تخصيص 100 فدان في جنوب سيناء لإنشاء فرع جديد لجامعة السويس.. تفاصيل    عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير.. أسعار الذهب اليوم الخميس 25 إبريل 2024 بالصاغة    صندوق التنمية الحضرية يعلن بيع 27 محلا تجاريا في مزاد علني    أحمد موسى: مطار العريش أصبح قبلة للعالم وجاهز لاستقبال جميع الوفود    تحظى ب«احترام غير مبرر».. اتهام مباشر لواشنطن بالتغاضي عن انتهاكات إسرائيل    "كاليفورنيا" بعد "هارفارد" .. جامعات نخبة العالم تناهض الإبادة الجماعية في غزة    قيادي في حماس: السنوار ليس معزولا في الأنفاق ويمارس نشاطه ميدانيا    شوبير يعلق على تكريم الأهلي لنجم الزمالك السابق    عاجل.. فرج عامر يتحدث عن صفقات سموحة الصيفية وضم كوكا من الأهلي    عاجل.. تعديل موعد مباراة يد الزمالك وشبيبة أمل الجزائري في بطولة إفريقيا    الليلة.. أدهم سليمان يُحيي حفل جديد بساقية الصاوي    هل يجوز قضاء صلاة الفجر مع الظهر؟.. «الإفتاء» تحسم الجدل    حصول 5 وحدات طب أسرة جديدة على اعتماد «GAHAR» (تفاصيل)    رئيس قسم الطب النفسي بجامعة الأزهر: تخصصنا يحافظ على الشخص في وضعه الطبيعي    رئيس «الطب النفسي» بجامعة الإسكندرية: المريض يضع شروطا قبل بدء العلاج    بعد نوى البلح.. توجهات أمريكية لإنتاج القهوة من بذور الجوافة    منسق مبادرة مقاطعة الأسماك في بورسعيد: الحملة امتدت لمحافظات أخرى بعد نجاحها..فيديو    محافظ شمال سيناء: منظومة الطرق في الشيخ زويد تشهد طفرة حقيقية    توجيهات الرئيس.. محافظ شمال سيناء: أولوية الإقامة في رفح الجديدة لأهالي المدينة    اسكواش - ثلاثي مصري جديد إلى نصف نهائي الجونة الدولية    "منافسات أوروبية".. جدول مباريات اليوم والقنوات الناقلة    كرة السلة، ترتيب مجموعة الأهلي في تصفيات ال bal 4    عماد النحاس يكشف توقعه لمباراة الأهلي ومازيمبي    إصابة 5 سائحين في انقلاب سيارة ملاكي بالطريق الصحراوي بأسوان    تيك توك تتعهد بالطعن في قانون أمريكي يُهدد بحظرها    بعد اختناق أطفال بحمام السباحة.. التحفظ على 4 مسؤولين بنادي الترسانة    "مربوط بحبل في جنش المروحة".. عامل ينهي حياته في منطقة أوسيم    محافظ شمال سيناء: الانتهاء من صرف التعويضات لأهالي الشيخ زويد بنسبة 85%    ريهام عبد الغفور عن والدها الراحل: وعدته أكون موجودة في تكريمه ونفذت    مش بيصرف عليه ورفض يعالجه.. محامي طليقة مطرب مهرجانات شهير يكشف مفاجأة    30 صورة وفيديو من حفل زفاف سلمى ابنة بدرية طلبة بحضور نجوم الفن    التطبيق خلال ساعات.. طريقة تغيير الساعة على نظام التوقيت الصيفي (بعد إلغاء الشتوي)    كيف أعرف من يحسدني؟.. الحاسد له 3 علامات وعليه 5 عقوبات دنيوية    دعاء في جوف الليل: اللهم أخرجنا من الظلمات إلى النور واهدنا سواء السبيل    الاحتلال يعتقل فلسطينيًا من بيت فوريك ويقتحم بيت دجن    القيادة المركزية الأمريكية: تصدينا لصاروخ باليستي مضاد للسفن أطلقه الحوثيون    الهلال الأحمر: تم الحفاظ على الميزانية الخاصة للطائرات التى تقل المساعدات لغزة    الهلال الأحمر: مصر وفرت خدمات عملية إجلاء المصابين الفلسطينيين في وقت قياسي    وزيرة التضامن: المدارس المجتمعية تمثل فرصة ثانية لاستكمال التعليم    ما موعد انتهاء مبادرة سيارات المصريين بالخارج؟.. وزيرة الهجرة تجيب    رئيس تحرير «أكتوبر»: الإعلام أحد الأسلحة الهامة في الحروب    فريد زهران: نسعى لوضع الكتاب المصري في مكانة أفضل بكثير |فيديو    حظك اليوم برج الميزان الخميس 25-4-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    اختيارات النقاد.. بعد سيطرة الكوميديا ما هى الأفلام الأنسب لموسم العيد؟    «زى النهارده».. عيد تحرير سيناء 25 إبريل 1982    ارتفاع الذهب اليوم الخميس.. تعرف على الأسعار بعد الزيادة    إصابة أم وأطفالها الثلاثة في انفجار أسطوانة غاز ب الدقهلية    الزكاة على أموال وثائق التأمين.. الإفتاء توضح أحكامها ومتى تجب    تأجيل بيع محطتي سيمنز .. البنوك الألمانية" أو أزمة الغاز الطبيعي وراء وقف الصفقة ؟    ميدو: لاعبو الزمالك تسببوا في أزمة لمجلس الإدارة.. والجماهير لن ترحمهم    غادة البدوي: تحرير سيناء يمثل نموذجًا حقيقيًا للشجاعة والتضحية والتفاني في سبيل الوطن    من أرض الفيروز.. رسالة وزير العمل بمناسبة ذكرى تحرير سيناء    الصحة تفحص مليون و413 ألف طالب ضمن المبادرة الرئاسية للكشف المبكر عن فيروس سى    مدير تعليم القاهرة: مراعاة مواعيد الامتحانات طبقا للتوقيت الصيفي    صور.. الطرق الصوفية تحتفل برجبية السيد البدوي بطنطا    بالفيديو.. أمين الفتوى: موجات الحر من تنفيس نار جهنم على الدنيا    10 توصيات لأول مؤتمر عن الذكاء الاصطناعي وانتهاك الملكية الفكرية لوزارة العدل    القبض على 5 عصابات سرقة في القاهرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سبعة دراويش
نشر في أخبار الأدب يوم 13 - 08 - 2012

هنا فصول من كتاب للكاتب التركي الشهير المقيم بباريس نديم جورسيل " سبع دراويش"، نص طويل تأملي استكشافي حول الطرق الصوفيّة في بلاد الأناضول تتبع فيه تسلسلها، وشيوخها، والفروقات فيما بينها. كل ذلك فعله بعين المراقب المحايد المندهشة، وبعقل الباحث الملتذّ بما يتكشف له.
النص الذي يصدر قريبا عن دار أزمنة الأردنية يتميز بخصوصيّة وجِدة وتاريخية الموضوع قيد المعالجة،
وقد كتب جورسيل المولود 1951 مقدمة خاصة للطبعة العربية اعتبر فيها التصوف بمثابة رحلة: "يمثّل هذا الاكتشاف للعالم الصوفي والشعري، الذي يمكننا التعرف عليه عبر نصّي الذي يتبدّي كرحلة ذات مرجعية وثائقية متماسكة ومتنوعة، نوعاً من الرؤية. وهكذا، وبتحرير انطباعاتي وددتُ أن أتقاسم مع القارئ شيئاً من الحساسية دون أن أهمل الأبحاث التي عرفَت نجاحاً كبيراً في تركيا، وبالتحديد لدي قطاع كبير مَعنيٌّ بالنقاش الذي يجري حالياً حول التوفيقية العَلَويّة البكتاشيّة."
