نيسان تشارك ب4 سيارات سيدان ودفع رباعي ب«معرض بكين».. لن تصدق مواصفاتها    المنطقة علي صفيح ساخن.. التصعيد الإسرائيلي الإيراني واحتمالات الحرب| تحليل    للمرة الثانية على التوالي.. علي فرج يتوج ببطولة الجونة للإسكواش    محافظ القاهرة: حملة لرفع الإشغالات وإعادة الانضباط بشبرا    كلام نهائي.. موعد امتحانات نهاية العام وبدء الأجازة بالجامعات    توب مكشوف.. هنا الزاهد تغازل جمهورها في أحدث ظهور    بإطلالة جريئة.. حلا شيحة تبرز أنوثتها فى أحدث جلسة تصوير    سميرة أحمد تكشف سر خلافها مع وفاء صادق    ذوي الهمم والعمالة غير المنتظمة وحماية الأطفال، وزارة العمل تفتح الملفات الصعبة    الصحة تكشف خطة تطوير مستشفيات محافظة البحيرة    جماعة الحوثي تشن 5 هجمات ضد السفن في البحر الأحمر.. فيديو    فصل طالبة مريضة بالسرطان| أول تعليق من جامعة حلوان.. القصة الكاملة    العمل في أسبوع.. حملات لنشر ثقافة السلامة والصحة المهنية.. والإعداد لإطلاق الاستراتيجية الوطنية للتشغيل    محافظ القاهرة: تطبيق المواعيد الصيفية لفتح وغلق المحال بكل حزم    الزراعة: إصلاح الفدان الواحد يكلف الدولة 300 ألف جنيه    وزيرة التخطيط: الفجوة التمويلية في الدول النامية تصل إلى 56%    برلماني: استرداد سيناء ملحمة وطنية تتناقلها الأجيال    اختفاء دول.. خبير أبراج يتوقع مرور العالم بأزمات خطيرة    كرم جبر : الرئيس السيسي رفض الرد على نتنياهو أكثر من مرة    الكشف الطبي بالمجان على 1058 مواطنا في دمياط    الأونروا: قطاع غزة يشهد موجة حر غير عادية فاقمت الأزمة المعيشية    سميرة أحمد تكشف أسباب خلافها مع وفاء صادق: «بتيجي متأخرة»    كرم جبر: الجهود المصرية تركز على عدم اقتحام إسرائيل لرفح الفلسطينية    وزيرة «التخطيط» تشارك بمنتدى التمويل من أجل التنمية بالأمم المتحدة    وكيل صحة الشرقية يتفقد مستشفى فاقوس المركزي ويحيل مشرف التغذية للتحقيق    الاحتفاء بالشاعر عيد صالح في العودة إلى الجذور بدمياط.. الاثنين المقبل    صلاح ضمن التشكيل الأفضل للدوري الإنجليزي    مساعد وزير التعليم: 8236 مشروعا تعليميا ب127 ألف فصل    الغيابات تضرب الاتحاد قبل مواجهة الجونة    علاقة متوترة بين انريكي ومبابي.. ومستقبل غامض لمهاجم باريس سان جيرمان    مسؤول إسرائيلي: بلينكن يزور إسرائيل الأسبوع المقبل لبحث صفقة جديدة    تعرف على أهداف الحوار الوطني بعد مرور عامين على انطلاقه    شركة GSK تطرح لقاح «شينجريكس» للوقاية من الإصابة بالحزام الناري    "ذكرها صراحة أكثر من 30 مرة".. المفتي يتحدث عن تشريف مصر في القرآن (فيديو)    مصرع طفل سقط في مصرف زراعي بالفيوم    إصابة 6 أشخاص في انقلاب سرفيس على صحراوي قنا    تكثيف أعمال التطهير لشبكات الصرف الصحي بمحافظات القناة    صُناع مسلسل «أعلى نسبة مُشاهدة» ضيوف «يحدث في مصر».. الليلة    الأمم المتحدة للحق في الصحة: ما يحدث بغزة مأساة غير مسبوقة    مؤتمر تين هاج: تطورنا بطريقة جيدة للغاية.. وهذا ما طلبته من اللاعبين    رضا العزب: شيكابالا مش أسطورة    تعرف على فضل أدعية السفر في حياة المسلم    تعرف على فوائد أدعية الرزق في حياة المسلم    «أرض الفيروز» تستقبل قافلة دعوية مشتركة من «الأزهر والأوقاف والإفتاء»    استمرار فعاليات البطولة العربية العسكرية للفروسية    إقبال كثيف على انتخابات أطباء الأسنان في الشرقية (صور)    مواعيد الصلاة في التوقيت الصيفي بالقاهرة والمحافظات.. وكيف يتم تغيير الساعة على الموبايل؟    الوكالة اللبنانية: الجيش الإسرائيلي قصف عناصر دفاع مدني أثناء إخمادهم حريقا    بعد حادث شبرا الخيمة.. كيف أصبح الدارك ويب السوق المفتوح لأبشع الجرائم؟    أول تعليق من كلوب بعد تقارير اتفاق ليفربول مع خليفته    وزير التعليم العالي يهنئ الفائزين في مُسابقة أفضل مقرر إلكتروني على منصة «Thinqi»    25 مليون جنيه.. الداخلية توجه ضربة جديدة لتجار الدولار    «مسجل خطر» أطلق النار عليهما.. نقيب المحامين ينعى شهيدا المحاماة بأسيوط (تفاصيل)    خير يوم طلعت عليه الشمس.. 5 آداب وأحكام شرعية عن يوم الجمعة يجب أن تعرفها    نجاح مستشفى التأمين ببني سويف في تركيب مسمار تليسكوبى لطفل مصاب بالعظام الزجاجية    سويسرا تؤيد خطة مُساعدات لأوكرانيا بقيمة 5.5 مليار دولار    موعد اجتماع البنك المركزي المقبل.. 23 مايو    طرق بسيطة للاحتفال بيوم شم النسيم 2024.. «استمتعي مع أسرتك»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د. يوسف زيدان يكتب: الرؤية الصوفية للعالم (1-7) القولُ الأولُ: فى عموميةِ النزعةِ التصوفية


حُبُّكِ يا عميقة العينين
تطرفٌ
تصوفٌ
عبادةْ..
حبُّك مثلُ الموتِ والولادةْ
صعبٌ أن يعانى مرتين!
بهذه السطور الشعرية، تحدَّث نزار قبانى إلى محبوبته، واصفاً حبَّه لها بالتصوف -وما علينا الآن من وصفه بالتطرف- فبأىِّ معنى، يمكن للحبِّ أن يكون تصوُّفاً؟ وما التصوفُ أصلاً، حتى يصحَّ وصف المحبة به ؟ وهل يُشترط فى المحبِّ أن يتصوف؟
لن نخوض فيما يلى، فى التعريفات (المعجمية) و(الاصطلاحية) لكلمة التصوف، حتى لا نغرق فى هذه اللجة الدلالية الهادرة التى تمتلئ بها كتب اللغة، وكتب القوم (الصوفية) التى من مثل: الرسالة للقشيرى، التعرف لمذهب أهل التصوف للكلاباذى، اصطلاحات الصوفية للقاشانى..
ولن نستعيد هنا ما ذكرته المراجع والمصادر من بدايات التصوف الإسلامى، وبواكيره، سواء فى السيرة النبوية -كالخلوة بغار حراء- أو فى حياة الصحابة من أمثال أبى ذر الغفارى، أو فى طبيعة الجماعة التى عُرفت باسم «أهل الصُّفَّة» وهم الصحابة الذين انقطعوا للعبادة فى المسجد النبوى بالمدينة، ولم يُنكر عليهم النبى أحوالهم.
