سعر الذهب اليوم وعيار 21 الآن في بداية الأسبوع السبت 11 مايو 2024    انخفاض أسعار الدواجن لأقل من 75 جنيها في هذا الموعد.. الشعبة تكشف التفاصيل (فيديو)    هشام إبراهيم لبرنامج الشاهد: تعداد سكان مصر زاد 8 ملايين نسمة أخر 5 سنوات فقط    مندوب مصر لدى الأمم المتحدة: ما ارتكبته إسرائيل من جرائم في غزة سيؤدي لخلق جيل عربي غاضب    الطيران المروحي الإسرائيلي يطلق النار بكثافة على المناطق الجنوبية الشرقية لغزة    الإمارات تستنكر تصريحات نتنياهو حول دعوتها للمشاركة في إدارة مدنية بغزة    مأ أبرز مكاسب فلسطين حال الحصول على عضوية الأمم المتحدة الكاملة؟    على طريقة القذافي.. مندوب إسرائيل يمزق ميثاق الأمم المتحدة (فيديو)    حكومة لم تشكل وبرلمان لم ينعقد.. القصة الكاملة لحل البرلمان الكويتي    الخارجية الفرنسية: ندعو إسرائيل إلى الوقف الفوري للعملية العسكرية في رفح    البحرين تدين اعتداء متطرفين إسرائيليين على مقر وكالة الأونروا بالقدس    هانيا الحمامى تعود.. تعرف على نتائج منافسات سيدات بطولة العالم للإسكواش 2024    أوباما: ثأر بركان؟ يحق لهم تحفيز أنفسهم بأي طريقة    تفاصيل جلسة كولر والشناوي الساخنة ورفض حارس الأهلي طلب السويسري    «كاف» يخطر الأهلي بقرار عاجل قبل مباراته مع الترجي التونسي (تفاصيل)    جاياردو بعد الخماسية: اللاعبون المتاحون أقل من المصابين في اتحاد جدة    مران الزمالك - تقسيمة بمشاركة جوميز ومساعده استعدادا لنهضة بركان    نيس يفوز على لوهافر في الدوري الفرنسي    ضبط المتهم بقتل صديقه وإلقائه وسط الزراعات بطنطا    أنهى حياته بسكين.. تحقيقات موسعة في العثور على جثة شخص داخل شقته بالطالبية    الجرعة الأخيرة.. دفن جثة شاب عُثر عليه داخل شقته بمنشأة القناطر    حار نهاراً.. ننشر درجات الحرارة المتوقعة اليوم السبت فى مصر    مصرع شخص واصابة 5 آخرين في حادث تصادم ب المنيا    غرق شاب في بحيرة وادي الريان ب الفيوم    «آية» تتلقى 3 طعنات من طليقها في الشارع ب العمرانية (تفاصيل)    «عشان ألفين جنيه في السنة نهد بلد بحالها».. عمرو أديب: «الموظفون لعنة مصر» (فيديو)    عمرو أديب عن مواعيد قطع الكهرباء: «أنا آسف.. أنا بقولكم الحقيقة» (فيديو)    حج 2024.. "السياحة" تُحذر من الكيانات الوهمية والتأشيرات المخالفة - تفاصيل    تراجع أسعار الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم السبت 11 مايو 2024    سيارة صدمته وهربت.. مصرع شخص على طريق "المشروع" بالمنوفية    طولان: محمد عبدالمنعم أفضل من وائل جمعة (فيديو)    رؤساء الكنائس الأرثوذكسية الشرقية: العدالة الكاملة القادرة على ضمان استعادة السلام الشامل    حظك اليوم برج الجوزاء السبت 11-5-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    حلمي طولان: «حسام حسن لا يصلح لقيادة منتخب مصر.. في مدربين معندهمش مؤهلات» (فيديو)    هل يشترط وقوع لفظ الطلاق في الزواج العرفي؟.. محام يوضح    تراجع أسعار النفط.. وبرنت يسجل 82.79 دولار للبرميل    محمد التاجى: اعانى من فتق وهعمل عملية جراحية غداً    الإبداع فى جامعة الأقصر.. الطلبة ينفذون