ليلة في بورصة
"غاب النور عن وجهك، تعال، سأقودك الي أمير سلطان"، قال. كانت الساعة تجاوزت الثانية عشرة ليلا. وكان اقترب مني في عتمة المدينة القديمة ببورصة، في بادئ الأمر طلب مني بعض المال، ثم شيئا من المخدرات، وعندما لم يحصل علي هذا أو ذاك، تطلع الي للحظة ومط شفتيه اشمئزازا كأنه ينتظر شيئا مني. لا يستطيع الوقوف ثابتا. كأنه شرب كثيرا. هل كان تحت تأثير الكحول أو المخدرات ؟ "نوري في دواخلي، يا صغيري، أجابني، أنا ممتلئ بالحب. لا تثق في نور الوجوه، أنه خداع". هذه الكلمات ليست كلماتي، وانما مستلة من قصة لسعيد فايق (1) الذي درس في ثانوية بورصة. بيد أن الشاب لم يجبني "حقا" ؟، كان مندهشا، كما في قصة "عاشق اليهودية"، ولم أحك له أنني كنت عاشقا يائسا. مثل المعلم سعيد فايق، أعرف جيدا أنه من الصعب الكشف عن جانب مثل السقوط ولكن عن التحية في الارتقاء. والشاب، نفسه، واحد من الذين ينفر الارتقاء منهم.
أمضيت يومي أتسكع في الضواحي غير الخضراء كليا لبورصة الخضراء، متوقفا أمام قبور الأولياء، بادئا بقبر سومونغو بابا("أب أرغفة الخبز")، في غرف النساك الضيقة التي تطل علي الشوارع المقفرة، وراقدا في ظل أشجار الحور العتيقة. هل وجدت السلام أو الصفاء ؟ لا أعتقد. بالنسبة لي، كلمة "صفاء" لا تعني شيئا. في حياتي، لا مكان له. يجده البعض في الخبز الذي يخبزه سومونجو بابا في أفران مطلية بالصلصال، خبز ساخن، ناعم كما القطن، وفي لقاء الدراويش ذوي القلوب الكبيرة الذين اكتفوا "بلقمة ومزقة قماش"، بينما راح آخرون يبحثون عنه في الشراب. أنا، طفت كثيرا، ولكني لم أشمئز من الحياة. أري الي أن الحياة جميلة، ذوقي وجلدي يطلبان المزيد باستمرار، وان كان سوط اللذة يتغير شكله، أريد دوما المزيد، دوما أكثر، وهذا سوف يدوم حتي ... لا أحب هذه الكلمة، ولكن نعم، هذا سوف يدوم حتي الموت. أو لنقل بالأحري حتي الشبع، كأنه من الممكن أن أشبع.
لم يأت سومونغو بابا الي العالم كي يشبع، وانما لكي يطعم الآخرين. كان يريد أن يكون هذا العالم، عالم الشدائد، هذه الحياة القصيرة، مرسي السلام، ساحة هادئة في ظلال أشجار الحور العتيقة. اسمه الحقيقي شيخ حميد ولي، وقبل أن يصبح "خبازا"، غادر قيصرية، بلد مولده، كي يتجه الي منحدرات آرغييس، ثم دمشق وتبريز. وانتهي الي القدوم الي أردبيل حيث لاقي كوجا علاء الدين، حفيد الشيخ صفي الدين اسحق.هناك، كان بين يدين طيبتين، تم عجنه بعناية، كما العجينة، وتطهيره حتي أصبح مريدا صالحا. حينما تم تكوينه، وأخذ الاذن من شيخه، جاب الطرق واجتاز الآناضول من الشرق الي الغرب. ولما بلغ بورصة واستقر في الحي الذي يحمل اسمه اليوم، بدون أن يكشف عن شخصيته، بدأ يوزع هذا الخبز الشهي علي الفقراء والذين أطلقوا عليه اكمكشي كوجا (رجل الخبز) وسومونغو بابا. لم يقم بالتدريس في المدرسة مثل بعض الورعين المعروفين بصورة سيئة، وانما ظل بعيدا عن السراي والرجال النافذين وأمضي وقته في الصلاة والتأمل. ظل مستترا، لا يلتمس أية مساعدة من النافذين و- بينما كان يعد معلما عظيما وعلامة حقيقيا- اكتفي بتوزيع خبزه علي الناس. حتي جاء يوم طلب منه أمير سلطان أن يلقي خطبة في افتتاح أولو جامي (المسجد الكبير). علي مدي الحفل، الذي دار في حضور بايزيد الصاعقة، تحت الأنظار المذهولة للحشد المجتمع، حلل سومونجو سبعة أسرار في الفاتحة، ثم أدي صلاته، وتوجه للمرة الأخيرة الي الله تحت شجرة الحور الكبيرة المسماة "شجرة حور الصلاة"، وقد بان سره، غادر بورصة ولم يرجع اليها قط. تابع حياته كزاهد في السهوب، في تكية قريبة من آق سراي. درويش عجوز ذو لحية بيضاء، بعد ارتحالاته، عاش هناك حتي سن التسعين.
دوما أحياء، لا نموت
لا نبقي في العتمة
لا نتعفن في الأرض
جاهلين الليالي والنهارات
قالها في رباعية، واعظا الفانين من التمتع بثمرات الأرض قبل أن يتعفنوا في داخلها.
بمعني ما جاءني أن أخلط بين النهار والليل، وانما لأسباب أخري. كنت الي حد ما أشبه طالب الثانوي في احدي قصص سعيد فايق الذي لم يستطع أن يهبط من أعالي ستباشي. تسلقت منحدرات أولوباغ، ولكنه سمح لي برؤية المشهد الذي يمتد أسفل قدمي بصورة جيدة. اذا توجهت ببصري ناحيته، لن أراه، واذا رأيته، سوف أشعر أنني عنصر من عناصر المشهد وسوف أسقط في الفراغ.
لم أكف عن التفكير فيما قاله سعيد فايق، في (قصته) " قصة كهذه"، بصدد ما جري وقتما كان طالبا بليسيه بورصة. "لا تفعل هكذا يا بني. من السهل الهبوط. أي شخص سيتكفل بك. ولكن بعد ذاك، لن تجد مخرجا"، هذه الجملة ترن كصافرة انذار لدي من يضلون، من يلجأون الي الشراب أو المخدرات ويبحثون في الجنة المصطنعة عن وسيلة للهرب من الواقع.
في هذه الليلة، قبل أن أقابل هذا الشاب الذي سألني ان كان معي ثقاب ثم استجدي مني بعض المال والمخدرات، ولجت الفندق بعد سهرة أمضيتها في الشراب، غير أنني لم أستطع النوم، ولذا خرجت ثانية أتسكع في الشوارع الأثرية الملتوية لبورصة العتيقة. أ ليست الحياة شارعا طويلا مائلا للانحدار ؟ شارع يرتفع دوما. نعم، كما الحب، الحياة متاهة من الشوارع المنحدرة نضيع فيها. يتبدي لي أنني لم أملك شيئا لكي أمنحه الي هذا الشاب. بالتأكيد، كان معي ثقاب، غير أنه لي. بهذا الثقاب لن أستطيع أن أشعل سيجارته، واذا استطعت، لن يتحصل علي أية نشوة. المخدر الوحيد الذي أعرفه، ويحقق فضولي وأبحث عنه كما الحب بلا أمل، المخدر الذي أثار نشوتي هو الأولياء. الأحجية التي بررها الله. كما يقال في المخطوطات القديمة ذات الصفحات التي استهلمها الزمن. قرأت في المكتبات، جالسا في ركن منها. تصفحت بشراهة الكتب التي تبدأ بهذه الكلمات : "يرجو الشيخ من الله أن يحفظ سره"، كتيبات، سير، حيث الصفحات المغبرة تكشف بما تبقي منها عن مفاخر رجال الله، وأنسي أين أنا، حتي أنني أنسي الوقت نفسه. الزمن والفضاء اللذان يأتيان متزامنين، كنشوة عاشقة موزعة. في هذا المجال، علي أي حال، لم تثبط بورصة همتي. طوال اليوم، زرت أضرحة الأولياء، الأماكن المنعزلة التي انسابت حياة النساك في جوف أشجار الحور العملاقة المتصبة في أرجائها، وكنت أشعر أنني علي علاقة بهم. تأخر الليل عن الهبوط، النهار طويل، الحياة طويلة، الطريق طويلة. فقط اللذة قصيرة، تنحرق بومضة، كنار القش، وتنطفئ سريعا.
