أعبر أمام سبيل أم عباس بمنطقة الصليبية، باتجاه شارع السيوفية وصولاً إلى "متحف المولوية"، لأشاهد ما خلفه الأتراك لدراويش المحروسة ومريديها. يرى جلال الدين الرومى أن "الاتساق مع حركة الكون هو منتهى طلب المريد"، لذا فقد أبدع طريقة صوفية تعتمد فى شعائرها على تجسيد حركة الأفلاك والنجوم.. ليدور المريد حول نفسه كالشمس، فيما يلتف حوله بقية الراقصين كأنهم الكواكب، وكلما اتسقت حركات راقصى التنورة أو "الدوارة" مع حركة الكون كلما بدأت نشوة الوصول تتسرب إليهم. تلك الطريقة، التى تمزج بين الكثير من جماليات الرقص المسرحى والموسيقى التركية الصوفية، انطلقت من مدينة قونية التركية، فى القرن الثالث عشر، وظلت تتسع وتنتشر وتكتسب مريدين جدد يوماً بعد يوم، ومع مجىء الإمبراطورية العثمانية، اهتمت الدولة بالثقافة الفلسفية والموسيقى المولوية، فمنحتهم المزيد من الرعاية والاهتمام حتى أن عام 1491 شهد حصر 86 تكية مولوية، وفى القرون التالية اتسعت دائرة الطريقة فى العديد من دول العالم الإسلامى، ومن بينها مصر التى شهدت إقامة ورحيل العديد من أبناء الطريقة، فى أزمنة سبقت الفتح العثمانى. وبعدما تزايد عدد المولويين بمصر فى القرن السابع عشر، حصلوا على ضريح حسن صدقة، ثم أوقف لهم الأمير يوسف سنان بقية المجموعة المعمارية المجاورة للمكان، وهى مدرسة سنقر السعدى، وقصر الأمير يشبك، فبدأوا يهيئون المنطقة لوظيفة التعبد الجديدة، حيث قاموا بتوسيع جناح جديد على شارع السيوفية وفتح باب للمكان يؤدى مباشرة إلى الشارع، مستلهمين فى تلك التغييرات نفس المواصفات المعمارية للبيت الأم فى قونية. أدخل إلى متحف المولوية بينما أتهيأ لأن أسلم روحى لعبقرية المكان، أخطو إلى الداخل: مبنى من طابقين لا تزال أعمال الترميم التى يقوم بها المركز الإيطالى للآثار والثقافة تجرى به. أقرأ لافتة صغيرة تشير إلى أنه "السماع خانة" وهى الوحدة التى كان المولويون يمارسون فيها رقصتهم الكونية. ثلاثة أبواب للمكان، أنتقى أوسطهم وأدخل، لأجد ساحة كبيرة، يسطو عليها اللون البنى الداكن، فيما يزدان كل سنتيمتر من الجداران بمنمنمات ونقوش فى انتظام وبهاء، تمثل أبلغ درجات التعبير عن الرموز الهندسية والكونية التى تحدد وظائف وأبعاد المكان الذى يتم فيه "السمعة"، أو ممارسة طقوس الطريقة.. فى قبة السماع خانة هناك رسوم لطيور أو ربما أرواح أو ملائكة أو ما شابه تحوم فى أرجاء المكان، ونقوش لأسماء أقطاب الطريقة، وأبيات شعر كتبت بالفارسية، أقرأ متناثرات منها: نور محض نارسوزاندر سماع مولوى عشق يثمى دوند فانون إنك الكون نفافيتا ندرو سماع مولوى فى الساحة أيضاً لوحة كبيرة كتب عليها: "يا حضرت مولانا" بيد الشيخ عبد العزيز الرفاعى، أمير الخطاطين، تلك اللوحة تميز المكان الذى كان يجلس عليه شيخ الطريقة أثناء ممارسة شعائر الرقص. بعدما أصل إلى نهاية الساحة الدائرية، أصعد سلالماً خشبية تفضى إلى ما يشبه "اللوج" فى المسارح الأوروبية، ولكن مع اختلافات بسيطة، فهناك رسومات على الجدران لستائر نصف منسدلة، وآثار لكراسى للمشاهدة من أعلى. فى تلك القاعة سأدعوكم لمشاهدة طقس من طقوس الاحتفال بالحياة والموت: سيدخل الصوفى إلى منتصف الدائرة المرسومة محنى الرأٍس، مغمض العينين، قابضاً يديه فوق رأسه، كأنما لا يزال طفلاً يتكون فى بطن أمه، ثم يبدأ فى بسط ساعديه للأمام، يكشف عن وجهه ويبصر ساحة الحياة الجديدة التى دخلها لتوه، مندهشاً من عيون المحيطين (الآن اصطف باقى الراقصين وتجمعوا حوله وأخذوا فى الدوران والدق على الدفوف تمثيلاً لسبوع الوليد)، حينها يبدأ الراقص الرئيسى فى إدراك الموجودات، فتتمثل أمامه أول ملامح المعرفة، وشيئاً فشيئاً يفك سترة فوق سترة، كأنما يتخفف من آثامه وعذاباته التى كانت تحول دون ارتحاله إلى السماء، فيما يدور الراقصون حوله فى اتجاه يعاكس حركة عقارب الساعة كما يلتف الحجاج حول الكعبة. يبسط الراقص يده اليمنى باتجاه السماء، بينما تميل يسراه إلى الأرض؛ ليعقد بذلك الصلة بين العالمين، ومع انتهاء تخففه من كل طبقات التنورة التى يرتديها يكون بهذا قد تخفف من كل حدوده أمام الله لينعم بمعيته.. حينها تتبدى حلة بيضاء ليس لها جيوب كما الكفن، ويصير الراقص فى قمة لذته بلحظات الوصول إلى الذات الإلهية. أقرأ فاتحة كتاب "مثنوى" المحلى بماء الذهب الذى أهدته الحكومة التركية للمتحف عام 1988: "بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين وعليه نتوكل، وعنده مفاتيح القلوب وصلى اللهم وسلم على خير خلقه محمد وآله وصحبه أجمعين.." ثم ألتفت خلفى لأجد سترة أحد أقطاب المولوية: عمامتهم المشهورة وحذاء متهالك لقدم صغيرة، وحلة صنعت من الصوف أو الكتان. خارج الضريح هناك ساحة كبيرة تمثل مدرسة سنقر السعدي، وبها جرة كبيرة وبئر نضب ماؤه، وحجرات صغيرة استخدمها المولوية فى الطهى والراحة. على جدران بقاية المدرسة أقرأ ترجمة لأبيات شعرية كتبت بالفارسية على لوح رخامى أبيض: بوركت مولانا قمت بالتعمير حملت المياه إلى المطبخ حملتها إلى المسجد قمت بتعمير المسجد تمسح عينى مفردات المكان أكثر فأكثر، لأجد بعض الأوانى التى كان يستخدمها المولوية فى الأكل والشرب، ومستلزمات مائدة الطعام، وخنجر لأحدهم، وآنية نحاسية تعكس حالة التقشف التى كان يقصدها الدراويش فى معيشتهم. خارج "السماع خانة" هناك وحدات سكنية أخرى، وهى منطقة الحياة النسكية، وتتألف من حجرات تحيط بالحديقة التى تتوسطها فسقية على غرار حدائق قونية التركية. ألمح كذلك محاولات الأثريين المضنية لإزالة ستائر النسيان والإهمال عن المكان وإعادته إلى سالف عصره، بعدما هجره الدراويش منذ عام 1945 إثر حل الطريقة المولوية فى القاهرة، بعدما كانت تضئ أرجاء المكان. على أية حال فقد صمدت لسنوات عديدة رغم قرار إغلاق التكايا وحل طوائف الدراويش التركية الذى أصدره مصطفى كمال أتاتورك عام 1925.