تصميمات معبرة عن هوية مدينة إسنا.. وإنهاء تمثالى "الشيخ رفاعة الطهطاوى" و"الشيخ محمد عياد الطهطاوى" بكلية الألسن.. ومعرض عن تقاليد الإسلام فى روسيا.. صور    وظائف جامعة أسوان 2024.. تعرف على آخر موعد للتقديم    جلطة المخ.. صعوبات النطق أهم الأعراض وهذه طرق العلاج    إدراج 4 مستشفيات بالقليوبية ضمن القائمة النموذجية على مستوى الجمهورية    أخبار كفر الشيخ اليوم.. تقلبات جوية بطقس المحافظة    زيارة ميدانية لطلبة «كلية الآداب» بجامعة القاهرة لمحطة الضبعة النووية    لتعزيز صحة القلب.. تعرف على فوائد تناول شاي الشعير    مادلين طبر تكشف تطورات حالتها الصحية    شهادة من البنك الأهلي المصري تمنحك 5000 جنيه شهريا    لماذا سمي التنمر بهذا الاسم؟.. داعية اسلامي يجيب «فيديو»    نقاد: «السرب» يوثق ملحمة وطنية مهمة بأعلى التقنيات الفنية.. وأكد قدرة مصر على الثأر لأبنائها    "سويلم": الترتيب لإنشاء متحف ل "الري" بمبنى الوزارة في العاصمة الإدارية    آداب حلوان توجه تعليمات مهمة لطلاب الفرقة الثالثة قبل بدء الامتحانات    حسام موافي يكشف أخطر أنواع ثقب القلب    5 نصائح مهمة للمقبلين على أداء الحج.. يتحدث عنها المفتي    فضائل شهر ذي القعدة ولماذا سُمي بهذا الاسم.. 4 معلومات مهمة يكشف عنها الأزهر للفتوى    نائب رئيس جامعة الزقازيق يشهد فعاليات المؤتمر الطلابي السنوي الثالثة    بالصور.. الشرقية تحتفي بذكرى الدكتور عبد الحليم محمود    واجبنا تجاه المنافع المشتركة والأماكن العامة، الأوقاف تحدد موضوع خطبة الجمعة القادمة    محافظة الأقصر يناقش مع وفد من الرعاية الصحية سير أعمال منظومة التأمين الصحي الشامل    دعاء الجمعة للمتوفي .. «اللهم أنزله منزلا مباركا وأنت خير المنزلين»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصتان قصيرتان
نشر في الأهرام المسائي يوم 28 - 02 - 2010

‏1‏ شاب هندي وفتاة صينية رأيتها هناك علي الجانب الآخر من الشارع‏,‏ تلوح لي بحركة ناعمة خجول وابتسامة متوارية درجة الحرارة في يونيو تتجاوز الأربعين وربما الخمسين‏,‏ شعرت بجسمي لزجا وأنا أعبر الشارع وسط السكون والحرارة القاتلة والعرق.
ينز ويسيل تحت الإبطين وفي أماكن أخري وقفت بجوار باب صغير مفتوح علي العتمة مرت غيمة غريبة حجبت الشمس تماما‏.‏ لا أعرف أين اختفت الفتاة التي لوحت لي منذ دقائق؟‏!‏ ظللت واقفا مسمرا علي عتبة الباب المفتوح‏,‏ وكأني أنتظر شخصا يلتقط لي صورة للذكري‏,‏ أو مثل جندي يرفض الاعتراف بالهزيمة‏.‏
ربما دخلت أحد المكاتب وستخرج حالا فجأة طرقت يد رقيقة علي كتفي من وراء ظهري‏,‏ ترددت ولم ألتفت بسرعة‏,‏ طرقت علي كتفي الأخري‏,‏ فلمحت معصمها الأبيض الممتلئ قليلا في تلك اللحظة انقلب الجو وهبت دوامات رملية عنيفة وقصيرة تعلو وتنخفض أمامنا قبل أن أستدير نحوها لأري وجهها وملامحها التي رسمتها في مخيلتي طوال الدقائق الماضية‏,‏ حدث شيء غريب‏..‏ خرجت من المبني المقابل فتاة صينية ترتدي زي الممرضات المطرز بصليب أحمر وابتسمت في وجهي كانت تسحب طاولة صغيرة وضعتها في منتصف الشارع بالضبط‏,‏ وبعد أن وضعت مقعدين صغيرين لونهما برتقالي علي الجانبين غطت الطاولة بقماش وردي وغرست في المزهرية باقة ورد صغيرة ثم أشارت في دلال بيدها دون أن تفارقها ابتسامتها المضيئة كي نجلس علي الطاولة‏.‏