لم يكن هذا سر سومونغو بابا، من اللازم أن أعترف، الذي قادني الي أمير سلطان، وليس أكثر من قطتين جائلتين قرب الفرن لا تستعملان مجرفة الخباز. أنه الشاب الذي لاقيته في الشارع، والذي أصبح فيما بعد صديقي، الذي صحبني اليه. وبالأحري، كنت أنا من صحبه اليه. كما قلت، لا يستطع الوقوف ثابتا. بحثا عن سيارة أجرة، هبط معي نحو مرادية. تعلق بذراعي. في البداية، أزعجتني الي حد ما هذه التلقائية. غير أنني اعتدت علي هذه المشية المترنحة وشعرت بمودة نحوه. بينما ننتظر سيارة الأجرة، متأبطين، كانت أنوار المدينة تلمع تحت أقدامنا. أنوار البيوت مطفأة، والناس نائمون. بيد أنني تمكنت من رؤية مأذنتي المسجد الكبير منيرتين، القباب المتكورة في مكانها بين أسوار كوزاخان الحجرية و، من بعيد، ينبثق (ضريح) أمير سلطان قبالة التربة الخضراء (2) كمياه مائلة الي الزرقة تجري بين أشجار السرو.
في هذه الساعة الليلية، كان الضريح مغلقا. والمسجد أيضا. هبطنا الدرج ومارين بين عمودين، ولجنا الساحة الرحبة. جلست قرب النبع علي كتل من المرمر الذي يحيط بالحوض. لا نتبادل الكلام. غطست يدي في المياه وشعرت ببرودة لطيفة، فرح لا يوصف، راحة عذبة، تملكتني الرغبة في النوم. في المقبرة، أشجار السرو تندي، المآذن الحجرية المشذبة لا تنغرز في جلدي، لا تجرحني. وهكذا نسيت وجود الشاب، الحب الشهواني والمسخ الذي يسكنني ويلتمس بشراهة وبدون انقطاع المتع الجديدة. في الساحة المحاطة بالقاعات المفتوحة، انتظرت حفل أشجار جوديه. في مطلع النهار، حينما تتفتح أزهار هذه الأشجار، سيتوافد دراويش أمير سلطان نحوها. مرتدين ملابسا من الصوف، مع قشرة الجوز التي تتدلي من أعناقهم، ينتشرون في الساحة كحبات المسبحة ويجثون. قبل أن يشرعوا في ذكر أسماء الله، ربما سينفخون في ناياتهم، ويصطفون في دائرة، يصيحون أو يسبحون. ربما انتهي بعضهم من قضاء الأربعين يوما من أيام الاعتكاف، آخرون، مثل يونس امره، يذكرون ليلا ونهارا فضل الله. اعتقدت أنني سأسمع هذه الأبيات الشهيرة ليونس عن بورصة، التي تحتفي بقدوم الربيع وفرحة الدراويش بيقظة الطبيعة :
دراويش أمير سلكان
يمدحون الله
أنهم عصافير البهجة
في ضريح أمير سلطان
غير أن الدراويش لم يكونوا، هم فقط، من يترددون علي ضريح أمير سلطان. نهارات السوق، جمع قادم من القري المجاورة يملأ الشوارع، ينتشر علي المنحدرات ويجتاح المقبرة. رهبان مسيحيون هبطوا من أديرة أولوداغ، خارجين من مغاراتهم أو من أشجارهم الجوفاء. الأرض التي أنشأت تلتهب، المياه المتدفقة، الأشجار الزاهية والأزهار ذات الألوان العديدة، الأزرق، الأحمر، الوردي، أشجار جوديه، التي تزهر قبل الأوراق، كانت في حالة من النشوة. ظهر أمير سلطان. كان يعتمر عمامة خضراء من اثنتي عشرة لفة، يرتدي معطفا أسود طويلا ويحمل عصا من خشب الورد. جبته من صوف الآنغورا، الناعم واللامع، جديرة بمكانته. الزنار الذي تقلده في ذكري قمبر، الوفي لعلي، يتدلي من وسطه، حجر الخضوع المعلق في رقبته يتأرجح مع كل خطوة . يعبر عن معاناة نسيمي، منصور الحلاج، اللذين لم يرجعا عن طريقهما الحقيقي، وعن رحلة كافة الصوفيين المنزوين في صوامع الذين عقدوا أجسادهم في حبهم لله الواحد. يري علي وجهه الجميل النور الذي يتلألأ علي ذرية النبي وفي نظرته سلام من أدركوا هدفهم. اذ أنه، بدون موافقة السلطان، تزوج خوندي خاتون وأصبح صهر بايزيد. أنه من منح حماه لقب "الصاعقة" وأنه من قلده السيف قبل رحيله الي الريف. وقد رآه البعض أيضا، رفقه دراويشه، تحت أسوار القسطنطينية، مسلحا بسيف خشبي. بفضل معجزاته، نجح بايزيد من دحر الجيوش الصليبية في نيغبولو. الآن، أنه واثق من نفسه، ويعرف بمدي حب السلطان له وتمتعه بتقديره السامي، غير أنه ظل بعيدا عن مكائد السراي وسباق السلطة. قبل البدء في ذكر أسماء الله لأجل حفل أشجار جوديه، يمشي مائة خطوة في ساحة الضريح. يري بخاري حيث ولد وكبر، النزل البسيطة في المدينة التي أقام فيها لما زار قبر النبي، الأركان التي تكور فيها كي ينام حينما احتاج الي المال، الشوارع المغبرة اللا نهائية، الأشجار المنزوية وسط السهوب، الشمس المتأججة في سماء الصحراء، النجوم المعلقة أعلي الفراغ في الليالي الباردة. حتي اللحظة التي بلغ فيها بورصة، انزوي كي يحيا في بينارباشي، كان دوما معتزا بنفسه، بدون مساعدة ولا نصيحة.
وددت أن أقول له، بكلمات يونس : "أمير سلطان، يا من ارتديت الأخضر، السلام عليك!". ظلت يدي في مياه النبع حيث رحت أشعر بالطلاوة تنتشر في أوردتي. كنت كمن تطهر من الكحول الذي احتسيته بكميات متلاحقة مع الوجبة. كانت روحي متفتحة، بالاضافة الي تخيل حفل أشجار جوديه، تصورت الاحتفالات الربيعية التي كانت تدور عصر أمير سلطان. وفجأة فهمت لماذا كان رفيقي عند المنبع أراد أن يقودني الي أمير سلطان. بالتأكيد، فكر، هو أيضا، في معجزة حققها الولي الذي ارتدي الأخضر في روح الهلال الأخضر.
وعد بايزيد الصاعقة أن يبني عشرين مسجدا اذا انتصر في معركة نيغبولو. في غد يوم انتصاره، وبالعودة الي بورصة، بدأ العمل. اعترض أمير سلطان علي هذا القرار. اقترح علي سلطانه أن يبني مسجدا واحدا ذا عشرين قبة بدلا من قبة واحدة. وهكذا شيد بايزيد أولو غامي، المسجد الكبير. وحينما انتهي العمل في البناء، سأل السلطان أمير سلطان، ان كان هناك شئ ما ناقص، أجابه :
- كل شئ جميل وكل شئ في موضعه، يا سيدي. لا يتبقي سوي النزل.
تخيلوا ذهول السلطان. ومع ذلك، لم يكن فاقد الحس قبالة النقد الذي وجهه الي صهره.
- ماذا تريد أن تقوله ؟ لسنا في بيت لحم ! ما فائدة نزل في بيت الله ؟
- أنه نتاج خلق الله. أنهم عمالك، حرفيوك ومعماريوك الذين أنشأوا هذا المسجد الكبير. مثلما خلقك الله، جسدك نتاج يديه. اذا لم تكن تخشي، منكبا علي الشراب، أن تحول هذا البيت لحم، والذي هو جسدك، الي نزل، لماذا أنت خائف من ادخال الشراب الي هذا المسجد ؟
بعد هذه الموعظة، كما قيل، تاب بايزيد ولم يقترب أبدا من الشراب. لا أعرف ان كانت هذه الحكاية صحيحة. أفسر، بطريقتي، المصادر القديمة.
2006، بورصة
هوامش الفصل السادس :
( 1 ) سعيد فايق )1906-1954 (، قاص وشاعر تركي شهير.(المترجم)
( 2 ) التربة الخضراء، ضريح السلطان العثماني محمد الأول في بورصة، وسميت كذلك لأنها مغطاة بقطع الخزف الخضراء.
