منذ ذلك اليوم دخل «فاديم» حياتى، وأدخلنى حياة جديدة، رغم أن الفيلم الذى أختبرنى من أجله «مارك أليجريه» لم يتم، لكنى حققت خطوة للأمام، فقد بدأ المخرجون يعرفوننى ويطلبوننى، ونشرت مجلة «آل» صورتى أنا وأمى على غلافها، وبدأت لقاءاتى ب«فاديم» تتكرر، لكن فى منزلنا، كان ممنوعا علىَّ أن أراه بالخارج، لأننى فى نظر أبى كنت لا أزال طفلة لم تكمل السادسة عشرة، وخلال هذه الفترة رشحنى «فاديم» للعمل معه فى فيلم «مدرسة السيدات»، وقدمت دوراً صغيراً. انتهت الإجازة الصيفية، وبدأت الدراسة، وذات يوم قررت أن أذهب لمنزل فاديم لأقضى معه هذا الوقت بدلا من المدرسة، كنت أتخيل أنه يعيش فى أتيليه، كالفنانين، حيث الشموع فى كل مكان، كانت الساعة التاسعة صباحاً، وفى كل خطوة كنت أخطوها لمنزله كان قلبى يدق بعنف، كان أول موعد غرامى، ولم أكن أعرف عن الحب سوى تلك القبلات الطائشة التى تبادلتها مع «جى» منذ سنوات فى «لوفيسيان». كنت أرتدى (جوب) بليسه وشراب قصير، وأعقد شعرى على هيئة ذيل حصان.. كنت أعيش سنى، لكننى هذه المرة كنت أرتدى على غير العادة مشداً للصدر، وصلت العمارة، صعدت السلم، وجدت باب شقته مفتوحاً والأنوار مطفأة، دخلت فى الظلام، وبعدها تعودت عيناى عليه، وجدت فى الحجرة سريرين ضخمين، فوق كل منهما رجل، تبينت «فاديم»، فلقد كان قميصه مطروحا على الأرض بجوار سريره، كنت مرتبكة وقررت الخروج، لكن بدلا من أن أتجه ناحية باب الشقة، دخلت الحمام، ووقعت كتبى على الأرض وأحدثت صوتا مزعجا، أيقظ الجميع. وسمعت صوت «فاديم» يسأل: من؟ أجبت بتردد وصوت مرتجف:أنا بريجيت، فقال غاضبا: ماذا تفعلين هنا فى هذه الساعة المبكرة؟، ولم أرد ولاحقنى بأسئلته وعباراته وأنا صامتة: هل أنت مجنونة؟ هل أحضرت معك كرواسان للإفطار؟.. لايمكن أن أغفر لك إيقاظك لى، اتركينى الآن لأنام وتعالى غدا ظهرا. كدت أجن من الغضب، فقد تركت دروسى، وخاطرت بالتعرض لغضب عائلتى وحضرت حتى باب منزله، وهو يقول لى ببساطة: تعالى غدا، لم أكن أستطيع العودة للمدرسة ولا للمنزل.. جلست بجواره أبكى، ثم انصرفت بعد فترة، وعدت فى اليوم التالى ظهرا، فوجدت السرير المجاور ل«فاديم» خاليا، أحضرت معى فطائر هذه المرة، لم أجلس على الفراش، وتسللت تحت الغطاء بجوار «فاديم». مشاعر رائعة غمرتنى حين شعرت بملمس جلده على جلدى دون حواجز، كنت متأكدة أنه مستيقظ، رغم أنه كان يبدو ناعسا وهو يكلمنى وتكررت لقاءاتنا كل يوم، وفى كل مرة كنت أسأل نفسى هل أصبحت امرأة كاملة الأنوثة؟ كنت أتعرف على جسد حبيبى «فاديم» وجسدى أيضا بعد علاقتى معه شعرت بأننى قوية، فوق تفاهات الحياة التى كانت تشغلنى من قبل، بدأت أتساءل:كيف يعيش الناس دون حب، ولم يعد يشغل تفكيرى إلا الساعات التى أقضيها فى أحضان فاديم. وذات يوم انفجرت المأساة بشكل مفاجئ، بعد أن عرف أبى بتغيبى عن المدرسة، وقرر إرسالى لاستكمال تعليمى فى إنجلترا حتى أبلغ سن الرشد، حاولت أن أستنجد بأمى دون جدوى، فهى كانت تؤازر موقف أبى، شعرت بمدى ضعفى وقلة حيلتى، وأننى وحدى فى هذا العالم، ليس لى من أستطيع أن أبثه متاعبى ويشعر بآلامى، أحسست بالعزلة والتعاسة تخترقنى حتى أعمق الأعماق، فى هذا اليوم خرج الجميع وجلست بمفردى فى المنزل، وقررت الانتحار. تركت خطاب لوالدى لأشرح له سبب انتحارى، أدرت مفتاح فرن البوتاجاز دون أن أشعله، وأغلقت باب المطبخ والنافذة وضعت رأسى داخل الفرن، لأستنشق الغاز السام وأنهى حياتى فى