الدولة المدنية تعني بإيجاز أن ينهض الحكم على المبدأ الناظم: "الشعب هو مصدر سلطات الدولة جميعا وصاحب السيادة الأوحد". ويقيني أن هذا المبدأ كان هو الغاية الأسمى للثورة الشعبية العظيمة في يناير 2011. وحيث أن الدستور يُعد في دولة القانون هو القانون الأسمى الذي يتعين أن تشتق منه جميع القوانين الحاكمة للدولة والمجتمع؛ لتتسق مع روحه ونصوصه، تبقي السلطة التأسيسية (سلطة التشريع الدستوري) في الدولة المدنية حقا مطلقا للشعب وحده، أو لنوابه المنتخبين في انتخابات حرة ونزيهة وشريفة (خالصة من تأثير المال السياسي)، ويصبح التدخل في نصوص الدستور عن غير هذا السبيل انتهاكا صارخا لمدنية الدولة. إلا أن الحكام العسكريون، في جميع أنحاء العالم وكل تجارب الفاشية العسكرية، يكرهون الدساتير كراهية التحريم، كونها تشكل قيودا على الحكم التسلطي مطلق اليد في البلاد والعباد. فقط يقبلونها على مضض باعتبارها ساترا ديموقراطيا تجميليا، وإن كان رقيقا وزائفا، ليخفي عورات حكمهم الاستبدادي الفاسد، خاصة أمام العالم الخارجي الذي يلهثون وراءه لاستجداء المشروعية والعون. إلا أنهم لا يتورعون عن دهس الدستور بقرارات إدارية تغتصب السلطة التشريعية كما حدث في مصر منذ يوليو 2013. ولكن تأتي لحظات يشعرون فيها بتبرم الشعب والعالم بدهسهم للدستور فيلجأون للحيلة الأزلية في جعبة الحكم التسلطي: تعديل الدستور على هواهم واستحصال موافقة الشعب عليه، ولو كانت التعديلات ضد مصالح الشعب والوطن، وتجبى الموافقة في استفتاءات مُدارة أو مزورة عيانا جهارا. ولقد شارك عديدون في اغتصاب مدنية الدولة في مصر، وبوجه خاص بمناسبة تعديل الدستور في ظل الحكم العسكري، ورئيس الدولة الزخرفي عدلي منصور خلال (2013-2014). بالطبع، تحت الحكم التسلطي المعتم، لم نكن نعرف ما دار في لجنة الخمسين وحواشيها ولكن بمرور الزمن انكشف المستور. بدأ المسيرة البائسة محمد أنور السادات في 1971 بإطلاق مدد ولاية رئيس الدولة في مقابل تعديل المادة الثانية، لجعل الشريعة المصدر الأساس للتشريع مداهنة لجماعة الإخوان، واستجلابا لموافقتها على تأبيد حكمه، وقد كان. ما لم يعلمه الداهية أن العلي القدير لن يمهله ليطول استمتاعه بهذا التعديل الآثم، وأن نهايته ستأتي، في أوج بهرج حكمه، بأيدي من تحالف معهم عدوانا على حق الشعب! وتابع المسيرة التعسة اللامبارك الأول في 2007، عندما أدخل عددا من التعديلات على الدستور، تضمنت لأول مرة في تاريخ مصر الدستوري النص على تقييد الحريات، وقصر الترشح لمنصب الرئاسة على الهيئة العليا لعصابته المسماة زورا بالحزب الوطني الديموقراطي، ولم يكن لها من المسميان أي نصيب. وبعد الموجة الأولى من الثورة الشعبية العظيمة، التي امتطتها المؤسسة العسكرية، واصل المجلس الأعلى للقوات المسلحة المسيرة بإصداره مغتصبا سلطة التأسيس إعلانا دستوريا اقتنص فيه لرئيس المجلس