رؤية قونية
في اليوم التالي من وصولي قونية، كان من المتوقع حدوث خسوف القمر - كان الأول واضحا في كل مكان منذ ألفي عام، حسب الصحف. وسيظهر ظل كوكبنا مرتميا علي القمر في السماء الصافية والشفافة لسهولنا. بلا أي زخرف في وضوح القمر، ولا أصغر سحابة، ولا أدني نجمة، كانت السماء نقية، كثيفة بصورة مذهلة.
فجأة، بدأ القمر يتعتم. حينئذ، سمعت، من بعيد، فرقعات، قعقعات الصفائح والأواني، صافرات السيارات وصيحات النساء. هكذا، في قونية، كما في كافة مدن الآناضول، تمت تحية الخسوف بالصخب. من اللازم القول أن قونية احدي أكبر المدن المزدهرة في تركيا. لا يري المرء فيها الا الشوارع المغطاة بالأسفلت، المناطق الصناعية، البنايات الجماعية، وحتي ناطحات السماء. يرفع المرور المنظم رأس البلدية، وقد أهدت بلدية كولونيا المدينة مركبات ترام من ثلاث دواوين. هذه المركبات تربط جبل علاء الدين بالضواحي، غير أن المدينة لا تمتلك مطارا. سأكذب اذا قلت أنني نسيت أن أتكلم عن المدرج الذي ينبسط في وضوح القمر حينما هبطت طائرة شركتنا الوطنية التي حملتنا علي أرض القاعدة العسكرية، مرآب الطائرات وحاملو الحقائب يهرولون وسط الحراس المدججين بالسلاح. وبعد ذاك، في اللحظة التي اتجهنا فيها الي باصات البلدية التي تنتظرنا كي تحملنا الي المدينة، خسف القمر. كيف أنسي قطع الخزف الخضراء للقباب والامتداد المخروطي للمنارات التي تنتصب نحو السماء ؟ لنستشهد بأكبر متصوفينا وأكبر شعراءنا المتأججين، جلال الدين الرومي، بقول آخر مولانا :
شمس، كالهلال والبدر،
تعالي، بلا جناحين ولا ذراعين،
وعاودي مسيرتك الكونية.
لم أنم طوال الليل. خرجت من الفندق، المبني بالضبط قبالة ضريح مولانا، كي أتسكع في الشوارع الخالية. مررت أمام المسجد وارتكنت علي باب ضريح الشيخ المقام حسبما أمر سليم الثاني، ابن القانوني، سليمان العظيم، بينما كان وريثا للعرش. (في حلقة تلفازية، أطلقت علي هذا السلطان "سليم السكير"، مما أثار حفيظة بعض المشاهدين، بيد أنه من الواجب عدم نسيان أن سليم، المصور علي منمنة وفي يده كأسا من الخمر، مات في الحمام، بسبب نزيف مخي، في ليلة سكر !). تخلص القمر من ظل كوكبنا ولمع من جديد. من النافذة ذات القضبان الحديدية المفتوحة في الحائط الحجري، رأيت الساحة. مياه الحوض تسيل في جداول الينابيع المرمرية. في الماضي، كانت هذه المياه تنبجس من أفواه أسود حجرية وكانوا يقيمون احتفالاتهم الليلية حول هذا الحوض.
أحاول أن أصور الدراويش يدخلون، الواحد بعد الآخر، الي الساحة كي يرقصون رقصتهم الطقسية، السيما (1) بقلنسواتهم الكستنائية اللون، وأجسادهم المثنية في معاطف بيضاء، كأنهم قادمين من عالم آخر. كان الشيخ، ذو القلنسوة التي لف عمامة بيضاء عليها، يمشي خلف الآخرين. أخذ الراقصون أماكنهم في ساحة الصومعة. الصمت يلف المكان. لا يسمع أحد حتي همهمة النجوم التي تذوب في وضوح القمر. تربع الشيخ، باسطا جلد خروف تحت القباب الرصاصية، والدراويش يحيطونه وهم يتلون الأدعية. وهكذا بدأ لحن مرتجل علي الناي الذي يثير رجفة الليل. النغم، العتيق جدا، القادم من بعيد، ينسال عبر السنوات والقرون ويغسلكم، يطهركم كما المياه النقية.
رددت في نفسي البيتين الأولين من المثنوي، البيتين الأولين من ستة وثلاثين التي نسخها مولانا وأعطاها لحسام الدين جلبي ( 2) ذات ليلة، ربما كان قمرها ينير كما هذه الليلة هذه الساحة الحجرية والمياه تملأ الجداول المرمرية :
أسمع شكوي الناي الطويلة
دوما ينتحب علي الهجران.
انتزع الناي من قصب، ولهذا ينوح، مثلما ينوح انسان انتزع من رحمة الله. يحترقان رغبة ويؤوبان الي جذورهما، يلاقياها، يذوبان فيها، ينسخان فيها، يتلاشيان في الذات الحقيقية.
من، اذا، فصل روحك عن الحقيقة ؟
تنتظر لحظة الاتحاد.
مثل موتي بعثوا من نغم الناي، خلع الدراويش معاطفهم وأنشأوا يرقصون، ملابسهم ذات الأكمام الطويلة بلا رقبة ومقورة علي الصدر وقمصانهم الفضفاضة تشبه الكفن، يدورون بسرعة علي أنغام الناي، الطبلة والربابة، ويتفتحون في ساحة الضريح كزهور النيلوفر البيضاء. يتوسط الشيخ دائرتهم، علي جلد الخروف، مستغرقا في حلم بعيد، غاطسا في أعماق "عالم الادراك". كأنه غادر هذا العالم، وانمحي عن الواقع. راحلا الي رحلة تأملية طويلة، يطير بين الملائكة. حجب عينيه يتساقط الواحد منها بعد الآخر. الدراويش يدورون حول أنفسهم كما الكواكب حول الشمس. حسب قائد الرقصة، الرؤوس مائلة الي ناحية، الأيدي اليسري نحو الأرض، الأيدي اليمني نحو السماء، يذكرون، في همسة، أحد أسماء الله في كل مرة يضربون الأرض بكعوبهم. اسماء الله لا تعد ولا تحصي، أكثر من عدد نجوم السماء ونمل الأرض. الحياة قصيرة للغاية حتي نتعلمها، نحفظها ونعلنها. ولكن ليس الدراويش من يدورون هكذا مثل الدوامات تحت قباب الضريح، لا ! أنهم مؤسسو طائفة المولوية، سلطان ولد، باعث الرقصة الطقسية، افلاقي (3)، مؤلف الحكايات الأسطورية والكتابات العظيمة في مديح الله، حسام الدين جلبي، الذي دون المثنوي من فم مولانا. منتزعين عن الأرض، عراة من معاطفهم السوداء، يلاقون الالهي. يدورون، بلا دنس، نشوانين، غارقين في الجذب. في باريس، رأيت دراويشا يدورون، علي خشبة أصغر من هذه الساحة، وفي اسطنبول، تحت ثريات من البلور في المولوية، بحي غالاتا. ولكن شئ آخر أن أراهم يرقصون في قونية، قرب ضريح مولانا الذي يغمره نور القمر. اذ أن أول رقصة طقسية، حققها مولانا نفسه هنا، ليس تحت هذه القبة، وانما الي البعيد نوعا ما، في صمت سوق الصاغة، "الأعمي والأبكم" في العتمة.
في ذا الوقت، لم يكن بازار قونية يشبه، كما اليوم، سوق السلع القديمة. ولا هذه البنايات الأسمنتية، التي لا يضاهيها شئ في البشاعة، موجودة، وكذا هذه الحوانيت التي تبيع الأبسطة للسائحين. والبضاعة المزورة غير مختلطة بالتجارة الكبيرة. حتي أن آذان الصلاة لم يكن يتعالي من أعلي محال مسجد العزيزية المزخرفة بصورة ثقيلة، ولكن من أعلي المآذن القصيرة لمسجد صانعي الحبال حيث الجدران اللبنية ترتفع علي قوائم أفيال واقفة علي ظهور محال السوق حيث يهيمن النظام التعاوني وأخلاق الفتوات. كل طائفة مهنية تجتمع في فضاءها الرسمي وتتمتع بالتقدير العام. طائفة الخياطين ترجع الي النبي ادريس، طائفة الدباغين الي آخي افرن، طائفة الخبازين الي عمر البربري، طائفة الصياغ الي ناصر بن عبد الله، طائفة السقائين الي سلمان الكوفي، وكانوا يتمنطقون بزنار صوفي. لم تكن الشوارع، كما اليوم، مزدحمة بالجموع حيث يختلط السكان بالسائحين، خلال الصيف. في عاصمة السلاجقة، كان المسلمون والمسيحيون، اليهود والوثنيين يعيشون في وئام، وكان الجورجيون والقرامنليون، العرب والتتار، التركمان واليونانيون، يتسوقون من نفس الحوانيت ويترددون علي نفس الأنزال.