أو فى حياة التابعين وتابعى التابعين (أى الأجيال اللاحقة بجيل الصحابة) وكيف أدى بهم الترفُ الدمشقى، والبذخ البغدادى من بعد؛ إلى إظهار نوعٍ من الزهد والاستغناء والخشية من غلبة الدنيا، مما كان له أكبر الأثر فى انبثاق اتجاهات الروحانية الرحبة. وهى الاتجاهات، والتوجُّهات، التى تدفَّقتْ منها ينابيع التصوف المبكر، وانبجستْ عيونُ المعرفة القلبية، من بين أصابع المشايخ المبكرين والشيخات المبكرات، أمثال: عبد الواحد بن زيد، ذى النون المصرى، رابعة العدوية.
إذن، لن ننظر إلى طبيعة التصوف من هذه الزوايا السابقة، التى تحصر المسألة فى التراث العربى الإسلامى تحديداً.
وذلك لأننى أعتقد –وقد أكون مخطئاً- بأن التصوف نزعةٌ إنسانيةٌ عامة، كان «التصوف الإسلامى» هو أحد أشكالها وتجلياتها الكثيرة، التى لا تكاد تخلو منها ثقافةٌ إنسانية، دينيةً كانت أو غير دينية.. نعم «أو غير دينية» لأن هناك أنماطاً صوفية وحرارةً روحانية، تظهر أحياناً فى أكثر الاتجاهات ماديةً وابتعاداً عن الدين، حتى لو كانت (الفلسفة الماركسية) التى اشتهرت بنزعتها المغرقة فى المادية واللادينية!
وإلا، فإننى أرى فى (إيمان) كارل ماركس بالأفق البروليتارى، وفى عقيدته بحتمية مجىء الزمان الذى تستولى فيه الطبقة العاملة (البروليتاريا) على وسائل الإنتاج، وبالتالى على مقدَّرات المجتمعات – وهو الأمر الذى لم يحدث قطُّ، ولن يحدث أبداً فيما أظن- أراه فى حقيقة الحال نوعاً من «الإيمان» والوله الصوفى بفكرةٍ خيالية، لا تؤدى إليها بالضرورة التحليلات الماركسية المسماة بالمادية الجدلية والمادية التاريخية.
أو بعبارة أخرى، فإن «اعتقاد» كارل ماركس بضرورة شروق «شمس العمال» هو فى واقع الأمر اعتقادٌ غير فلسفى، أو هو بالأحرى: تصوفى.
وهناك نقطتان أساسيتان تجب الإشارة إليهما، مادمنا فى مبتدأ الكلام عن ذلك النزوع الإنسانى العام، المسمَّى عندنا: تصوف. النقطة الأولى منهما، أن (التصوف) يختلف عن تلك الاحتفالات الشعبية المسماة «الموالد» وإن كان كلاهما قد ارتبط بالآخر فى أذهان معاصرينا، فصرنا نقول عن هذه المظاهر الشعبية (الفلكلورية) إنها احتفالات صوفية! وذلك بطريق الخلط والتخليط بين التراث الصوفى المتمثل، مثلاً، فى التجارب الروحية العميقة التى تردَّد صداها فى حياة الحلاج (الحسين بن منصور، المقتول ببغداد سنة 309 هجرية) أو فى كتابات ابن عربى (الشيخ الأكبر، محيى الدين، المتوفى بدمشق سنة 638 هجرية) أو فى مؤلفات عبد الكريم الجيلى المغرقة فى الرمزية..
وبين التراث الاحتفالى الشعبى الموروث من الأزمنة القديمة، الذى اتَّخذ فى الزمن الإسلامى سبباً له من «مواليد» مشايخ الصوفية الكبار، ثم أتبع سبباً فصارت «الموالد» مرآة للحياة الاجتماعية المشوبة بأقل القليل من رحيق التصوف الحقيقى. وقد سُميت –وياللعجب- بالموالد، مع أننا فى حقيقة الأمر لا نعرف بدقة، تاريخ «ميلاد» أى شيخ صوفى، من أولئك الذين يحتفل الناس اليوم بمولدهم .