السلطات الاستبدادية لرئيس الدولة في دستور اللامبارك الأول، وأبقى على المادة الثانية، فيما يمكن اعتباره غزلا غير عفيف لتيار اليمين المتأسلم. ولم يكن المجلس مضطرا بأي حال إلى هذا الانتهاك لمدنية الدولة، خاصة في ضوء وعوده المتكررة بتسليم السلطة إلى سلطة مدنية منتخبة في أقصر وقت! وتكرر الأمر، بحذافيره، عندما اغتصب عدلي منصور سلطة التأسيس بعد أن عيّنه وزير الدفاع السابق رئيسا مؤقتا. وعندي أن جرم عدلي منصور، كونه كان رئيس المحكمة الدستورية العليا، أكبر بما لا يقاس من جرم محمد حسين طنطاوي ورجاله، ومنهم أو على رأسهم اللامبارك الثاني، غير أن عدلي منصور كان صوت سيده و"عبد المأمور" لمن عينّه في المنصب، وزير الدفاع والنائب الأول لرئيس مجلس الوزراء حينئذ. ومرة أخرى، كان يحسن بالرئيس السابق للمحكمة الدستورية العليا، بعد موجة ثانية من الثورة الشعبية في نهاية يونية 2012، أن يترفع عن هذا الجرم الدستوري، خاصة وان أحد بنود خريطة المستقبل التي أعلنتها المؤسسة العسكرية كان تعديل الدستور الذي اقتنصته سلطة اليمين المتأسلم في 2012. إلا أن اقتناص السلطات الاستبدادية لرئيس الدولة، لمصلحة الحاكم الفعلي وقتها، ومغازلة تيار اليمين المتأسلم امتثالا لرغبات، إن لم يكن إملاءات، ممولى الانقلاب العسكري لم تكن تحتمل الإبطاء من الرئيس الزخرفي، لاريب بنخس من وزير الدفاع. ذنوب لجنة الخمسين وما بعدها عندما استولت المؤسسة العسكرية على السلطة مجددا في 3 يولية 2013 استُكمِلت المسيرة التعيسة لاغتصاب مدنية الدولة، فعيّن الحاكم العسكري الفعلي، باسم صنيعته الرئيس المؤقت حينئذ، خمسين شخصا لتعديل الدستور الذي اقتنصه حكم اليمين المتأسلم بقيادة جماعةالإخوان بليلٍ، حرفيا. ولم أكن، للعلم، من المعجبين بكامل محتوى هذا الدستور. في لجنة الخمسين هذه تناوب عديد من الجناة اغتصاب مدنية الدولة، التي كانت إحدى المسائل الجوهرية المطروحة على اللجنة، في ظل الحكم العسكري الفعلي والمنتظر استمراره، والمتوقع من أعضاء اللجنة التخديم على تدويمه، ولا ريب عندي في أن هذا الاعتبار كان أحد معايير اختيارهم أصلا. ولا يجب إغفال أن بعض المعينين هؤلاء كان ينتابه رعب مزلزل من حكم اليمين المتأسلم حتى كانوا على استعداد للارتماء في أحضان الشيطان للهروب من مثل ذلك الحكم. وقد استلهمت هذا الرعب وعاقبته، في عنوان لمقال طويل أسميته: "الهرب من الكوليرا إلى الطاعون"، عن تعديل الدستور، نعلم الآن أنه في لحظة توتر في اللجنة حول مسألة مدنية الدولة قام أحد القساوسة، وأعلن تنازله عن "مدنية الدولة"، وكأن مدنية الدولة أمر لا يخص إلا المسيحيين من أبناء مصر، وأن هذا القس تكلم باسمهم جميعا، وقطع قول كل خطيب. إلا أن السادة العسكر، ومنافقيهم، تنفسوا الصعداء مع أنه، في تقديري، قد تنازل "القس" عما لا يملك، وأجازف بالقول أنه خيّب ظن الشعب والمسيح سويا.