في ذا الوقت حيث كان البازار يحمل اسمه، كان مولانا يخرج في المساء كي يفصح عن حزنه. يداه الطاهرتان تجريان بشرود علي كمي جبته، يفكر في شمس تبريزي، صديق روحه الراحل، ويبذل قصاري جهده في رد سلام التجار الواقفين أمام حوانيتهم. ينحني المعلمون والأصدقاء والصبية باحترام، وبأدب طائفتهم، أمام هذا العالم الكبير، وكانوا يتشاجرون علي شرف دعوة هذا العلامة الذي يجمع بين الشيخ والمعلم الي حوانيتهم. غير أن الشيخ الولي كان حزينا، يمشي بلا تبصر ولا يحلم سوي برؤية شمس تبريزي، هذا الولي الذي قلب حياته رأسا علي عقب، هذا الرجل السامي الذي، منذ اللقاء الأول، غطسه في الجذب. بعد قرون، غني منشد ضرير، من نفس الروح، هذه الحالة الروحية، هذا السلوك الساهي :
علي طريق طويلة وضيق
أمشي ليلا ونهارا
أجهل حالتي
وأمشي ليلا ونهارا.
علي حين غرة، توقف مولانا وأصاخ سمعه الي صوت قادم من الطرف الآخر للسوق. فعل الحرفيون مثله. منفاخ الحداد لا يلهث، الأفران لا تسخن والحديد لا يزهر. لم يسمعوا سوي هذا الصوت الذي يشبه مطرقة تدق الذهب علي السندان. قال مولانا في نفسه أن الرقائق الذهبية أصبحت رفيعة للغاية. حينما تكون دقيقة أيضا مثل الورقة، ستساعد، في ورشة عامل التذهيب، علي تزيين مخطوطات الكتب العلمية، لقراءتها، التي نذز شبابه لها، وحتي تعمر طويلا. كأسماك تعكس لمعانها في المياه وموزاييك متعدد الألوان. فجأة، شعر مولانا بالفرح. وفي أعماق قلبه، غمرت النوستالجيا قلبه ازاء شمس الذي غرزه في كتبه كي يدفعه الي محيط العشق. لم يزل الألم غضا، وبقدر ما مرت أعوام وأعوام الا أن الجرح ظل مفتوحا. واضعا يده علي ياقة جبته، أغلق عينيه، شعر بنفسه وحيدا، ضائعا، وقد تخلي عنه الجميع، كدرويش جوال يغمره برد السهوب القارس. ثم استسلم للشوق الذي يسكنه. سقطت رأسه علي كتفه الأيمن وأنشأ يدور حول نفسه في بطء، ثم تدريجيا بسرعة، علي ايقاع دقات المطرقة القادم من ورشة الصائغ. بينما كان يدور حول نفسه، خفت النوستالجيا التي تستوحي شمس وانفتح قلبه. تتسارع ضربات المطرقة ورقائق الذهب تترقق علي السندان. وهو يراه يدور حول نفسه، أمر صلاح الدين، المعلم الصائغ، المشهور بورعه، صبيانه بأن يدقوا أسرع فأسرع. قفز من حانوته ودار حول نفسه، هو الآخر. مولانا، الحزين عشقا، والصائغ، راحا يدوروان حول نفسيهما. سحقت الضربات رقائق الذهب، غير أن الصائغ صاح في صبيانه طالبا أن يسرعوا الايقاع. من يعرف ان كان مولانا كان يتمتم في نفسه بكلمات الدرويش يونس، ناشر مذهب معلمه طابطوك، الذي قال لمولانا، في لقاء : "كتابك المثنوي طويل. لو كنت محلك، لكتبت فقط: "خلقت من لحم وعظام حتي أظهر أينما كنت" ؟ اذ أن مولانا
وجدت الصديق الأصيل
حتي سلبت روحي
عرفت الخسارة والمنفعة
حتي نهب حانوتي.
وبينما تطير رقائق الذهب في عظمة وقد عاثت الفوضي جوانب الحانوت، استسلم الصائغ للهيجان. يدور رفقة مولانا، رغم عمره المتقدم، تاركا خلفه رتابة البازار المألوفة، نبت له جناحان، وحلق بين النجوم. بعد هذا اللقاء، أصبح الصائغ صلاح الدين واحدا من مريدي مولانا، لم يتركه للحظة حتي ساعة الوفاة. ومنذ ذاك، عرف باسم زرقوب، وأصبح بصورة ما مرآة قلب مولانا. في هذا اللمعان، تتبدي صورته جميلة، أكثر واقعية وأكثر حميمية. لم يكتف بأنه عمل علي نسيانه شمس، وانما ساعد مولانا علي استلهام "مثنويه".
في عام 1249، خلال الاحتلال المغولي الذي قلقل أركان الدولة السلجوقية، نشأت السيما، الرقصة الطقسية، أمام ورشة الصائغ. لا تزال موجودة حتي اليوم. وفي كل دورة يبتعد الدراويش رويدا رويدا عن هذه الأرض مقتربين من "الواحد". بينما تحترق الشموع في الشمعدان الكبير، يذوبون ويسيلون في حالة من الجذب الجميل. باستعارة كلمات مولانا :
أنهم في الشوك، لكنهم الوردة
أنهم محبوسون، لكنهم الخمر
أنهم في الوحل، لكنهم القلب
أنهم في الليل، ولكنهم الصباح.
مع نداء الشيخ، تنتهي الرقصة. يغادر الدراويش الساحة، مثلما أتوا. يدخلون الي غرفهم أو الي مزرعة الورد المجاورة. بعد ساعة الجذب تلك، ليس لديهم الرغبة في ولوج المطبخ ! من الرائع أن نراهم يختفون هكذا رفقة شيخهم. أ لم يغب شمس، " السر الالهي"، في ليلة منيرة كتلك، مثلما تغيب الشمس بدون أن تترك أثرا خلفها ؟
مكثت متجمدا أمام الصومعة. لم تكن لدي الرغبة في العودة الي الفندق. في البعيد، كانت الكلاب تعوي. ومن الناحية الأخري للشارع، سمعت نعيب بومة، قادما من ساحة الثلاثة. في نفس الوقت يتوقف خرير المياه وتغرق الساحة في صمت غريب. فقدت تصور الزمن. لاصقا وجهي في النافذة ذات القضبان الحديدية، ظللت ساكنا. تدريجيا، تزداد النداوة الليلية للسهوب وتهبط العتمة علي القباب. تبدي لي أن القمر اختفي خلف سحابة. في المكان الذي كنت موجودا بين أرجاءه، لم أستطع رؤية الضريح. ولكن، حسب اعتقاد المولوية، من الممكن أن يظهر شمس في كل لحظة من فتحة الباب الذي ينفتح علي مكة، بوجهه النضر تحت تاجه، قلنسوته المخروطية المصنوعة من اللبد الأبيض، ونظراته المتأججة، وكما جذب مولانا، جذبني أيضا الي عالمه، في أعماق محيطه. لا، لست خائفا. علي العكس، ومثل مولانا، احترقت في ملاحقته عبر السهوب والصحاري، حتي دمشق وحتي تبريز أيضا، وفي اختراق سره. ولكن، كما المفتون، ظللت ملتصقا بالقضبان الحديدية للنافذة، لا أستطيع أن أنهض ولا أن أتحرك. وحيدا، مستغرقا في أحلامي، أستطيع فقط أن أتخيل هذا الزمن البعيد، علي ضوء القمر... أتخيل الشيخ يخرج من مخبأه، يتجه نحوي، يقترب من خلفي ويضع يده الطاهرة علي كتفي. حينما استدرت، لم أر أحدا ! ربما من يعرف ؟ - هل يبعث الي بعلامة من العالم المحجوب ؟ فجأة، غمر النور الساحة كلها، اعتقدت أن نور القمر يتضخم، وانخطف بصري. تخيلت أنني أري درويشا ذا لحية بيضاء يقترب من القضبان الحديدية. وجهه يشع نورا، يثير العمي كما الشمس. اقتضي الأمر أن أغلق عيني لثوان. حينما فتحتهما، لم يكن هناك أحد. الساحة، في نور القمر، خالية. فقط أمامي، كان قميص أحد الدراويش الفضفاض منشورا علي حجر. ارتجفت لما رأيته ملوثا بالدم. ثم اختفي بدوره.
