كان الرومي شاعرا صوفيا ذا فلسفة روحية وفكرية امتزجت حياته الفكرية بحياته العملية مما جعل تصوفه مزيجا من الفلسفة والحكمة العملية استمد عناصرها من الانسان وليس شاعرنا مبدع هذا الاتجاه في التصوف ولكنة أفصح الالسنة في التعبير عنه وألمع العقول في إبداع فلسفته وابتكار افكاره وللتعرف عليه عن قرب لابد من الاقتراب من حياته وعصره. من هو؟ فهو"جلال الدين محمد بن محمد بن حسين بن أحمد بن قاسم بن مسيب بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق" و بذلك فإنه ينتمي بالنسب إلي الخليفة أبي بكر الصديق. ولد في مدينة بلخ (خرسان والمعروفة حاليا بافغانستان ) يوم السادس من ربيع الاول عام 604 هجرية الموافق سبتمبر 1207 ميلادية ولذلك لقب بجلال الدين محمد البلخي ولكن اللقب الذي غلب عليه وعرف بين الباحثين والعلماء علي مر العصور هو الرومي نسبة الي ارض الروم ( بلاد الاناضول ) ارض المهجر التي انتقل اليها وقضي معظم حياته ويعتقد بعض أتباعه أنه ولد في مدينة صغيرة تسمي واخش في طاجيكستان الحالية. وكان والده محمد بن الحسين الخطيبي البكري والشهير ب"بهاء الدين"، من العلماء وقد لقب ب"سلطان العارفين" لما له من سعة في المعرفة والعلم بالدين والقانون والتصوف كما كانت عائلته تحظي بمصاهرة البيت الحاكم في "خوارزم". لان أمه مؤمنة خاتون ابنة خوارزم شاه علاء الدين محمد اول من تلقي ضربات الغزو المغولي لبلاد الاسلام. وفي الثالثة من عمره في عام 608 هجرية هاجرت عائلته هربا إلي نيسابور لقدوم المغول ورأي اخر يقول الهجرة كانت نتيجة الاضطهاد الذي لقيه والده علي يد علاء الدين محمد خوارزمشاة ، حيث التقي الرومي هناك بالشاعر الفارسي الكبير فريد الدين العطار،,وقيل انه زوده ببعض الكتب المذهبية ومنها ديوانه المشهور " الهي نامة " او " أسرار نامه " والذي أثر علي الشاب وكان الدافع لغوصه في عالم الشعر والروحانيات والصوفية. ومن نيسابور سافر مع عائلته إلي بغداد ومنها الي مكة ثم استقر في مدينة ملطية فاقام فيها اربع سنوات وبعدها توجهت العائلة إلي الأناضول بدعوة من علاء الدين كيقباذ حاكم الأناضول واستقروا بقونية عاصمة الدولة السلجوقية وبالتحديد في قرامان لمدة سبع سنوات حيث توفيت والدته. وتزوج الرومي بجوهر خاتون وأنجب منها ولديه: سلطان ولد وعلاءالدين شلبي. وعند وفاة زوجته تزوج مرة أخري وأنجب ابنه أمير العلم شلبي وابنته ملكة خاتون كان جلال الدين يأخذ العلوم عن والده وبعد وفاته وصل الي قونية العالم الكبير برهان الدين محقق الترمذي والذي كان صديقا لوالده. وقد سمع عن كرم سلطانها علاء اليدن السلجوقي فلجأ اليها بعد ان اخرجه الغزو المغولي من موطنه الاصلي وشغل برهان الدين منصبا وعظيا في قونية انذاك خلفا لوالد جلال الدين الرومي وقد تلقي علي يده العلم والمعارف الحقانية كما أشار عليه بالتوجه إلي حلب طلبا للعلم. إذ كانت آنذاك إلي جانب دمشق من أهم مراكز العلوم الإسلامية. ثم ارتحل إلي حلب فأقام فيها بعض الوقت يدرس ويتعلّم، ومنها انتقل إلي دمشق وقضي فيها أربع سنوات حيث درس مع نخبة من أعظم العقول الدينية في ذلك الوقت. والتي كانت مقراً للشيخ محيي الدين بن عربي، فالتقي به ودرس علي يديه وزامل صدر القوني تلميذ ابن عربي، ولعله تأثر بابن عربي وبآرائه في شعره كما هو المعروف من تأثير ابن عربي وآرائه علي فكر المعاصرين له والمتأخرين عنه في الفلسفة والعرفان. والتي طورت جلال الدين في كلا الجانبين، جانب