كنا في وسط الشارع‏,‏ حتي هذه اللحظة لم أر وجهها‏,‏ لكن يدها مازالت نائمة علي كتفي فأمسكتها بود وسارت خلفي جلسنا نواجه بعضنا البعض‏..‏ هكذا كنت أري في الأفلام كل عاشقين يجلسان وجها لوجه كأنهما في مصارعة‏,‏ يفصل بينهما ارتباك البدايات‏..‏ ربما أرجوحة كبيرة كي أتمدد وأضع رأسي في حجرها‏..‏ أو يعطي كلانا ظهره للآخر ويستسلم للصمت ونبض الجسدين الملتصقين وهما يتأرجحان في الهواء بدلا من بحلقة أربع عيون في بعضها البعض‏!‏
وجهها أبيض ناعم‏,‏ أنفها دقيق مستقيم‏,‏ شفتاها رقيقتان شاحبتان من بعيد كنت أتخيلها امرأة ناضجة تقترب من الأربعين لكنها أقرب إلي فتاة مرحة دون العشرين في عينيها ومضة ذكاء تصارع حالة شجن‏,‏ وأنفها من النوع الذي أحبه‏,‏ علي عكس معظم المصريات ذوات الأنوف المفلطحة‏.‏
استغربت حين قالت إنها ليست مصرية وصدمت لأنها ترتدي حجابا علي الموضة لدي قناعة بأن كل أسرار المرأة في شعرها‏,‏ في طريقتها حين تتمايل به ليراقص الهواء أو يتطاير غصبا عنها ليفوح منه عطر الأنوثة‏..‏ كيف سأحب امرأة لا أري تسريحتها المفضلة ولون شعرها‏,‏ طوله‏,‏ ملمسه؟‏!‏
هي طلبت من الفتاة الصينية عصير ليمون بالنعناع وأنا طلبت قهوة مغلية من دون سكر اكتفت بالابتسام في وجهي‏,‏ نفس ابتسامتها المتوارية المحببة عيناها سوداوان عميقتان تخفيان سرا لا تبوحان به أبدا‏.‏ قبل أن تظهر الفتاة الصينية بالقهوة والعصير‏,‏ أمطرت السماء بغزارة دفعة واحدة من دون مقدمات فجذبتها من يدها‏,‏ ووقفنا مرة أخري علي عتبة الباب كنا نتأمل بمرح طفولي حبات البرد ترتطم بالأرض وتذوب علي أغصان باقة الفل سمعنا صيحات فرح تحتفي بالمطر كانت واقفة ورائي لا تكاد تظهر لكنها حذرة تماما من أن تلتصق بي كأنني أعرفها من زمن بعيد‏,‏ ليس هناك مسافة ولا حاجز بيننا‏,‏ نتفاهم بنظرة واحدة ررغم الصمت ربما لو التقينا قبل مكان ما لتزوجنا خلال أسبوع واحد‏,‏ كلما شعرت بالتورط فيها يدق في رأسي صوت كأنه مطرقة يخبرني‏:‏ أنت متزوج‏...‏ متزوج‏..‏ متزوج‏!‏ البنت الصينية حمقاء فبرغم غزارة المطر خرجت ووضعت القهوة وكوب العصير علي الطاولة‏,‏ كان البرد يساقط صاخبا في قهوتي ويطفو في كوب الليمون نظراتي راحت تتابع الفتاة الصينية وهي تنصرف بظهرها قلت دون مبالاة‏:‏
هذه البنت مجنونة‏!‏
لم ترد علي‏.‏ وحين التفت نحوها وأنا أكرر‏:‏
فعلا‏..‏ بنت مجنونة‏!‏
رأيتها اختفت‏.‏
دخلت سريعا وراءها من الباب المعتم‏,‏ إذ ظننت أنها اختفت هناك بالداخل‏,‏ وتحسست طريقي بصعوبة‏,‏ كنت أتعثر في أشياء تصدر رنينا أجوف غبيا‏,‏ قلت لنفسي لأنادي عليها‏:‏
يا‏..!‏
انتبهت إلي أنني لا أعرف لها اسما‏.‏
سمعت صوت أم كلثوم ينبعث وراء الجدران‏:‏ نظرة وكنت أحسبها سلام وتمر أوام‏.‏ حين خرجت إلي الشارع لاهثا‏,‏ رأيت الشمس عادت مرة أخري‏.‏ لم يبق من المطر إلا رائحة عشقه للتراب‏.‏ الطاولة والورد والمقعدان والصينية‏..‏ كل شيء اختفي‏..‏ ها هي السيارات تمر في الشارع كأنها سلاحف حديدية ثقيلة‏.‏