ولكن من هو هذا الشمس ؟ اسمه ممتزج بكثير من الأساطير، كيف أن هذا الدرويش الغامض، الذي يحكي عنه الكثير من الأساطير كما الكثير من الأكاذيب، اختبر مثل هذا التأثير علي مولانا وألهمه أجمل قصائد "الديوان الكبير (4)؟
حسب المراجع القديمة، ولد شمس في تبريز وأصبح شاعرا جوالا متقشا، وعلي مدي رحلاته كان يقطن خان القوافل، مما جعله يستحق الاسم الذي أطلق عليه (شمس الطائر). اذا اعتقدنا في "المقالات"، الكتاب الوحيد الذي بقي لنا منه، حقق بعض المعجزات وكان شيخا ميالا للجذب الفجائي. نعرف القليل عن حياته، التي تحفظ أسراره. يقول، مثلا، في المقالات :
كان لدي شيخ في تبريز يدعي أبا بكر. يحيا علي جدل السلال. بفضله، اختبرت تأثيري علي الكثير من الأقاليم. بيد أن بي شيئا لا يراه شيخي. من جهة أخري، لم يره أحد. ومع ذلك، رآه مولانا، سيدي.
عاش شمس في قونية خلال السنوات التي فصلت بين كارثتين في التاريخ السلجوقي. بين موت علاء الدين كيكوباد، أعظم سلاطين هذه الأسرة (7321) ، وهزيمة كوزداغ 3421)، التي فتحت الباب للسيطرة المغولية. "ليتمم الله نعمته، وصل شمس تبريزي ذات صباح من صباحات اليوم السادس والعشرين من قمر جمادي الآخر من عام 642 هجري"،كما ذكر مولانا. منذ وصوله، اقترح علي مولانا، الذي كسب تقدير ومحبة الناس وهو ينشر تعاليمه، أن يعتكف في غرفته وأن يدرك الحقيقة، ليس عبر المعرفة، وانما عبر العشق. حكي افلاقي لقاء هذين المحيطين :
وزع درسه في مدرسة كرتاي، التي كانت تعتبر آنذاك أحد أكبر دور الثقافة. سأل أحد التلاميذ معلمه عن وجود النقطة المركزية. قال مولانا إن النقطة المركزية توجد في طرف الرواق وأن نقطة العشاق المركزية تقبع في قلب المعشوق ، ثم هبط من كرسيه، مضي أمام الوزراء وكبار الموظفين الذين يسمعونه والجالسين في الصف الأول الي جانب شمس تبريز، الجالس في الصف الأخير بين أفراد الشعب العاديين. ولم يفترق العاشقان. ولكن الاغتياب زاد وتحت ضغط المريدين الذين أصبحوا لا يرون مولانا كثيرا وحرموا من نقاشاته، انتهي شمس الي مغادرة قونية. أمر مولانا حسام الدين جلبي أن يكتب هذه الكلمات :
" جوهر الأرواح، سر المكان حيث نضع الشمعدان، سر الزجاج والشمعدان، نور الله فيمن جاؤوا من قبل ومن سيأتون من بعد، أن يمنحه الله عمرا مديدا ويشمله بعطفه، رحل يوم الخميس 21 من قمر شوال 643."
في التقاليد البكتاشية، هناك الكثير من الأساطير التي تحيط بشمس. تروي ولايتنامة لقاءه الأول بمولانا بطريقة مجازية وأكثر امتاعا عن شهادة افلاقي. حسب هذا النص، كان شيخ تبريز وليا كبيرا. وكان الحاج بكتاش الذي، بناء علي طلب مولانا، أرسله الي قونية. ومنذ قدومه، عالج سلطان ولد، الضرير، الأكتع والمقعد. ولكن يذكر كثير من الأسباب التي أكدت علي عظمة معشوق مولانا. ذات يوم، في مدرسة كرتاي، بينما كان مولانا ينشر تعاليمه، حقق معجزة معروفة علي نطاق واسع كاشفا عن أن العشق مهم أيضا كالمعرفة، علي السطح الحميمي كما في العالم الخارجي. في الواقع، كانت هناك سنوات عدة تفصل بين تأسيس مدرسة كرتاي وقدوم شمس الي قونية، ولكنها ذات أهمية لا تذكر. تدعونا روح الأسطورة، شعره، الي تخيل مولانا يدرس في هذه المدرسة، الي عرض اللقاء الأول بين هذين "المحيطين" تحت قبة هذه المدرسة. لأن كرتاي احدي الأبنية التي شيدها أحد المعماريين السلاجقة والتي لم تزل قائمة حتي اليوم. الآجر المزخرف بالمينا، تركيب القطع الخزفية والأحجار المخرمة، الأبواب الرخامية الثقيلة، خطوط مع شرفات مقوسة ومثلثات كروية الشكل مبنية بين الأقواس التي تقام عليها القبة، قطع الخزف الزرقاء-الخضراء وكرزية اللون لم تقاوم، للأسف ، غضب الزمن وتفتت، بيد أنها لم تزل تثير الانبهار. "لما ندخل، نلاحظ القبة السماوية المصغرة، الزرقاء، بالنجوم، المجرة وقوس قزح"، كتب ابراهيم خاكي قونيالي (5)
تخيلوا التلاميذ المبتدئين وهم ينصتون الي مولانا، متجمعين حول الحوض. الشيخ، متأملا القرآن الموضوع علي حامل خشبي أمامه، يشرح المعني العميق لاحدي الآيات. فجأة، يدخل درويش أشعث، في أسمال، قدماه ملطختان بالوحل، الي الساحة، يقترب من مولانا ويقعي أمام الحامل الخشبي. " عندما وصل شمس تبريزي إلي قونية كان مولانا يجلس بالقرب من نافورة وقد وضع كتبه بجانبه. أشار إليها شمس وسأل: ما هذه؟ وأجاب مولانا : هذه كلمات. لماذا أنت مهتم بها؟ !وسحب شمس الكتب في حركة مفاجئة وألقي بها في مياه النافورة. وسأله مولانا ربما بجذع : ماذا فعلت؟ في بعض من هذه الكتب كان ثمة مخطوطات مهمة ورثتها عن والدي ولايمكن أن توجد في موضع آخر... وللمرة الثانية يفاجيء شمس... مولانا، حيث مد يده إلي الماء وأخرج الكتب واحدا واحدا دون أن يصاب أحدها بالبلل.
و"المحيطان"، كأس خمر في يد كل منهما، يقومان بالرقصة الطقسية، مرتكنين علي أصوات الخانندة والساز. تدور القبة علي ايقاعهما وضي النجوم، المنعكسة علي قطع الخزف، والهابطة من السماء في الحوض.