سلام، وفى تلك الليلة التى قررت فيها الانتحار عاد أبى وأمى مبكرين على غير المتوقع، ووجدانى فى غيبوبة، وعندما أفقت كان الطبيب بجوارى، وبعد أن تماثلت للشفاء حاولت أن أثنى أبى عن قراره بتعليمى فى إنجلترا، ولكن بلا فائدة، بل زاد إصراراً على سفرى، وعدم زواجى من فاديم قبل أن أتم الثامنة عشرة من عمرى. لم يكن والداى يظنان أننى أصبحت عشيقة فاديم، فلقد كانا يظنان أننى مازلت طفلة، وينصحاننى دوما أن أظل عذراء حتى يوم زفافى. وذات ليلة فكر فاديم أن يدعونى لأول مرة لسهرة خارج المنزل، على مسرح أنطوان الشهير، وليلتها ارتديت فستانا أزرق اللون، و«جورب قصير» وصففت شعرى على هيئة ذيل حصان، وظهرت فى هذه الصورة أكبر من سنى قليلا.. كان المسرح عامرا بالأشخاص المهمين والنساء الجميلات اللاتى تفوح منهن رائحة العطور الثمينة ويرتدين الثياب الفاخرة والفراء، وكان فاديم يعرف الجميع، وكنت مجرد نكرة بجواره، خجلت من نفسى ومن ملابسى البسيطة، وتعجبت لماذا اختارنى ليصحبنى بدلا من اصطحاب سيدة أخرى أنيقة مثل هؤلاء اللاتى يتهادين أمامى. بعد انتهاء العرض المسرحى وجهت مدام «سيمون بريو»، مديرة المسرح الدعوة لعدد من الشخصيات المهمة لحفل عشاء فى مطعم مكسيم، وهكذا وجدت نفسى مع فاديم ضمن مجموعة تضم وزراء وسياسيين وصحفيين وكتاب وممثلين ومخرجين، وتمنيت أن أتلاشى وأختفى من هذا الجمع فلقد كنت محرجة.. وتساءل الجميع عن هذه الصغيرة التى تجلس على طرف المائدة، وقدمنى فاديم إليهم.. فسألتنى مدام بريو بلهجة حادة وصوت مرتفع شق سكون المكان: «أنت فاتنة ياصغيرتى، فهل لا تزالين عذراء»؟ تعلقت عيون الجميع بى، وبدأ البعض يسخر منى، ويتندر علىَّ، وأجاب صوتى رغما عنى: «لا ياسيدتى وأنت؟ فانفجر الجميع فى الضحك، بل صفق بعضهم لهذه الصغيرة التى كسبت الجولة، ونظر إلى فاديم نظرة إعجاب من الأعماق، خففت عنى الخجل الذى كنت أشعر به». وافق والدى أخيرا على زواجى من فاديم لكنه وضع شرطا ألا أتزوج قبل حصولى على البكالوريا، فى نفس الوقت كان يحاول أن يثنينى عن قرارى برؤية عرسان آخرين لأختار منهم.. لكننى لم أنجذب لأحد رغم ثرائهم وتعليمهم الراقى فقد كنت مغرمة ب«فاديم» إلى آخر مدى. وذات يوم سمح لى أبى بالذهاب لحفلة بصحبة ابن طبيب العائلة، واستعرت من أمى ثوبا كان واسعا، لكنى لم أهتم، فقد كنت فرحة به وبجواربى الحريمى الطويلة، وكان من المفروض أن أعود عند منتصف الليل، كانت الشوارع مزدحمة فمشينا على الأقدام، وتأخرنا قليلا، وعندما اقتربنا من المنزل، شاهدت أبى واقفا عند مدخل العمارة ينظر فى ساعته، كنت قد تأخرت عشر دقائق لا غيرعن الثانية عشرة، أمسكنى من ذراعى، ورفع ثوبى وضربنى على مؤخرتى أمام ابن طبيب العيلة الشاب، وكأننى طفلة فى الخامسة، وحتى الآن أشعر بالخجل كلما تذكرت هذه الواقعة.. هذا النوع من العقاب المهين لكرامتى، جعلنى أبتعد عن والدى وأشعر بفجوة بينى وبينه، كما قربنى أكثر من فاديم، لأنه كان القلب الحنون الذى أشكو إليه معاناتى وعذابى. وفى محاولة لإبعادى عن «فاديم»، وافق أبى على سفرى فى رحلة بحرية لمدة 15 يوماً أرقص فيها الباليه وأعرض الأزياء مقابل 500 فرنك، وكان هذا المبلغ يتضمن تدبير ملابس العرض على نفقتى الخاصة، ولأول مرة فى حياتى، أكون مسؤولة عن نفسى بعيدا عن العيون والمراقبة، وفى هذه الجولة رقصت أكثر من رقصة، بالرغم من أن الأوركسترا لم تكن تعزف الألحان الكلاسيكية العالمية، بل موسيقى