خطواتي كانت كئيبة ومتحسرة‏..‏ رقة يدها مازالت ضاغطة علي كتفي‏,‏ رائحتها التي بطعم الياسمين مازالت عالقة في أنفي‏.‏ عثرت في جيبي علي ورقة‏,‏ إنها رسالة منها‏:‏
أنتظرك علي الناصية الشمال بعد ميدان الحب‏.‏
تنتظرني علي الناصية الشمال‏!‏ أين ميدان الحب هذا؟ أسمع عن شارع الحب الذي تكثر به الحوادث ليلا فأين الميدان؟ هل استأجرت غرفة في فندق ما؟ أو تنتظرني في أحد الشاليهات علي البحر؟ ربما ستكشف لي شعرها‏,‏ مع أنها لم تحدثني عن أي رغبة حسية‏,‏ لم تعطني الفرصة لخلق لحظات حميمية جدا بيننا‏,‏ كنت أفكر في أن أبدأ معها بجرأة وأسألها عن تفاصيل جسدها‏,‏ نتوءات الخريطة السرية التي تخفيها المرأة بعناية تحت ملابسها‏.‏
في هذا اليوم ارتفع مؤشر حرارة السيارات إلي أقصي درجة‏,‏ كلما سارت بي نصف كليو متر تزمجر وتطلب ماء‏,‏ وجاء أشقاء زوجتي الخمسة في باص صغير‏,‏ بعدما أخبرتهم أن سيارتي تعطلت بي‏,‏ قالوا لي‏:‏ اركب معنا‏..‏ كانوا جميعا يبتسمون ابتسامة غريبة‏,‏ كأن بينهم تواطؤا ما‏,‏ هل وشيء بي أحد بأنني أخون أختهم وينوون قتلي ودفني في صحراء الكويت الشاسعة؟‏!‏ لو اتجهوا بي إلي طريق الصليبخات فهم إذن يخططون لاحتجازي في مستشفي الطب النفسي‏.‏ ابتسمت مثلهم بطريقتهم الملتوية نفسها وسألتهم‏:‏
الباص رايح السيما؟‏!‏ من زمان نفسي أشوف قراصنة الكاريبي‏.‏
أخبرني أخو زوجتي الكبير أن حماتي محتجزة في أحد الفنادق الجديدة ومعها حقائب كثيرة‏,‏ ولايعرفون ما المشكلة‏!‏ الفندق اسمه زهرة دوار الشمس علي الناصية بعد ميدان الحب‏.‏
ميدان الحب‏..‏ أين أنت يا ميدان الحب؟‏!‏ كررت العنوان علي نفسي كأنه تعويذة ستنقذني من الشياطين‏.‏ أهل الكويت يقولون دوار مستحيل أن يكون هناك عنوان اسمه ميدان الحب‏.‏ هذا ما قلته لأشقاء زوجتي لكنهم لم يقتنعوا‏.‏ أنا نفسي لم أكن مقتنعا بكلامي وأمني روحي بلقاء مع تلك المرأة التي اقتحمت عالمي وزلزلت كوني الصغير فوق رأسي‏.‏
أخيرا وبعد أن قطعنا شوطا من السير علي الطريق الدائري‏,‏ رأيت لافتة زرقاء عليها كتابة بيضاء‏:‏ ميدان الحب‏.‏ علي الناصية اليمني مبني فخم من خمسة طوابق‏,‏ مما يسمي هنا بالغرف الفندقية‏,‏ لكنه يبدو مهجورا‏,‏ كان الطابق الثاني وحده مضاء‏,‏ فصعد إليه أشقاء زوجتي وتركوني وحدي في السيارة‏.‏
تسللت علي قدمي بخفة إلي الناحية الأخري ورائحة الياسمين تعبق في المكان كله‏,‏ تجاوزت الميدان حتي توقفت علي الناصية الشمال مباشرة‏.‏
انتبهت إلي همسات وضحكات مكتومة ترن في فضاء الليل مبتورة ثم تتلاشي‏.‏ كنت أسمع خلفي صراخ حماتي تقاوم أبناءها ولا تريد النزول معهم‏,‏ تطلب منهم أن يمسكوا بي قبل أن أهرب‏.‏ رحت أتلفت كالممسوس‏,‏ من أين ستظهر تلك المرأة المسكونة بالجنون‏,‏ من ورائي؟ من الجهة اليمني؟ من الشمال؟ أتشمم رائحتها‏,‏ أصغي إلي وقع خطوات تأتي من بعيد كرجع الصدي‏,‏ شعرت بارتباك شديد واضطراب وأنا وحدي في هذا الليل البارد‏,‏ تواريت وراء أحد الأسوار حتي لايراني أحد‏,‏ سمعت في العتمة بكاء هامسا‏,‏ حين التفت نحو الصوت رأيتها‏..‏ كانت هناك منكمشة في حزنها‏..‏ هل أسألها لماذا تبكي أم أجلس وأبكي معها من غير كلام؟ أضمها إلي صدري أم أعطيها منديلا؟ كنت مرتبكا‏,‏ صراخ حماتي في بالبعيد حتي هذه اللحظة لم ينقطع‏,‏ بل يعلو علي ضجيج وجلبة أصوات عيالها الخمسة‏.‏ الآن يجمعنا ظلام حميم ونحتمي خلف سور حديقة عابقة برائحة الليمون والجوافة يتخلل عتمتها ضوء شاحب متناثر فلا يرانا أحد‏,‏ سألتها‏:‏