والنقطةُ الأخرى الواجب ذكرها هنا، هى أن لفظ (التصوف) ذاته، هو من الألفاظ المربكة، مترهلة الدلالة. حتى إن بعض المؤرِّخين اعتبر الكلمة كأنها غير عربية أصلاً، وإنما يونانية مشتقة من كلمة «صوفيا» التى تعنى الحكمة، ومنها أيضاً جاءت كلمة «الفلسفة» بمعنى حب الحكمة: فيلوسوفيا. وبعض المؤرِّخين أرجع دلالة الكلمة إلى «لبس الصوف» الذى تميَّز به أوائلُ الصوفية، كعلامة على التقشف، لأن الصوف آنذاك – بسبب وفرة الغنم- لم يكن غالى الثمن مثلما هو الآن .
والبعض من المؤرخين، المفكرين، قال إن التصوف اسمٌ غير مشتقٍ من شىء، إلا من الصفاء الذى يقترن بالمسيرة الروحية لهؤلاء الذين عرفوا أن «الدين» له أسرارٌ عميقةُ المعانى، تتجاوز العبادات الظاهرة والتكاليف الشرعية المعروفة التى تمثل ظاهر (الشريعة) بينما يمثل التصوف باطن (الحقيقة).
وبالطبع، فالمجال هنا لا يسمح بمناقشة هذه الآراء، وغيرها كثير؛ التى حاولت تفسير دلالة كلمة (تصوف) فانهمكت فى السعى لإدراك أو فهم «حقيقة التصوف» من خلال الألفاظ ومفردات اللغة. ولسوف نتوقف فى مقالة قادمة، عند علاقة الصوفية باللغة، وكيف تفجَّرت على أيديهم مفرداتٌ ودلالاتٌ «ثورية» من خلال الرمزية الصوفية، ومفردات (القوم) المغرقة أحياناً فى الإشارية، حتى تصل أحياناً إلى حدِّ الاستغلاق التام.. فلا يبقى أمامنا فى مجال (تعريف التصوف) إلا القول، إجمالاً، إن التصوف هو «تذوُّق الشريعة» وهو «توغُّل» فى رؤية العالم، بحيث لا يقف الصوفى عند ظاهر الأمور، وإنما يسعى لاستشعار حقيقتها الباطنة!
والتصوفُ أيضاً «عكوفٌ» على الذات، بمعنى مراقبة النفس والإبحار فيما يتجلى بقلب الصوفى من رؤى ومشاهدات، على اعتبار أن النفس، أو بالأحرى: الروح، هى المرآةُ التى يتجلَّى على صفحتها الكونُ كله. وبحسب جلاء هذه المرآة، يكون نصوعُ الصورة فى قلب الصوفى، أو الإعتام التام فى قلوب العوامّ.. وللتوضيح، لا يقصد الصوفيةُ بالعوامِّ جمهورَ الجهلاء، فالعامّىُّ عندهم قد يكون عالماً كبيراً فى تخصُّصه، لكنه غافل عن ثراء باطنه وتجليات الكون على مرآة روحه، لأن المرآة معتمةٌ!
إذن، التصوفُ هو التذوُّق والتوغُّل والعكوف العميق على الذات العارفة باعتبارها مرآةً للكون. وبهذا المعنى الأوسع والأعمق للتصوف، يكون العشاق صوفية، والثوار صوفية، والفنانون صوفية. أعنى بذلك الحقيقيين من أولئك وهؤلاء! فالعاشق إذا تولَّه بمحبوبه صار لا يبصره بالعين، وإنما يراه متجلياً على مرآة ذاته العاشقة.
ولذلك، قد ينتحر العاشق أسفاً على فوات محبوبٍ يراه الآخرون شخصاً لا يستحق الموت من أجله، بل لا يستحق الالتفات إليه أصلاً، لأنه شخص (عادى) إذا نظرنا إليه بغير عين العاشق.. غير أن العاشق يرى محبوبه استثنائياً، وغير عادىٍّ بالمرة، والحياة بدونه لا يمكن أن تعاش. وهذه الحالة العشقية العميقة، هى نوعٌ من التصوف.