شمس، كما نعرف، فصيح. روحاني ومتمرد في آن معا. يعمل علي تعميق معرفته الايمانية، كما هو مفهوم- بالجذب. أجاب شيخا يقول أنه ينظر الي النجوم عبر الحوض، كي يري جمال الله : "هل ؟ أنت مصاب بدمل في الرقبة ؟ من الأفضل أن ترفع الرأس وتنظر الي صفحة السماء !". لا يدين بأي فضل للمدرسة ولا للتكايا. كان خان القوافل، حيث يتوقف عنده المسافرون الأبديون، مأواه الحقيقي. سلطان ولد، في "الكتاب الأخير"، وفي قصيدته الأخيرة، يسرد أن مولانا الذي كان، قبل أن يلقي شمس، يقرأ حتي الفجر علي نور شمعة، وقع في جاذبيته وتغير كليا بعد قدومه :
ذات يوم جميل قدم رجل القلب، أمير حقيقي، ذات كاملة. كان الناس يسمونه شمس تبريز. ولكنه كان لدي المستبصرين نور الأنوار، السر الالهي... معشوق العالم، الولي الذي يحبه الله. حينما قابل مولانا شغف كل منهما بالآخر. أعجب مولانا بوجهه، جماله، خضوعه لله، عينيه المتوقدتين، نقاوته الطبيعية، طباعه البشوشة، فمه الشبيه بجوهرة محملة بالأسرار التي توزع كلمات السلام علي الذوات الحرة. الله، وقد أراده له، أخفاه عن أعين الناس لئلا يراه أحد منهم. هام مولانا به حبا كمجنون، كما في الحكاية، يحترق بليلي. بعيدا عنه، كان حائرا. اذا لم يستطع رؤيته، تأمل وجهه، يخور. لا ينفصلان كما الليل والنهار، لا يحتمل أيهما غياب الآخر. كان مولانا سمكة تحيا في مياهه، روحا وقلبا، كان كعبده.
هكذا ذكر عبد الباقي غولبيناري، الذي عرفنا الكثير عن مولانا وشمس في آن واحد، بأسلوبه الفذ العلاقة بين هذين الوليين اللذين يرقدان اليوم في قونية في ضريحين يبعد كل منهما عن الآخر (6) :
أنه، شمس مضطرمة، حارقة، تحجبها سحابة. محترقا، مفنيا، ناشرا نوره، يبين مولانا للعالم. أنه بحر ثائر، كبير ومتعذر سبر أغواره، ذو أمواج مزبدة. هائجا، ثائرا، منح مولانا، هذه الجوهرة النفيسة، لهذه الضفة.
في " خمس مدن"، لم يمنع أحمد حمدي تانبينار، مؤلف أحد النصوص المبتكرة والتي لم يكتب مثلها من قبل عن قونية، من أن يذكر شخصية شمس الغامضة :
بلا مراء، تجذب شخصيته كما العاشق. في نقاشاته، وجها لوجه، مع مولانا، كانت له ملاحظات، مختلفة عما ذكرته السير. ربما لم يقل شيئا. يكفي وجوده، نظراته وصمته أن يملأ الفراغ. بدءا من اسمه شمس - اذ أن هذا الاسم، كان موافقا لذوق العصر، كان محل نزاع - ، كل ما يلمسه، ومن ضمنه موته، غامض وملغز.
حينما غادر شمس قونية، لم يحتمل مولانا غيابه. ذاكرا آلام الفراق، كتب لأجله قصائده الصادقة. تبعه، علي الدوام، بفكره. انتهي بأن أرسل ابنه سلطان ولد حسب الأسطورة، وخضع هو الآخر أيضا له وتوفق الي أن يعود به الي قونية :
شمسي، قمري عادا
عيني، أذني، عادا
جسدي الفضي عاد
معدني، ذهبي عادا
نشوة رأسي عادت
نور عيني عاد (...)
ندائي في الرحلة عاد
جسدي الفضي الجميل
دخل فجأة من بابي (...)
يجب أن أشرب الخمر، الخمر
يجب أن تلقي رأسي بوميضها،
اذ أن اللحظة أزفت.
أريد أن أكون طائرا وأطير
ذراعي، جناحي عادا
العالم تزين بالأنوار
العالم كما الأصباح
أزف الوقت كي يصيح
أزف الوقت كي يزأر
أسدي الجسور عاد.

وأنشأ الأسدان يزأران في ألفة. غادرا اعتكافهما، غطسا في بحر العشق وفي جذب الرقصة المقدسة، واضعين نهاية لتوبة مريدي مولانا. كان شمس هدف مؤامرة يحيكها علاء الدين جلبي، ابن مولانا، وسقط في شرك ينتظره بساحة الصومعة. وقتذاك، لم يكن هذا الحوض الذي أراه قبالتي، ولا هذه المياه التي تنساب في نور القمر موجودين هنا. وكما هو معروف، ولا حتي هذه القبة المزينة بقطع الخزف الزرقاء التي أميزها بالكاد في العتمة. كان مولانا لم يزل في صحة جيدة. غير أن والده، بهاء الدين ولد، "سلطان العلماء"، وعائلته تركا مدينة بلخ، من أعمال خراسان، للاقامة في قونية، والضريح والصومعة أقيما في مزرعة ورد منحها له علاء الدين كيكوباد. وهكذا كان شمس يتناقش مع مولانا في غرفة من غرف هذه الصومعة لما رجاه علاء الدين جلبي بالخروج. ربما كان عاشقا لكيميا خاتون، زوج الشيخ والابنة المتبناة من قبل مولانا، علي الأقل لم يرد الانتقام من هذا المتطفل الذي أفقد والده الصواب. قال الشيخ لمولانا : "يناديني لموتي". سادت لحظة صمت. أتخيل أن الصديقين يتبادلان النظرات. بالتأكيد، كانا متقابلين، ولكن منذ ذاك كانا ينظران الي الكون بأعين روحيهما، واعتادا الانصات الي صخب الطبيعة بآذان روحيهما. اغتيابات قبيحة تمتزج بهذه الأصوات المتناغمة :
يقول العدو أشياء عبثية
تسمعها أذن روحي
أشياء قبيحة تحاك في النواحي
تراها عين روحي
يدفع كلبه نحوي
يعضني الكلب في ساقي
أتألم، أتألم بقوة
لست كلبا، لن أعضه أبدا
سأعض شفتي.
هكذا تشكي مولانا في قصيدة له. ساد صمت مخيف أرجاء الصومعة. في الخارج، علي وجه الأرجح، كانت أشجار السرو تدمدم بمشقة، أو ربما كانت تبكي وكانا يسمعان صوت قطراتها. نعم، هو ذاك، المطر يتساقط بطيئا، "بالكاد مسموع، كصوت المتآمر، كقدم المارق العارية التي تركض في الليل علي الأرض الرطبة".
سمعت أذن الشيخ هذه الخطوات في الساحة. بعد وقفة طويلة، همس مولانا بهذا الآية القرآنية : "ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين" الأعراف 54 خرج شمس. الظلال، في العتمة، تضربه بقبضاتها وتلقي بجثته الي البئر.
انتظر مولانا شمسا بلا جدوي لكي يستعيد النقاش المبتور معه. مضت دقائق، ساعات، شهور، سنوات. مر صيف، فخريف، ولحقهما الشتاء فالربيع، ولم يعد. أخفوا موته طويلا. لم يزل مولانا يأمل عودة رفيقه الأثير في يوم من الأيام ولا يتركه ينتظر. بحث عن سلوته في الشعر، الموسيقي والرقص. ربما، كما بينت احدي هذه القصائد، تخيل ما جري، غير أنه رفض تصديقه.
أعرني أذنك، اسمعني
هو ذا يقوله قائد الحرس :
رجل القلب اختفي في هذه
الضاحية
وجدنا أثره علي الطريق
هناك، كما قال، أثار واضحة
وقميص ملطخ بالدم (...)
دم العشاق يبقي طويلا هكذا
دوما نديا، دوما فاترا
(...)
أنت أيضا، في يوم من الأيام، سيقتلونك كذلك
ستدخل الي الحياة الأبدية
وتكون لك روح الشهيد أيضا
السلام عليك، يا تبريز !
وفي قصيدة أخري :
اذا رأيت الناس مجتمعين، أيها المنادي،
صح بلا توقف
أيها الناس الطيبون هل جعلتم رجلا يفر (...) ؟
يجب أن يعرفوه، احمل الي شيئا من
أخباره، أيها المنادي
أن يأتي أحد الي يعلمني
ما جري له
أسلمت روحي، أيها المنادي، أنها
متجهة نحوه
منحت روحي وسوف تلقاه.
هكذا صاح. حتي لقاءه بالصائغ صلاح الدين، كان يلقي الناس الذين يأتونه بأخبار عن شمس ببشاشة. حينما يقال له أنها كاذبة، يجيبهم : "منحت عمامتي وملابسي لأجل خبر زائف، ولأجل خبر صادق، أمنح روحي".
