت الحبل فغادرت للنهاية ! ملعون يا صالح ، سوف أشطبك نهائيا من ذاكرتي ولن أطلب لك عصير برتقال ، أرجع أيها النادل ، أعطيني كوبا من الماء ، لا صديقي .. أنه ليس بصديقي ، أنه .. ما اسمك ؟ لا تبدو انزعاجا ذاكرتي خرفة ، وألزهايمر أكلها فلا تعطي للأمر أهمية ...