وكذلك الحال مع العارفين من الثوار، الذين يتوغَّلون فى الفكرة التى ثاروا من أجلها، حتى تملك عليهم قلوبهم والأفئدة، وتغدو الحياة هينةً فى سبيل «الوطن» أو «الجماعة» أو «النظرية» أو «الفضيلة» التى ثاروا، بل ربما ماتوا وأماتوا غيرهم، من أجلها..
وكذلك الحال أيضاً، مع كل فنانٍ حقيقىٍّ يهيمُ فى مفاوز فنه، ويتوغَّل فى أعماق تفنُّنه، حتى يستهين بما عداه، ويستغنى بما يشغله عن سواه. فنراه وقد غلبت عليه الأحوالُ الشداد، التى نعرفها فى سيرة الصوفية: أهل الله.
 وقد يُوصف الرسَّامون النابغون بالبوهيمية، ويُوسم السينمائيون الكبار باللَّسعان (أى بالتوهج الزائد، الخارج بصاحبه عن المألوف) ويُتَّهم كبار المفكرين والفلاسفة بالغرابة والانزوائية.. وما البوهيمية واللسعان والاغتراب والانزوائية، إلا نتاجٌ لتلك الحالة الصوفية التى تنتاب هؤلاء، باعتبار «التصوف» هو التذوق الخاص والتوغل العميق والعكوف على مرآة الذات. ولذلك، يمكن مقارنة (تقلُّبات) هؤلاء المذكورين، بما يُعرف عند دارسى التصوف بالأحوال والمقامات.
وتختلف تسميات «التصوف» باختلاف اللغات والثقافات. فما يسمى عندنا تصوف، قد يسمى فى غير ثقافتنا بغير ذلك من الأسماء. فهو، مثلاً، عند الهنود يسمى (النرفانا) وهى حالُ الفناء التام، التى يحاول الناسكُ الهندىُّ الوصول إليها، كثمرةٍ روحانية للمسيرة التقشُّفية التى يختارها هذا الناسك، ويغوص فيها، أملاً فى الوصول إلى تلك الحالة الروحية، التى يسميها الصوفية المسلمون: الفناء فى الحضرة الإلهية. ولذلك، لا يخلو أىُّ (دين) من نزوع روحى، لا يلبث أن يصير نمطاً صوفياً يلبى حاجة «الأفراد» من المؤمنين، إلى التعمق والتذوق والعكوف العميق.. وإلى التأويل!
إن شرط الدين عموماً، فيما أرى –وقد أكون مخطئاً- هو قابلية التأويل! فإذا كان شرط (العلم) عند الفيلسوف المعاصر «كارل بوبر» هو قابلية التكذيب. بمعنى أن القضية العلمية تكون علميةً إذا كانت تقبل اختبار صدقها، وبالتالى إمكان تكذيبها، فتظل المسألة العلمية أو القانون العلمى أو «الحقيقة العلمية» قائمةً، ما دامت صامدة أمام عمليات التحقق المستمرة.. وفى الجهة المقابلة، فإن (التأويل) أمرٌ لازمٌ لكل نصٍّ دينىٍّ، بل هو الذى يجعله أصلاً، نصاً دينياً! فإذا كان النص لا يقبل التأويل، فهو نظريةٌ ما أو قاعدةٌ أخلاقيةٌ ما أو فلسفةٌ ما، لكنه ليس ديناً.. فتدبَّر وتأمَّلْ!
والدياناتُ الثلاثُ الموسومة بالسماوية، هى فيما أرى –وقد أكون مخطئاً- دينٌ واحدٌ له تجلياتٌ كبرى تسمَّى (اليهودية، المسيحية، الإسلام) ومن هذه التجليات، تفرعت بسبب مداومة التأويل، تجلياتٌ أخرى عديدة لا حصر لها، تسمَّى: المذاهب، العقائد، الكنائس، الاتجاهات الأصولية.. إلخ. والقرآنُ الكريم أو الأناجيلُ الأربعة (وغير الأربعة) أو التوراة ومُلحقاتها من كتب الأنبياء الكبار والصغار (العهد القديم) لو كانت جميعها لا تقبل التأويل، لما صارت باقيةً إلى اليوم، ولما اعتبرت يوماً فى النفوس، كنصوص مقدسة.