التفت حولي فلم أجدك‏!‏
أعطيتك عنواني لكنك لم تأت‏.‏
جئت الآن‏.‏
جئت لتراني أبكي‏.‏
سأكفكف دموعك‏.‏
أنا لا أحب الشفقة‏.‏
يفضحنا للحظة ضوء السيارات المارقة كل حين‏.‏ حكت لي أنها في مهمة إنسانية‏,‏ وأمامها أسبوع كي تنجزها‏,‏ ستغني للأطفال هنا وتقلد لهم أصوات الطيور‏,‏ مقابل جمع تبرعات للأطفال المصابين بالسرطان في إفريقيا‏.‏ قالت إنها توقعت أن تجمع مليون دولار علي الأقل لكن حتي الآن لم تجمع سوي مبلغ زهيد جدا‏.‏ أخرجت حافظة نقود بها حوالي مائتي دولار فقط‏..‏ لماذا تورطينني في قضايا أكبر مني؟ ما علاقتي أنا بالتبرعات وأطفال الصومال والسرطان؟ هل يعقل أن رجلا وأمرأة طواهما فجأة عشق مجنون تحت جناحيه يتحاوران وكأنهما مذيعان في نشرة الجزيرة أفكر كيف أقول لها إن شفتيها في لون الكرز‏!‏
إنها أكثر جنونا من الفتاة الصينية المطرزة بالصليب‏,‏ جاءت إلي هنا لتغني وتجمع تبرعات‏!‏ ومنذ ساعة نجلس معا وراء سور إحدي الحدائق‏,‏ ومازالت متوحدة مع نفسها تحدثني عن الأطفال المعذبين في الأرض‏!‏
حين أخبرتها أنني مستعد للتبرع لها‏,‏ قالت‏:‏ أنت لا تتبرع لي‏,‏ إذا لم تكن مقتنعا بالفكرة لا تفعل‏.‏ ثم هرولت غاضبة في الحديقة الواسعة‏.‏ انسل ظلها كالسهم بين الأشجار الكثيفة‏,‏ فأسرعت وراءها لكن فجأة تلاشي وقع خطواتها وخشخشة أوراق الشجر الجافة التي كانت تتهشم تحت قدميها تهشما لطيفا‏.‏ كان الضباب كثيفا رطبا يحجب الرؤية أمام مدخل المكان‏.‏ غمرتني عتمة باردة وأنا أقف لاهثا‏,‏ إذ انطفأ آخر ضوء فاستلقيت يائسا خلف السور‏.‏
استيقظت صباحا علي صوت شاب هندي أسمر قصير القامة‏:‏
بابا‏..‏ هذي حديقة مال بابا‏..‏ مو مال نوم‏!‏
فهمت أنه يأمرني بالخروج ومغادرة حديقة سيده‏..‏ تثاءبت وفردت جسمي بهدوء شديد كأنه غير موجود‏,‏ كنت أشعر بنشوة غربية تخالطها مشاعر الأسي والفقد‏..‏ قضيت الليل معها‏..‏ في الحقيقة؟ في الخيال؟‏!‏ لا أعرف‏!‏ كانت هنا‏..‏ جلسنا هناك‏..‏ تكلمنا وتذوقت عطرها‏.‏
لم يكلفني كل هذا سوي نصف دينار أعطيته للشباب الهندي‏,‏ فودعني وداع الملوك حتي البوابة الرئيسية وهو يكرر‏:‏
مشكور بابا‏..‏ مشكور‏.‏
مرسوم علي ذراعي بقلم أحمر طفل صغير ومكتوب في كفي‏:‏ إذا أردت التبرع للأطفال مرضي السرطان يمكن أن نلتقي فجر الغد أمام شاطيء المحبة‏..‏ من ميدان الحب إلي شاطيء المحبة‏..‏ مشوار آخر إلي فقد جديد‏..‏ كيف أصل إلي شاطيء لا وجود له؟ إنها تريدني غريقا في بحر هواها‏,‏ مجنونا يعبر دروب المستحيل وراء عطرها السري الذي لا يشمه أحد سواي‏.‏
قطعت أشواطا من اللهاث والترقب‏,‏ تجولت في شوارع وميادين وشواطيء طولا وعرضا‏,‏ وصلت الليل بالنهار أبحث في كل امرأة عن صوتها وضحكتها وعطرها‏,‏ أصغي إلي حفيف الشجر عله يخبرني أين أعثر عليها‏!‏ استنزفت سيارتي طرق دائرية مجنونة‏,‏ هربت متأخرا من كل البدايات الخاطئة‏.‏ كل التفاصيل تطاردني‏..‏ حركة يدها الخجول‏,‏ رائحة الياسمين‏,‏ ابتسامتها المتوارية‏,‏ أنفها‏,‏ وحجابها الذي علي الموضة‏.‏
