(2) الثوار لا يحكمون وإنما يحكم بقايا نظام الحكم التسلطى وبوسائله فى جميع المراحل الثلاث لسلطة الحكم التى تلت الموجة الأولى من الثورة الشعبية يمكن القول إن من حكموا لم يكونوا من الثوار، بل إن غالبيتهم كانوا من شخوص تنتمى إلى، أو على الأقل لم تقاوم، الحكم التسلطى الفاسد الذى قامت الثورة الشعبية لإسقاطه. قد يزعم البعض أنه نتيجة لغلبة أجيال الشبيبة المفتقرة إلى الخبرة السياسية والتنفيذية على الموجات الاحتجاجية التى صنعت الثورة الشعبية كان يصعب أن يظهروا فى مؤسسات الحكم الانتقالى. وهذه قولة حق يراد بها باطل. لا ريب فى أن البراءة السياسية لأجيال الشبيبة كانت أحد العوامل فى اقتناص بقايا نظام الحكم التسلطى لمقاليد الأمور. ولكن زعم السلطات الانتقالية مردود بأنهم حتى لم يستفيدوا من الأجيال الأكبر والأوفر خبرة من المعروفين بمعاداة الحكم التسلطى الفاسد والانتصار لغايات الثورة الشعبية. كما أنهم حاولوا استمالة أجيال الشبيبة بالذهب وبهرج السلطة، وتطويع البعض الآخر بمزايا سياسية شكلية، ومن لم يستجب لاحقوه بالسيف بقصد إفراغ الإمكان الثورى للشعب، ولم يردع أى منها أن سابقتها قد خابت فى المسعى نفسه. والأخطر أن أولى الأمر فى جميع سلطات الحكم التى تلت اندلاع الثورة الشعبية حكموا بتوظيف البنى القانونية ومؤسسات وشخوص وشبكات المصالح التى أقامها نظام الحكم التسلطى الفاسد، الذى قامت الثورة الشعبية لإسقاطه، بوسائله وأدواته. وهو أمر طبيعى إما لانتمائهم إليه أو لعدم معاداتهم له أصلاً. أو هم عدّلوا على هذه البنى بالأسلوب ذاته وللأغراض نفسها باقتناصهم سلطة التشريع، بل حتى سلطة التأسيس التشريعى، عنوة واقتداراً. ما ينقلنا إلى السبب الثالث. (3) اغتصاب السلطتين التأسيسية والتشريعية من دون تفويض شعبى استحلت جميع سلطات الحكم بعد اندلاع الثورة الشعبية سلطة التشريع، بل وسلطة التأسيس التشريعى، من دون تفويض شعبى. والأخيرة لا يملكها إلا الشعب، مصدر السيادة الأعلى وصاحب السلطة التأسيسية الأوحد. ولا يستقيم الزعم بأن سلطة الحكم فى هذه المراحل كانت تتمتع بالشرعية الثورية النابعة من الزخم الشعبى للثورة وتفويض جماهير الشعب لها. وأبلغ دليل على كذب هذا الزعم أن السلطتين الانتقاليتين، وفترة حكم اليمين المتأسلم جميعاً، استدارت بعد هذا الزعم مباشرة لإجهاض الثورة الشعبية، من خلال ملاحقة النشطاء من جميع التيارات السياسية، خاصة المعارضة لها، بقصد إفراغ المد الثورى لأجيال الشبيبة. ولحسن الحظ فقد أخفقوا جميعاً وخاب مسعاهم الخبيث. إلا أن المفزع حقاً هو أن لا أحد فى السلطة، ولو كانت انتقالية، يتعلم من أخطاء وخطايا سابقيه. وهذا هو تفسير تتالى موجات الثورة الشعبية العظيمة وبقاء قوامها من أجيال الشبيبة المتجددة. كما لم تبد هذه السلطات تعاطفاً جاداً مع نيل غايات الثورة الشعبية، ولا قامت بإجراءات تمثل على الأقل بدايات ذات مصداقية على هذا السبيل. هناك على الأقل أربعة إعلانات دستورية ما كان يجب أن تصدر، حيث ساهم صدورها فى إعاقة نيل الغاية الرئيسية للثورة الشعبية العظيمة فى الحكم الديمقراطى السليم. أصدر الاثنان الأولان المجلس الأعلى للقوات المسلحة فى المرحلة الانتقالية الأولى، وأصدر الثالث والأسوأ صيتاً رئيس اليمين المتأسلم، وأصدر الرابع الرئيس المؤقت الحالى. فى الإعلان الأول منح المجلس الأعلى للقوات المسلحة لرئيسه السلطات الاستبدادية لرئيس الدولة، وفى الثانى كرس الرئيس المؤقت حينئذ أسلوب التحول الديمقراطى المعوّج والذى صُمّم، إما عن غفلة مستغربة أو دهاء خبيث، للتعجيل بوصول تيار اليمين المتأسلم بقيادة الإخوان الضالين، إلى سدة الحكم من بوابة اقتناص الغالبية فى المجلس النيابى. وفى الثانى كرّس المجلس العسكرى نتائج الاستفتاء على التعديلات الدستورية فى 30 مارس 2011، من دون الالتزام بها حرفياً، ما ضمن صعود التيار ذاك إلى سدة الحكم. وفى نوفمبر 2012 أصدر الرئيس المعزول إعلاناً دستورياً أعلن فيه نفسه معصوماً، ومُحصّناً قراراته السابقة واللاحقة من المراجعة أو الإلغاء من أى جهة كانت. وفى هذا الإعلان المشئوم استهدف الرئيس المعزول كلاً من المحكمة الدستورية العليا والنائب العام وعطل نظر دعاوى بعينها، وحصّن قرارات الرئيس وإعلاناته الدستورية، ومنح نفسه سلطة اتخاذ قرارات استثنائية بدعوى حماية الثورة، كما تضمن لأول مرة فى تاريخ مصر مادة لإعادة المحاكمات. ولعل هذه كانت بداية النهاية التى أذكت المعارضة لحكم هذا التيار الفاشى الإقصائى. ولم ينتظر الرئيس المؤقت طويلاً بعد 3 يوليو لكى يصدر إعلانه الدستورى بعد خمسة أيام فقط، معطياً نفسه هو الآخر سلطات استبدادية، باعتباره رأس الدولة جامعاً بين قمة السلطة التنفيذية وسلطة التشريع. غير أن الأخطر فى هذا الإعلان كان تضمينه نصوصاً دستورية خلافية تميل، فى مغازلة جلية لتيار اليمين المتأسلم، إلى التقليل من أهمية مدنية الدولة وربما بقصد التأثير المسبق على اللجنتين اللتين عينهما الرئيس المؤقت ذاته لتعديل الدستور، وقد كان ومُيّعت مدنية الدولة فى الدستور. وهكذا يتفرع عن اغتصاب سلطة التأسيس، والتشريع من بعدها، تكريس البنى القانونية للحكم التسلطى والتهاون فى العمل على نصرة الثورة الشعبية ونيل غاياتها من بوابة الحكم الديمقراطى السليم.