وإنما صارت إذا غابت عنها حرارة التأويل، نصوصاً تاريخية أو نصائح أخلاقية أو حركات إصلاحية أو غير ذلك من أشكال الجهود الإنسانية، لا الإلهية. ومع هذا (التأويل) الضرورى لمفردات الدين ونصوصه المقدسة، يتشكَّل التصوف ويشقُّ مجراه. ولذلك قال الصوفية المسلمون، الحلاج تحديداً: «اقرأ القرآن كأنه نزل فى شأنك أنت».. وهو ما يفتح باب التأويل على مصراعيه .
وعلى الرغم من أن اليهودية بطبعها العام ونصِّها المقدس، ديانةٌ عنيفةٌ ذات طابعٍ رعوىٍّ لم يتورع عن تصوُّر الربِّ، أو الله (سبحانه وتعالى) منحازاً لجماعة معينة، بل محارباً لها وغالباً من أجلها ومغلوباً منها).. يعقوب فى التوراه، تصارع مع الله فغلبه فأسماه الله إسرائيل، أى الذى غالب الله فغلب !)
ومع ذلك، لم تنعدم النزعات التصوفية عند اليهود، نظراً لمداومة البعض منهم، لذلك التأويل الذوقى (الروحى) لنصوص التوراة والتلمود. ولذلك، ففى تاريخ اليهود اشتهرت جماعات روحية ذات نزوعٍ صوفىٍّ أصيلٍ، منها الجماعة التى تعرف باسم (القبَّالاه).
وهى اتجاهٌ تطهُّرىٌّ، يقوم على أساس أن التخلُّص من المطالب الحسية، وتأمل أسرار الحروف والأرقام؛ يعطى معرفةً روحية تتجاوز ظاهر العلوم.
وقد لعب هذا الاتجاه الروحى دوراً كبيراً فى استيعاب اليهود لحملات الاضطهاد المسيحية التى بلغت ذروتها فى أوروبا خلال العصور الوسطى (المظلمة) فكانت الآفاق الروحية للقبالا، كأنها «مأوى» تهرب إليه أرواح المضطهدين - وبالطبع فلا توجد اليوم دواعٍ لانتشار هذا المذهب عند اليهود المعاصرين- وقد ظهرت فى القرن الثالث عشر الميلادى مدونةٌ كبرى للقبالا، تسمى كتاب (زُهَر) أو (الزوهار) وهى موسوعة روحانية بعضها مكتوب بالآرامية وبعضها الآخر بالعبرية، وهى تسير بالتجربة الصوفية فى اتجاهين: تأملى فلسفى، وعملى سلوكى.
ومن اللافت للنظر، أنه مثلما نقم السلفيون المسلمون (أهل الظاهر) على صوفية المسلمين (أهل الباطن) فكذلك، نقم الرِّبيُّون اليهود (علماء الشريعة) على كتاب الزوهار وطريقة القبالا.. وهذا حديثٌ ذو شجون، قد نعود إليه فى مناسبة أخرى.
وفى التاريخ المسيحى المبكر، كان الناس فى مصر والشام– وفى مصر أكثر- يهربون من زراعة الحقول، لأن الرومان كانوا يسلبونهم نتاج الأرض بعد الحصاد، ويأخذون القمح إلى روما بحيث لا يبقى لمن فاتهم (الميرى) إلا التمرغ فى ترابه.. للتوضيح: الميرة (والميرى) كلمة قديمة تعنى: القمح!
ولذلك كان المزارعون البائسون يفرون من العمل هرباً من اللاجدوى، فلما انتشرت الديانة اتخذ هذا الهروب صبغة دينية، وراح الهاربون يحلمون بمجتمع تشاركى لا ظلم فيه، ومن هنا جاءت حياة «الشركة» و«الديرية» التى تطوَّرت من بعد، فظهر الاتجاه الروحى المسيحى المسمى: الرهبنة.