المعرفة وجانب العرفان كما كانت علاقته بدمشق وطيدة وثيقة لأنه درس فيها وسافر إليها مرتين وأرسل أبناءه لتحصيل العلم فيها. عاد الي قونية عام 638 هجرية وكان غياث الدين خسرو قد اصبح سلطانا عليها وهناك بدأ جلال الدين يمارس العمل الذي اعد نفسه له وهو الارشاد والوعظ تولي جلال الدين التدريس في قونية علي المذهب الحنفي، والوعظ، ولم يعرف عنه نظم الشعر حتي بلوغه الأربعين. وكان يحيا حياة وادعة. يحتل فيها مكانة كبيرة في مجتمعه، مرموقا في مجلسه وحلقة درسه وعلي منبره ظل علي هذا الحال اربع سنوات . وفي فجر السبت السادس والعشرين من جمادي الآخرة سنة 642ه.. 1244م ، وصل إلي مدينة قونية الشاعر الفارسي الكبير مولانا شمس الدين تبريزي باحثا عن شخص يجد فيه خير الصحبة،وعلي عادته في النزول بخان دائما، كلما وصل إلي مدينة، نزل في خان (شكر فروشان) أي باعة السكر، حيث اتخذ حجرة لنفسه، وكان يضع علي بابها دينارين أو ثلاثة مع القفل، ثم كان يربط المفتاح بزاوية خرقته ويلقيها علي كتفه، ليتوهم الناس أنه تاجر كبير، في حين لم يكن بالغرفة إلا حصير قديم وإبريق مكسور ووسادة من طين" . عالم الشعر والخيال وبينما كان يجلس جلال الدين في أحد الاركان المنعزلة في خلوة نفسية بقرب غدير ماء مر به شيخ كبير رأي عليه علامات الاجلال والاحترام فرحب به واجلسه بجواره وراح ينظر اليه بتمعن دون ان ينطق بكلمة واحدة فقال له الشيخ ماذا تفعل هنا يابني وحيدا ؟ فابتسم جلال الدين بحياء وقال ابحث في عالم الشعر والخيال واستلهم الوحي والجمال واتأمل في هذه الموجودات التي اوجدها موجودها فيختلط علي فلا أشعر كيف السلوك الي معارج الحقيقة الكامنة خلف هذه الموجودات فقال له الشيخ بعد ان اخذ بعض ما كتبه الرومي من اشعار وألقاه في الماء انا من يدلك علي ما تبحث عنه واخذ يدله بعمق شديد علي الطريق الواجب سلوكه لسبر اعماق علم الحقيقة فاعجب به وامسك بتلابيبه وقال له لن ادعك تذهب دون ان تكمل ما انت بصدده ثم جري التعارف بينهما وكان ذلك الشيخ هو التبريزي فاخذه الرومي الي داره وبقيا معا لا يفترقان ولا يعلم احد كيف تحول الرومي لقد استطاع شمس تبريز ان يبعده عن تلاميذه ويعرض عن الوعظ وينصرف الي المعرفة الحقانية انقلب تيار حياته نتيجة هذا اللقاء وكانت لحظة حاسمة في حياته غيرت أفكاره وسلوكه وطموحاته. ولما كان شمس الدين، عند دخوله قونيا، في الستين من عمره، فقد حدد تاريخ ولادته، علي وجه التقريب بسنة 582ه يقول السيد أبو الحسن الندوي -رحمه الله-: "كان جلال الدين منهمكاً بالتدريس والفتيا في مدينة قونية يدرس علي يديه الكثير، وفي يوم ما من سنة 642ه، كان خارجاً بموكبه المهيب وتلاميذه والناس بين يديه يسألونه إذ اقترب منه رجل مجهول وسأله: ما المقصود من الرياضات والعلوم؟ أجاب المولوي: الاطلاع علي آداب الشرع. قال الرجل في هدوء وثقة: لا، بل الوصول للمعلوم. وأنشد بيت النسائي: إذا لم يجرّدك العلم من نفسك فالجهل خير منه" وذكره الشيخ المطهري فقال «كان المولوي في بداياته منصرفاً كغيره من العلماء للتدريس والتعليم، حتي التقي بشمس تبريز العارف المعروف، فتعلّق به بشدّة وترك لأجله كل شيء». وقد وجد الرومي في شمس تبريز ضالته، ولم يفترق الصاحبان منذ لقائهما، حتي إن تقاربهما ظل دافعا لحسد الكثيرين علي جلال الدين لاستئثاره بمحبة القطب الصوفي التبريزي. وقد ورد ان تلاميذ الرومي حقدوا علي ذلك الشيخ الذي صرف عنهم استاذهم وهاجموه فما كان