خفيفة ناعمة كالتى تعزف فى البارات، ولاقت رقصاتى إعجاب الجمهور، ومازلت أحتفظ بذكريات جميلة عن هذه الجولة التى علمتنى الكثير، فقد زرت العديد من المدن فى إسبانيا والبرتغال، وعندما عدنا إلى ميناء هافر، كانت عيونى مليئة بالدموع فلقد تأثرت بأول رحلة عرفت فيها معنى الحرية. وعندما عدت لباريس، عاودت رؤية فاديم، الذى كان والداى يرانه دون المستوى، بالرغم من أنه ابن القنصل الروسى، وكان فاديم يعيش عيشة بوهيمية بجانب أنه يسارى، ولايهتم بالسلوك الأرستقراطى الذى يفضله أهلى، وفى هذه الفترة قبلت عرض مجلة «آل» لتصوير مجموعة أخرى من الصور، لأننى كنت أحتاج للمال، وفى هذه المرة كان لابد من نشر اسمى بدلا من المرة الأولى التى ظهرت صورتى تحت عنوان «فتاة وأمها»، ورفض أبى بشدة أن أظهر باسم «باردو»، لأن ذلك لا يليق بتاريخ العائلة، فاختارت لى أمى اسم «بريجيت موسال»، لكن المجلة صدرت وهى تحمل اسم «بريجيت باردو»، وحتى الآن لا أعرف كيف حدث هذا؟، ومنذ ذلك اليوم وأنا أحتفظ باسمى، رغم أننى تزوجت أكثر من مرة، حيث لم أحمل اسم أى من أزواجى وظل اسم عائلتى هو اسم شهرتى. فى تلك الأيام كان «فاديم» بلا عمل، لكن علاقاته بالوسط الفنى كانت متشعبة، وذات مساء عرض علىَّ أن أذهب معه إلى صديقة له اسمها «كوليت» تبحث عن فتاة لتمثل دور «جيجى» فى مسرحيتها الجديدة، ووافقت وعندما دخلت على كوليت، كانت ممددة على «شيزلونج»، أمام نافذة تطل على الحديقة، نظرت لى بتمعن ثم قالت: صباح الخير ياجيجى.. كان هذا معناه أننى مناسبة للدور، أذهلتنى المفاجأة، ولم أستطع أن أجيب عليها، فشكرها «فاديم» بالنيابة عنى، وجلسنا نتناقش فى موضوعات مختلفة، واتفقنا، لكننى لم أمثل جيجى بسبب انشغالى فى مشاكل شخصية، وقامت بالدور بدلا منى «دانيال دولورم»، لكن هذا اللقاء لا يزال محفورا فى ذاكرتى، مثل اللقاء الذى أخذنى فيه فاديم لمقابلة الشاعر والفنان العظيم «جان كوكتو» فى منزله الرائع الذى يحوى كل ثمين من اللوحات، والكتب والتحف، لكن الأكثر روعة من كل هذا كان شخصية كوكتو نفسه، فرغم شهرته وانشغالاته كان رقيقا معى، وقابلنى بود ووصفنى بأننى فاتنة، وطوال هذه السنوات لم أنس أبدا رقة «كوكتو» معى. قابلت كل الشخصيات المهمة والرائعة بواسطة فاديم، ومنهم الأخوة ميل، هارفيه وجيرار، اثنان من العباقرة البوهيميين.. كان هارفيه مدير بارى ماتش وجيرار مهندس ديكور، كانا مختلفين فى الشخصية، لكن يجمع بينهما اللطف والرقة كنا نذهب للغداء معهم، فى الفندق الذى يقيمان فيه، حيث نقابل شخصيات مهمة وننعم بوجبة شهية. كان فاديم يعيش مع صديقه كريستيان، يتقاسمان حجرة الخدم فى عمارة راقية فى جزيرة سان لوى، كانت تملكها إيفيلين فيدال، وكانت تؤجر حجر الخدم لعشاقها السابقين وحجرتها الخاصة لعشاقها المحتملين. وفى يوم ذهبت ل«فاديم»، كان يحضر إفطارا أمريكيا (بيض نصف نىء وعصير برتقال) والإفطار كان ل«مارلون براندو»، الذى كان ينزل فى حجرة إيفيلين!!. وكانت الساعة الثانية ظهرا ومستر براندو لا يزال نائما وكنت أريد أن أراه. فدخلت حجرته، ناديت عليه لأبلغه أن الإفطار جاهز، لكنه طلب منى أن أذهب وشتمنى، لم أعرف كيف أتصرف فى صينية الطعام فوضعتها بجواره على الفراش وفوجئت برد فعله.. فلقد قذف بالصينية فى مواجهة الحائط وغرق هو فى عصير البرتقال والقهوة باللبن وتلوث الحائط بالبيض.. لم أره بعدها أبدا لكن ظلت ذكرته عندى بعيدة تماما عن اسمه الرنان.