في الغد، اخترقت ساحة الصومعة رفقة جمع غفير من السياح. حلت الشمس المحرقة محل نور القمر وأنهت رؤاي الليلية. زرت أولا غرف الدراويش. اعتقدنا أننا في محل بقالة. مشجعين، بلا ريب، من قبل البلدية المزدهرة، يأخذ الباعة الجوالون نقودا من هؤلاء القادمين من أركان العالم الأربعة مقابل بضاعة زهيدة : نشرات تشرح عقيدة المولوية، قصعات، آنية من الخزف وأسقاط أخري. وددت أن أفعل كما المسيح، أن أطرد هؤلاء التجار من المعبد. كان لمولانا الحق لما قال : "تطعم قونية عقربا علي اناء ذهبي". هذه الصومعة ليست متحفا، أنها، فعلا، سوق. أمضيت ساعات أمام الواجهات التي تعرض الأشياء التي تنتمس الي الدراويش، محاولا أن أتجنب هذه التجارة. اذ
أن في هذه الواجهات يشعر المرء أن روح هذه التكايا لم تزل تخفق وأن هذه الطوائف، طوائف الدراويش التي، بعد أن زالت، أهملت وأغلقت من قبل الجمهورية. هي ذي أول مرة أذهب فيها الي قونية، وكنت مفتونا. أردت أن أفهم الموضوعات الرمزية لنظام المولوية الذي يعبر ربما عن مظهر مؤثر من مظاهر ثقافتنا القديمة، حاولت أن أبين لنفسي نمط الحياة.
لكي أتغلغل الي عالم هذه الموضوعات، لا يكفي أبدا أن أعرف النسيج الاجتماعي للآناضول خلال العصور الوسطي، الأحداث التاريخية، الاحتلال المغولي وأيام مجاعته والخراب الذي رافق الثورات الأولي التي أفضت الي الانتقام النهائي. من اللازم أيضا فهم لماذا غادر رجال هذا العصر تدريجيا الواقع اليومي كي يتجهوا نحو الصوفية، كيف، بدلا من البحث عن السعادة علي هذه الأرض التي رآها مولانا "عالم الفجور"، انجذبوا الي الاتحاد بالخالق ؟ من اللازم الاهتمام بدور الأولياء القادمين من خراسان الذين استقروا في هذه البقاع، مثل الحاج بكتاش المتحول الي حمامة، معرفة حياتهم الاستثنائية التي حكتها السير لنا. علي ضوء هذه الاعتبارات اختبرت الفؤوس التي تحمل اسم علي بالحروف العربية، التي كان الدراويش الجوالون يحملونها دفاعا عن أنفسهم ضد الحيوانات البرية، القصابات المصنوعة من قرون الآيائل أو قرون الحملان، الوريقات التي كانوا يضعونها في مكانها المخصص قبل أن يعلنون توبتهم، القصعات التي كانوا يعلقونها في رقابهم قبل أن يذهبوا يتسولون في الأسواق، كي ينتصروا علي عجرفتهم ويؤدوا دور الذليل. قرب السراي، ولدت المولوية، كما البكتاشية، لدي فلاحي الآناضول، تعلي من شأن التواضع، الصداقة، الأخوة والاحسان، وبحثت في هذه الفضائل عن طريق الوصول الي الحقيقة. كأننا نسمع هذه الرباعية التي تنسب الي مولانا، علي الرغم من أنه لم ينظمها علي الأرجح، كانت التكايا تؤسس ملاذا للشعب، مكانا للتسامح بلا معادل خلال هذا العصر :
تعال، تعال، أ يا كنت
كافر، وثني أو مجوسي
صومعتنا ملاذ الأمل
تعال، وان كنت صيادا قاسي القلب.
هذه الأبيات منقوشة علي الضريح. كما دونها ابراهيم خاكي قونيالي في "تاريخ قونية"، هناك اثنان وثلاثون تابوتا حجريا، بالضبط، متراصة في الداخل، بدون نظام محدد. في الواقع، يشبه الضريح الي حد ما متحفا عن مدفن عائلي. كان تابوتا مولانا وابنه سلطان ولد، المصنوعان من خشب الجوز منحوتين علي الطراز السلجوقي، يتصدران محل الشرف، عند الرأس، عمامتان، ويحملان نقوشا ومكسوان بشالين خضراوين غامقين من لاهور. مذهولا، وقفت أمام نص أطرته السلطات العليا أمام التابوتين. في الواقع، الموتي ينفصلون عن الأحياء. في ذي الليلة، في حلمي، وبدون شك متأثرا بشمس، خلطت بين العالمين.
قال امره : "من يترك العالم الكاذب / لا يملك شيئا يقوله ولا يحمل جديدا". غير أنني وددت سماع صوت مولانا يرن تحت القبة. بالتأكيد، يتكلم اللغة الفارسية وهذه اللغة تتبدي لي أيضا واضحة ورائعة كالتركية، ومع ذلك، الصوت كالمياه الرقراقة، يحملني علي موجه. لنسمع :
نحن، نحن رحلنا،
حظ سعيد لمن بقوا
كل من يولد يفني
من في السماء يعرفونه
كل حجر ملقي من سقف يسقط
اذا كنا أشرارا تركنا هنا
خبثنا
اذا كنا أخيارا، احفظوا لنا ذكري
طيبة
ان اعتقدت أنك الابن الوحيد للزمن يوما ما سترحل مثل كل من
رحلوا.
لم يكتف مولانا بالقول، كما يونس امره، الدرويش الجوال القادم الي قونية : "حظ سعيد لمن بقوا !". أكد أننا اذا غادرنا العالم، تستمر الحياة :
أنظر الي هذا الشلال من الرمال
لا يعرف وقفة ولا راحة
أنظر كأن عالم يتهشم فجأة
وهو يلقي بأسس عالم جديد.
بعد ربع قرن من وفاته بالكاد، انهارت الامبراطورية السلجوقية الكبيرة. بينما عالم آخر يحتل مكانها، القصائد الغنائية للمنتصرين القدامي تبقي محفورة علي أطلال قصورهم. لنشكر هؤلاء الرجال الذين أعادوا بناء هذه النقوش، وفكوا رموزها بجهد عظيم وأوصولنا اليها.
قونية باريس 1997

الهوامش :
( 1 ) رقصة السيما، الرقصة التي يقوم بها الدراويش وهذه الرقصة مستلهمة من التاريخ التركي والعادات والاعتقادات التركية. تمثل رقصة السيما رياضة روحية ورحلة للوصول الي الكمال بطريقة الالتفاف حول الحقيقة الخالصة المجردة وبعد الانتهاء من هذه الرحلة يجد نفسه من يقوم بها انه وصل لمرحلة من الكمال الروحي. يتمثل ذلك في النضج وتقدير الحب والمساواة بين البشر، بغض النظر عن الطبقية والاعراق والأجناس ويحتفل الأتراك الصوفيون بهذه الرقصة و يقومون بها بذكري ميلاد مولانا جلال الدين الرومي الفيلسوف المتصوف. (المترجم)
( 2 ) حسام الدين جلبي، صديق ومريد جلال الدين الرومي، حفظ تراثه الروحي.
( 3 ) شمس الدين أحمد افلاقي ، أحد أول كتاب سيرة مولانا جلال الدين الرومي، من كتبه :"مناقب العارفين".
( 4 ) الديوان الكبير، أو ديوان شمس تبريزي الذي كتبه في موت صاحبه الأثير وملهمه في طريق التصوف والشعر. (المترجم)
( 5 ) ابراهيم خاكي قونيالي )1894 1984 (، مؤلف كتاب "تاريخ قونية".
( 6 ) لشمس تبريز شيخ مولانا جلال الدين الرومي ثلاثة أضرحة، واحد في خوي بأذربيجان و له ضريح في مدينة ملتان و كذلك في قونية، حيث وجد مؤخرا البئر التي أخفي علاء الدين جلبي فيها جثة شمس تبريز. (المترجم)
(*) ترجمة الفصلين الأخيرين بموافقة خطية من المؤلف - من كتاب "سبعة دراويش" لنديم غورسيل، والكتاب تحت الطبع :
Nedim Gürsel ، Sept Derviches ، Seuil ، 2010 .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.