منه الا أن سافر سرا الي دمشق فحزن جلال الدين لهذا الفراق حزنا شديدا مما دعي ابنه سلطان ولد للسفر الي دمشق واعادة شمس تبريز وفي عام 644 في شهر ذي القعدة حدثت فتنة في قونية قتل شمس تبريز وايضا ابن جلال الدين الرومي البكر علاء الدين فتألم الرومي لفقد مرشده وولده فبكي من اعماقه وهتف بقصائد غاية في الحزن والالم وجرت علي ذلك أقوال كثيرة إلا أن الأسي أصاب جلال الدين الرومي علي هذه الفاجعة اغتيل التبريزي ولم يعرف قاتله. وقد أضاف جلال الدين الرومي الرقص والغناء لما تعلمه من شمس الدين التبريزي حيث مزج المعتقد بالموسيقي للوصول إلي الأعالي ويقولون إن الروح تتدمر ثم تحيي بالموسيقي والشعر في الرقص الدوار. قام أتباعه وابنه سلطان ولد بتأسيس الطريقة المولوية الصوفية والتي اشتهرت بدراويشها ورقصتهم الروحية الدائرية (المولوية) التي عرفت بالسمع والرقصة المميزة من هو شمس الحق الذي قلب مولانا جلال الدين بلخي رأسا علي عقب، وأشعل النار في قلبه وروحه، وكان السبب في تدفق نحو ثلاثة وأربعين ألف بيت من الشعر الذي لا نظير له؟ كان الرومي يقدم المواعظ والمحاضرات إلي مريديه ومعارفه وللمجتمع. ووضع معظم أفكاره في كتب بطلب من مريديه. وتوفي في 17 ديسمبر وحمل نعشه أشخاص من ملل خمسة إلي مثواه الأخير بجانب قبر والده. وسموا اتباعه هذه الليلة بالعرس ومازالوا يحتفلون بهذه الليلة إلي الآن وقد خلف لنا بعد وفاته تراثا منه المنثور ومنه المنظوم. المجالس السبعة: وتتضمن المحاضرات التي كان يلقيها في مدارس الوعظ والإرشاد الرسائل: عبارة عن مجموعة من الرسائل كتبها إلي أقربائه وأصدقائه. فيه ما فيه: مجموعة من أحاديث جلال الدين ومحاوراته ومواعظه. الرباعيات: وهي منظومة أحصاها العالم الإيراني المعاصر بديع الزمان فوزانفر، كما وردت في طبعة اسطنبول، فوجد أنها تبلغ 1659 رباعياً، أي 3318 بيتا. ديوان شمس تبريز: ويشتمل علي غزليات وقصائد يبلغ عددها 3500 قطعة، ونظمت في بحور متنوعة، ويبلغ عدد أبيات الديوان نحو 43 ألف بيت. المثنوي وهو شكل من أشكال الشعر الفارسي، عرف في عهد مبكّر من تاريخ الأدب الفارسي الإسلامي، ونظمت فيه أعمال خالدة وتعني كلمة مثنوي بالعربية النظم المزدوج، الذي يتّحد به شطرا البيت الواحد ويكون لكل بيت قافيته الخاصّة، وبذلك تتحرر المنظومة من القافية الموحدة اتخذ الرومي الموسيقي والرقص سبيلا للوصول إلي الله فالموسيقي الروحية بالنسبة له، تساعد المريد علي الشفافية ومما تجعله في حالة من الوجد تأخذه في رحلة يعود فيها الي الواقع بشكل مختلف. فالتنصت للموسيقي هي رحلة روحية تأخذ الإنسان في رحلة تصاعدية من خلال النفس والمحبة للوصول إلي الكمال. والرحلة تبدأ بالدوران التي تكبر المحبة في الإنسان فتخفت أنانيته ليجد الحق الطريق للوصول إلي الكمال. وحين يعود المريد إلي الواقع، يعود بنضوج أكبر وممتلئا بالمحبة ليكون خادما لغيره من البشر دون تمييز أو مصلحة ذاتية. ولصوت الناي رمزية خاصة لديه فأنين الناي أنين للإنسان وتوق لأصله الذي فصل عنه بنغمة تذيب كل مستمع وتجعله بهيجا ومسرورا للموسيقي... فالموسيقي كانت السيمفونية التي جمعت ( الناي/ الإنسان) بمفردات عالم متضاد يرقص بإيقاعات دوارة متناغمة ودوران الأرض، تعبيرا عن التوحد المحب لكل جزء منها، و لعله السبب في انتشاء الرومي بالدوران وعدمه فيه إلي حد صير العدم وجودا، وصير الألم ياقوتا أحمر شبيها ب«بلاسيو» دانتي في خاتمة الكوميديا الإلهية.