حملني أشقاء زوجتي برغم معاناتي من الحمي‏,‏ ومضينا في الباص إلي الحبر غصبا عني‏.‏ للوهلة الأولي خمنت أنهم سيلقونني مكتوف اليدين والرجلين فوق الأمواج التي تذهب ولا تعود‏,‏ ولا يركبها سوي المجانين أمثالي‏.‏ لا علاج للحمي إلا الماء‏..‏ فتحوا راديو السيارة علي صوت محمد رشدي‏:‏
فايت علي شط الهوي لمحوني
فردوا شراع الشوق ونادوا علي
صوت حزين شجي رنان حلق بي علي شاطيء لازوردي‏!‏ أصيح معه دون صوت‏..‏ افردوا شراع الشوق سأهرب معكم أنا الغريب هنا‏..‏ خذوني معكم يا من تفردون للشوق شراعا حتي لو كنتم قراصنة الكاريبي‏..‏ أردد في نفسي كلمات الأغنية‏..‏ أراقص النشوة والألم متمايلا كأنني في حلقة ذكر أنا درويشها الوحيد‏..‏ انساب جسدي وروحي مع اللحن المنساب حتي كدت أطير‏..‏ تعبت ومللت الانتظار‏..‏ كلما رفرف طائر غامض فوق رأسي أقول إنها هي‏,‏ لكنها متنكرة هذه المرة في صورة يمامة جبلية بنية اللون لا تسكن إلا الأعالي‏.‏
هنا التقينا للمرة الأولي‏..‏ هنا لوحت لي فذهبت وراءها‏..‏ انتبهت إلي أنني أرتدي زي الممرضين العجيب المطرز بصليب أحمر‏,‏ وفجأة أمطرت السماء من دون مقدمات‏..‏ زخات عنيفة تحدث وشيشا‏..‏ لمحت الشاب الهندي الذي أعطيته نصف دينار‏,‏ يخرج من الباب المقابل في الناحية الأخري من الشارع‏,‏ ويجذب برقة الفتاة الصينية المجنونة‏,‏ كانا يتأملان بمرح طفولي حبات البرد ترتطم بالأرض وتذوب علي أغصان باقة الورد التي تزين الطاولة بينهما‏.‏ طلب مني الشاب الهندي بأسلوب مهذب عصير ليمون بالنعناع وقهوة مغلية من دون سكر‏.‏ وسط غزازة المطر الصيفي الدافيء جئت بالقهوة والعصير‏..‏ ثم أغمضت عيني وفي قلبي ترفرف وتهدل يمامة صغيرة هديلا شجيا‏,‏ بينما أنفي يقودني وراء رائحة ياسمين تناديني من مكان بعيد‏.‏
‏2‏ سعاد حسني
يعيش بكل حواسه في زمن الأبيض والأسود‏.‏ الفتي المراهق‏,‏ هكذا يري نفسه رغم أنه في أولي جامعة‏,‏ مهووس بالسينما‏,‏ يهرب من المحاضرات إلي الصالات الرخيصة‏,‏ سينما رومانس المجاورة لمسرح الهوسابير‏,‏ والسينما الصيفية في ميدان الجيزة‏,‏ وسينما السيدة زينب قبل تجديدها‏,‏ وعلي بابا في بولاق أبو العلا‏.‏
يقبض علي تذكرة بجنيهين‏,‏ هما كل ما في جيبه عدا تذكرة الاتوبيس‏.‏
ينتظر مبحلقا في ملصق بالأبيض والأسود‏.‏ هدي سلطان تملأ المساحة كلها بعريها وجسدها الأبيض وهي تغوي رشدي أباظة في أمرأة علي الطريق أو سهير زكي بشعرها الأسود المنسدل وعينيها المكحلتين وجسدها الخالي من العظم‏,‏ تهز بطنها في حركة خالدة‏,‏ لو اجتمع العالم كله لن يستطيع أن يهز مثلها أما نجوي فؤاد فتعلم الخيل كيف ترقص بسيقانها‏.‏
عندما يفتش في كتبه القديمة ويعثر علي تذكرة سينما‏,‏ ورقة باهتة مصفرة دون عليها التاريخ وحفلة التاسعة مساء وعنوان الفيلم‏,‏يبتسم بالامتنان لأن تاريخه لم يضع عبثا في هذا الفيلم لمح سمارة تحكم الملاءة اللف حول خصرها وتسير في الشارع شبه المعتم وحدها‏,‏ سمانة قدميها تهرب من تحت حافة الملاءة‏,‏خلخالها يرن بالشهوة العظيمة علي أسفلت الطريق‏,‏ رنات تمزق قلبه‏,‏ يردد بين روحه الجملة الخالدة‏:‏ أنت بتلعبي بالنار ياسمارة‏!‏ لو استطاع لاخترق الشاشة ولعق الإسفلت وراءها‏.‏
