في الوقت الذي أطلق فيه الأديب الفرنسي أندريه مالرو مقولته الشهيرة: القرن الحادي والعشرون سيكون قرن تدين أو لا يكون. كان الفيلسوف الألماني مارتن هيدجر يصرح لمجلة دير شبيجل بأنه: لا يمكن أن يخلصنا اليوم إلا إله. هيدجر بدأ كتاباته الأولي حول القديس أوغسطين, وتأثر بقوة ببعض كبار رجال اللاهوت وفي مقدمتهم المعلم ايكهارت(القرن الرابع عشر), الذي كان له تصور صوفي للألوهية قريب من تصور ابن عربي. أما المفكر الإسلامي محمد إقبال فقد عبر بطريقته عما قاله مالرو وهيدجر, وعقد موازنة بين جوته وجلال الدين الرومي في كتابه( أسرار الذات), وأثبت أن المشترك بينهما البحث عن الحق. وهو ما عرف في الفكر الاسلامي الوسيط بالتصوف. منذ ذلك الحين بدأت النظرة إلي التصوف بشكل عام تأخذ منحي جديدا, يتجاوز فكرة التأثير والتأثر في الأديان المختلفة, وأوجه التشابه والاختلاف في تجلياته المتعددة. فالشائع هو أن ما يجمع بين التصوف الإسلامي والرهبنة المسيحية مثلا هو البحث عن اللقاء بالله. فالله هو كل شئ في التصوف الإسلامي, ولا وجود خارج نطاقه, والمخلوقات, بما فيها الإنسان, لا تملك كيانا خاصا بها. بينما في الرهبنة المسيحية, المخلوق البشري موجود, وليس وهما; أي أن الله لا يلغي الوجود البشري أو ينفيه. الكيان البشري هنا ليس متماهيا, ليس ملغيا, بل يبقي حاضرا. وثمة رباط محبة مع الله, لا رباط يمحو المتصوف في ماهية الله, فيما يعرف ب الفناء. هذه النظرة طورها تور آندريه, وهو يري أن الاتحاد بالله ليست له علاقة بتحول ميتافيزيقي, وإنما بتحول ديني أخلاقي,فالاتحاد بالله يعني أن مشيئة الله تصير مشيئة الإنسان, وان الإنسان يحل في صورة الله, بالمعني الأخلاقي. إن الاتحاد بالله, هو المحتوي الحقيقي للفناء. بيد أن اختفاء الذات لا يعني, من حيث المبدأ, بالنسبة للصوفي, شيئا آخر غير الذي يعنيه بالنسبة لبولس الرسول حين قال:( مع المسيح صلبت, فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا في). ويطلق التصوف الإسلامي علي الحياة الجديدة مع الله التي ستحل مكان الوجود الذاتي الأناني مصطلح البقاء, وبهذا المعني يكون( الفناء هو التلاشي بالحق, والبقاء هو الحضور مع الحق) تسلط ما بعد الحداثة اليوم الضوء بقوة علي هذا المعني الجديد للتصوف, وسأكتفي في هذا المقال بنموذجين فقط نهضا كالأرواح المستحضرة, علي بساط البحث العلمي الغربي اليوم. الأول هو جلال الدين الرومي(12731207) الذي استطاع أن يغزو العالم, خاصة الولاياتالمتحدة بروائعه الأدبية, منذ أن ترجم مؤلفاته كولمان باركس ونشر كتابا مهما عنه, بعنوان: الرومي المتميزTheEssentialRumi. في العام1995 م فاقت مبيعات دواوين جلال الدين الرومي مبيعات أي شاعر آخر في الولاياتالمتحدة حتي لو كان بحجم وولت ويتمان وروبرت فروست- الحائز علي جائزة بوليتزر أربع مرات. كما احتفلت منظمة اليونسكو بالذكري المئوية الثامنة لولادته في بلخ1207 شمال شرق إيران( أفغانستان حاليا), واعتبرت العام2007 هو عام الرومي لما تميزت به أشعاره وفلسفته من قيم التسامح والمحبة بين بني البشر. حيثيات اليونسكو عن الرومي: إنه كان ولا يزال أحد المفكرين والعلماء الكبار الذين أثروا الحضارة إسلامية. فهو شاعر عالمي; إذ تعتبره الشعوب في كل من أفغانستان وجمهورية إيران الإسلامية وتركيا شاعرها. فقد كان في شعره يخاطب البشرية جمعاء: أنا لست من الشرق ولا من الغرب ولست من الأرض ولا من البحر. أنا لست عطر النعناع ولست من الكون الدوار. أنا لست من الأرض ولا من الماء ولا من الهواء ولا من النار. مكاني هو اللامكان وأثري لا أثر له ليس لي جسد ولا روح لأنني أنا هو المحبوب. وكأن الرومي ينشد مع ابن عربي هذه الحكمة الخالدة:( المحب الصادق من انتقل الي صفة المحبوب, لا من أنزل المحبوب الي صفته), ويبدو أن البشرية كلها تئن وتتألم اليوم بسبب غياب الحب بالمعني الإلهي الصادق( فالله محبة). والحب عند الرومي هو القوة المحركة للحياة الروحية, وهو الكيمياء السحرية