ولما استقرت الديانة المسيحية، كان الرهبان جيلاً من بعد جيل، قد توغَّلوا فى النصوص واستخرجوا منها معانى روحية تناسب النزوع الإنسانى العام، لهذا الولع العلوى والهيمان السماوى الذى اتخذ فى المسيحية اسم (الرهبنة) وماهو فى حقيقة حاله، إلا ذلك النزوع الإنسانى الأصيل، الذى يحدو بالفرد إلى دروب السماء، عبر عمليات تذوق خاص، ومن خلال توغلٍ عميقٍ فى النص، وعكوف على مرآة الذات.
 ولذلك، أعطت الرهبنة عبر تاريخها الطويل، نماذج إنسانية بديعة، ونمطاً فريداً فى المسيرة الروحية للإنسان.. وقد انتبه صوفية المسلمين إلى ذلك التشابه بين الرهبنة والتصوف، ولذلك أفاض الشاعر الصوفى المسلم (أبو الحسن الششترى) فى مدح الأديرة والرهبان بقصائد مليحة.
وأفاض شيخ الصوفية الأكبر (محيى الدين بن عربى) فى الكلام على أولياء الصوفية – المسلمين- الذين كانوا حسبما قال: مشربهم عيسوى! بل انتبه لذلك الدارسون المحدثون، فقارنوا فى بحوثهم بين الراهب الشهير فرنشسكو الأسيزى، والشيخ البديع أبى مدين الغوث. وبين ابن عربى والرهبان عموماً، وبين الحلاج والمسيح!
وفى دراسة المستشرق المعروف، لويس ماسينيون نرى انبهاره بعبارة الحلاج: على دين الصليب يكون موتى (وهو مالم يفهمه ماسينيون بشكل صحيح) حتى إن ماسينيون تحمس –وقد كان مشوباً بنزعة صوفية- فقال إن الحلاج هو الذى حقَّق فى الإسلام معجزة جبل الجلجثة.. آه، ليس هنا موضع هذا الكلام.
نعود إلى ماكنا بصدده من تبيان أن النزوع الإنسانى الأصيل للتصوف، يتَّخذُ بحسب اختلاف الديانات والثقافات أشكالاً مختلفة، مثلما رأينا عند الهنود (النرفانا) واليهود (القبَّالا) والمسيحيين (الرهبنة).
وفى الإسلام المبكر، ظهرت مثيلات لهذه الاتجاهات، كانت تعرف فى البداية بجماعات الزهد وهجر الملذات والمرابطة فى الثغور (الجهاد البدنى والروحى) والرحلة فى طلب العلم ومراقبة أصول النفس.. إلخ.
فلما استدام الأمرُ فى الثقافة العربية الإسلامية، تحدَّدت ملامح الاتجاه الروحى الذى نعرفه الآن باسم (التصوف) عبر أجيال من السالكين دروبَ الروح والمحدقين إلى مرآة النفس، والمتأولين بواطن الآيات القرآنية.
وهؤلاء هم صوفية المسلمين. وقد عاش التصوف فى قلوب المسلمين قروناً طوالاً، قدَّم خلالها كبار الصوفية رؤى عميقة للكون وللإنسان وللدين وللإله وللجمال.. ومع هذه «الرؤى» سوف تكون لنا فى مقالاتنا القادمة، وقفات تستشرف المعانى الإنسانية العميقة التى أشار إليها الصوفية. فمن ذلك رؤيتهم لحقيقة الديانات، وقولهم إن كل إنسان هو عابد لله بالضرورة، حتى وإن غفل عن ذلك.. وهذا موضوع مقالتنا القادمة.
ومن ذلك قولهم إن الوجود جمالٌ محضٌ، لا قبح فيه. وهو موضوع المقالة التى بعدها.. وهكذا سوف يسير بنا الحال، حتى تنتهى هذه السباعية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.