إنهن مثل‏,‏ حوريات قصص‏,‏ أيقونات وضعهن الفتي المراهق في كنيسته الخاصة نساء هاربات من لوحات عصرالنهضة‏,‏ كي يتخففن من بقايا الثياب ولزوجة الألوان الزيتية‏,‏ ويعدن إلي سحر الأبيض والأسود‏.‏ علق الفتي صورهن علي جدران قلبه وراح يتأمل الجسد الإنساني حين يشع جمالا ودلالا واكتمالا في كل ليلة يصطفي إحداهن خليلة لأحلامه‏.‏
أدار الشريط المثقوب مابين روحه وعقله فأضاءت شاشة الذكريات‏..‏ تعجبه التفاته هند رستم وهي تمضي‏,‏ واثقة من جسدها المصقول المنحوت بإتقان‏,‏ في نظرتها إغواء قاتل موجه إلي الفتي نفسه فيأخذ نفسا عميقا يبرد روحه‏,‏ وحواسه كلها مفتوحة ومستثارة‏,‏ لديه ولع خفي بمفاتن شويكار حين تتغنج‏,‏ وبرلنتي عبد الحميد إذ تشد جسدها في فستان السهرة الأسود‏.‏
يتابع متحمسا ناهد شريف تتمايل علي شاطئ البحر وتلف ملاءة سوداء‏,‏ما إن وصلت إلي حبيبها حتي طرحتها حول قدميها لتقف أمامه عارية إلا من قطعتين مبالغة في الاحتشام أمام الحارة‏..‏وفي التهتك أمام الحبيب‏,‏ وهو وحده يراقب كل شيء‏,‏ عشرات من وجوه الحسان عشقها‏,‏ إذ تشع نوارا وبهاء رغم ظلال الأسود‏,‏ لكنه ظل مفتونا أكثر بالجسد المكتمل الأنوثة‏,‏ لانظرات فاتن حمامة ولاتنهدات ماجدة‏.‏
حتي مريم فخر الدين لاتثيره فهي تبدو مثل بجعة طويلة الأطراف شبه نائمة في كل الحالات‏.‏
أعلن أمام الملأ‏,‏ بعد أن أنضجه النظر‏,‏ وذاق حلاوة كل أنواع البياض المؤنث‏,‏ أنها هي من بينهن جميعا‏,‏زوزو ونعيمة وشفيقة‏,‏ هي أميرة حبه‏,‏خليلة كل أحلامه‏,‏ الجسد المكتمل روحا وفتنة‏,‏شجنا ومرحا‏,‏ واستعار من الشعر كله شطرا لكعب بن زهير بانت سعاد فقلبي اليوم متبول‏.‏
من هي مني زكي وحنان ترك وهند صبري؟ طفلات الملون‏,‏ ذكوريات الطباع لا علاقة لهن بالأنوثة‏,‏ هذا الفيض الدافئ الساحر؟
أين هن من شقاوة وطراوة سعاد حسني؟ آنذاك كان الزمن أشبه بأرجوحة في حديقة‏,‏ كان للأنوثة سحر وفتنة‏,‏ مابين الأبيض والأسود‏,‏ درجات من الأبيض ممزوجة بهالات من الأسود‏,‏ طبقات رمادية تبلغ روعة القصيدة في تباينها وانسجامها‏,‏ جسدها رغم رقته‏,‏ كان مرشوقا في شاشة فضية يفيض بالشهوة وهو في البعيد يشم صورها‏,‏ يلامهما بأصابعه إذ تتحرك‏.‏
وأبدا لاينتبه أنه مسح غبارا عتيقا عن زجاج تليفزيون صغير‏.‏
الآن أصبحت السينما نظيفة ومكيفة‏,‏أسعار التذاكر توحشت‏,‏ لكنه امتنع عن الطواف حولها علي قدميه لم يعد فتي ولا مراهقا‏,‏ لا يجدر به أن يخبر أحدا عن عشقه الخفي لصور متحركة يجول في شوارع وسط البلد متحسرا علي نسوة المدينة اللاتي انكمشن في أجساد طفولية‏,‏ أو ضخمة هزلية يري عارضات ممصوصات تكشف عيوبهن شاشة بلازما وراء زجاج محلات الأجهزة فيغني مع نفسه زوزو النوزو كونوزو ما أروع هذه المرأة القصيدة‏,‏ في عينيها كل الحزن‏,‏ كل الحب والدفء‏,‏ السحر والإغواء‏,‏ الطفلة والمرأة‏,‏ سوادها عميق وغامض‏,‏ وبياضها حميم كانت بالنسبة له الأنثي الأخيرة‏,‏ آخر كتلة منحوتة علي مقاييس الإغريق قبل أن يشوه الجمال دعاة المساواة وتجار المرمر المغشوش‏,‏ وألوان الديجيتال‏.‏