للوجود, يقول في المثنوي: بالمحبة تصير الأشياء المرة حلوة وبالمحبة تصير الأشياء النحاسية ذهبية الصفات وبالمحبة تصير الأشياء العكرة صافية وبالمحبة تصير الآلام شفاء بالمحبة يحيا الميت هذه الثورة الروحية عند المتصوفة, ربما تفسر عبارة هيدجر, الملغزة والمثيرة للجدل,( لا يمكن أن يخلصنا اليوم إلا إله): إن العالم في أمس الحاجة لاستيعاب الحياة الروحية الخصبة في الدين, وإحياء التجارب الإيمانية المتنوعة التي يتخلق فيها الإنسان بأخلاق الله, وليس العكس. أن خلع الصفات التي تجعل من الله- جل شأنه منبعا للعدوان والتعصب والكراهية والعنف, هي مصدر الفهم الخاطئ والمغلوط للدين, بينما يجب أن تغدو صفات الله المحب الرحمن الرحيم: مؤشرات وغايات عظمي للبشر, يسعي الجميع للتماهي معها, والفناء فيها. لكن يبدو أن هذه الثورة تتطلب شجاعة خاصة حتي يتحرر الدين من الفهم الخاطئ, عن طريق إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين, فاللاهوت التقليدي لا يسمح أبدا بانبعاث النزعة الإنسانية لأنه يصدر عن رؤية أحادية وذهنية منغلقة ومتعصبة, لا تسمح باستيعاب القيم الإنسانية المنفتحة. النزعة الإنسانية هي أهم خصائص النهضة في كل زمان ومكان, لأن النهضة ليست مرحلة تاريخية فحسب, وإنما هي حالة ذهنية وبنية عقلية في المقام الأول, تسمح ببناء لاهوت عقلاني مستنير. أما الثاني فهو الراهب والأديب الفرنسي فرانسوا رابيليه(15531483) في ملحمته الشهيرة جارجانتوا وبانتا جرويل, والتي تجسد إيمانه العميق بفطرة الإنسان الخيرة وبحريته المطلقة, فهو صاحب أشهر مقولة في الحرية: افعل ما يحلو لك. لاقت هذه الملحمة نجاحا ورواجا كبيرا لدرجة أن بيع منها في شهرين أكثر مما بيع من الكتاب المقدس في تسع سنوات. وخصص لها ويل ديورانت فصلا مستقلا في موسوعته قصة الحضارة بعنوان( الأدب في عصر رابيليه), أما اليوم فإن رواد ما بعد الحداثة يعدونه أبا روحيا لحركات التجديد الديني, لدرجة أن لوسيان فيفر أصدر كتابا مهما عنه قبل سنوات, عنونه ب دين رابيليه. البنتا جرويلية هي فلسفة رابيليه النهائية, كما يقول ويل ديورانت, وتعني العيش في محبة وتسامح مع الناس والطبيعة, وفي استمتاع شاكر بكل طيبات الحياة, وفي تقبل بشوش لما يصيبنا من تقلبات ومن نهاية لا مفر منها. أما رابيليه فهو يعرف البنتا جرويلية بأنها ضرب من فرح الروح كامن في احتقار أحداث الحياة. وهو القائل: علم بلا ضمير هلاك للروح. فالعلم إذا لم يضيء أرواحنا من الداخل, إذا لم يجعلنا أفضل مما كنا عليه سابقا لا معني له. إذا لم تجعلنا المعرفة إنسانيين أكثر, وأخلاقيين وطيبين ومحبين للخير فما نفعها وما جدواها ؟ كتب رابيليه نصا شديد الشبه بمثنوي جلال الدين الرومي, سماه أيضا النص النبوي أو الرسولي لغته تشبه لغة الأناجيل, علقه علي الباب الخلفي لدير تيليم-Theleme( كلمة يونانية معناها الإرادة), وهي تقترب من معني الإدارة عند الرومي: من لم ينج من الإرادة لا إرادة له كما وردت في ديوانه( شمس تبريز). ناهيك عن أنه أثر ملئ بالإلغاز الصوفية, يحوي في ثناياه تعاليم المسيحية, ويتضح ذلك من سؤال الراهب جان نفسه, لسان حال رابيليه في الملحمة: ماذا يعني بهذا النص النبوي؟ فيرد جارجانتوا متهكما: ماذا بالله عليك.. أن يتقدم الإنسان ويحمل الحقيقة المقدسة( الله) في داخله. وهذا المعني يظهر التفسير الديني الجديد( والنزعة الإنسانية) داخل العهد الجديد( الإنجيل), فلم يعد ملكوت الله في السماء فحسب وإنما هو في صميم تكوين الإنسان وفي( داخله). غير أن هذه( الحقيقة المقدسة) لا يستطيع الإنسان حملها والمحافظة عليها وتحقيقها في سلوكه العملي, إلا في ظل اجتهاد ديني وفكري جديد يسمح للإنسان بتحقيق هذا الملكوت علي الأرض. إن حاجة الإنسان إلي الدين تنبثق من أعماقه, وحب الله يطهر الإنسان من التعصب والحقد والكراهية, ويجعله يفيض حبا ورحمة علي جميع الكائنات والمخلوقات,لأنه يتشبه في هذه الحال بصفات المحبوب ويحمل في قلبه( الحقيقة المقدسة).