في شارع طلعت حرب كان الفتي المراهق‏,‏ هكذا قلبه لايعترف بمرور الزمن‏,‏ واقفا بين سينما مترو وميامي‏,‏ ألقي نظرة علي عصر الملصقات الملونة رجال ليسوا أكثر من كومبارس بلا حضور ولا طاقة خفيفة أمثال عادل إمام وأحمد حلمي واللمبي‏,‏ يسيطرون علي الملصق بحركات عصبية ملتوية وسخيفة‏,‏بينما المرأة مجرد وجه يتلاشي بعيدا وراء سيقانهم الممتدة‏,‏ مثل وجوههم المستطالة‏.‏
سمع في قلبه سعاد تغني بانوا بانوا بانوا‏..‏علي اصلكوا بانوا فمزق الفتي آخر تذكرة سينما قديمة كان يحتفظ بها مطربات وكليبات وعارضات نعيش الآن علي إيقاع الهبمورجر والماكدونالدز‏,‏ كل الصور مبتورة متداخلة ومشوهة‏,‏ الموسيقي صاخبة تتلاءم وجنون الأضواء الزرقاء الحمراء في حفل مخنثين يتوارون من أنفسهم حتي لاتفضحهم الكاميرا تعسا لزمن أيقوناته من السليكون والجص والجيلاتين‏,‏ والنفخ والعدسات اللاصقة والشعر المستعار كائنات ممسوخة متشابهة تكرر نفسها علي مدار الساعة‏,‏ تخفي بشاعتها وراء كتل الألوان الثقيلة فتش فيها الفتي جميعا فلا أحس نحتا يلامس ولابهاء يعلق علي جدار القلب لاحلاوة ولاشقاوة‏,‏ ولا حتي كبرياء السندريللا وهي تتناول السم بمذاق المسقعة تليفزيونه الأبيض والأسود الصغير أصبح هو الآخر مهزوزا‏,‏ خطوط عرضية سوداء غليظة تمر باستمرار تهز الصورة‏,‏ حتي نسخ الأفلام القديمة نفسها صارت باهتة ومبتورة وصوتها مشوه‏,‏ حرب عنيفة تشنها علي الأبيض والأسود مسدسات الليزر وكائنات الفضاء الفضية وألوان فاقعة ثقيلة‏.‏
العالم كله أوغل في تفاهة لاتحتاج الي مقاييس لم يعد منتبها الي سعاد حسني وهي تطلب من الفتي الوسيم أن يفتح لها سوستة الفسان ليفيض ظهرها جمالا علي الشاشة‏,‏ ثم تتحرك بعفوية وهي تخلع فردتي حذائها العالي تباعا وتدفعهما في الهواء في لامبالاة‏,‏ أما الفتي الوسيم فيراقب ببطء الفاكهة الناضجة تتواري قليلا حتي ترتدي قميص نوم أحمر‏,‏ وإن بدا غامقا علي شاشة لاتعرف سوي لونين ببساطة تسترخي علي الفراش وتترك‏,‏ وقتا ساقيها ممددتين عاريتين في عين كاميرا تتحسس تضاريس الأنوثة بكل الشهوة بينما الفتي الوسيم يقبل جبينها امتنانا علي هذا الوقت الخاص جدا‏,‏فتلمع عيناها بالحب والشقاوة أطفأ النور وأغلق الباب ليسود ظلام‏..‏ كم تمني الفتي المراهق أن تبقي عيناه معلقتين قليلا علي هذا السواد اللذيذ الذي لف جسد السندريللا العاري‏.‏
أغلق الفتي عينيه طويلا ثم تسلل في الظلام وأشعل المصباح مرة أخري‏,‏ ليصدمه منظر امرأة تعاني السمنة والكهولة‏,‏ كانت ملقاة أسفل بلكونة في برودة لندن‏,‏ المنظر كله كان بالألوان وبالحجم الطبيعي انتفض الفتي وهز حواسه كلها كي تطرد هذا المشهد من ذاكرته وقبل أن يغمض عينيه مرة أخري وينسحب من الصورة لمح بعيدا عن جسدها المسجي فردة حذاء السندريللا‏.‏
شريف صالح‏:‏
له مجموعتان قصصيتان هما إصبع يمش وحده‏,‏ ومثلث العشق‏,‏ ونال درجة الماجستير عن رسالته تحولات النص الأدبي عبر الوسائط الفنية المختلفة دراسة تطبيقية علي رواية اللص والكلاب لنجيب محفوظ‏.‏


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.