ينصب هذا المقال علي مضمون المسودة الأولي لمشروع دستور لجنة الخمسين المعدل المؤرخة21 نوفمبر. وعلي العموم, أصبح لشعب مصر أخيرا مشروع دستور يليق بمكانة مصر وشعبها بعد موجتين كبيرتين الثورة الشعبية العظيمة في يناير2011 ويونيو.2013 ولما كان المنتج يدل علي الصانع, فإن في أفضلية هذا المشروع علي دستور2012 المعطل دليل واضح علي أفضلية العملية التي اتبعت لوضع الدستور بعد إسقاط حكم اليمين المتأسلم, علي الجمعية التأسيسية التي اختطفها اليمين المتأسلم وحكم القضاء بعوار تكوينها مرة, وما زال صحة تكوينها الذي أصدر مشروع دستور2012 محل نظر القضاء. ومن ثم, فالشكر والتقدير واجبين للجنتي العشرة والخمسين. ولكنه ليس شكرا غير مشروط. فما زال بالمشروع بعض ثغرات قد تفتح أبوابا واسعة لاضطراب التحول الديمقراطي في هذه المرحلة الانتقالية الثانية. إذن لجنة العشرة ومن بعدها لجنة الخمسين انتجتا مشروع دستور أفضل مما تآمرت قوي اليمين المتأسلم علي اختطافه ونحي لصبغ الدولة والمجتمع في مصر بطابع ديني يحرم شعب مصر من الدولة المدنية الحديثة باعتبارها حجر الزاوية في إقامة الحكم الديمقراطي السليم, مدخلا لازما للنضال الوطني لنيل غايات الثورة الشعبية العظيمة في الحرية والعدل و الكرامة الإنسانية للجميع علي أرض مصر الكنانة. ويتعين ألا ننسي هنا أن رأس الحربة في هذا الاختطاف كان السلفية المتشددة التي تغلبت علي قوام ونشاطات الجمعية التأسيسية التي وضعت دستور.2012 ولكن المشروع القائم, وهو حتي وقت الكتابة ليس إلا مجرد مشروع غير نهائي, قد جانبه الصواب وخالف غايات الثورة الشعبية في أكثر من موضع. والأخطر ربما أن الإجراءات التي وضعها الرئيس المؤقت تتهدد المشروع بالبطلان واضطراب الجانب الدستوري من خريطة المستقبل التي توجت موجة2013 من الثورة الشعبية. بداية, اصر الإعلان الدستوري للرئيس المؤقت علي أن تعمل اللجان علي تعديل دستور2012 وليس إنشاء دستور جديد يلي نجاح الموجة الثانية الكبيرة من الثورة الشعبية, كما طالب كثيرون من بينهم الكاتب الحالي لأسباب متعددة من أهمها موضوعا فصم أي صلة بين دستور مصر الدائم إن شاء الله, وحكم اليمين المتأسلم التسلطي والفاشي. ولكن بالإضافة, فطالما ظلت الجمعية التأسيسية التي انتجت الدستور المعطل مهددة بالبطلان, ما يبطل منتجها, فيبقي مشروع لجنة الخمسين, باعتباره تعديلا لدستور2012, معرضا للبطلان. وفي الإجراءات كذلك مطعن علي مدة الستين يوما التي حددها بقطع جامد الإعلان الدستوري للرئيس المؤقت. والمدهش حقا أن تصدر هذه المطاعن المحتملة عن الرئيس المؤقت الذي هو أصلا قاض دستوري مخضرم. إلا أن الكاتب يعنيه أكثر مضمون المشروع فيما يتصل بفرصة هذا المشروع, إن أقر شعبيا, في نيل غايات الثورة الشعبية العظيمة. إن إصرار السلفية المتشددة علي استبعاد لفظة مدنية كصفة للدولة المرغوب قيامها في مصر يثير الريبة في أنهم لن يتوقفوا عن محاولة إقامة دولة دينية تحت تعلة المرجعية الإسلامية. والإصرار علي استبدال لفظة الحديثة بدلا من المدنية ليس إلا إمعانا في المراوغة التي تفتح باب الاضطراب في الحياة السياسية. وحتي وقت الكتابة كانوا يصرون علي وضع مغزي المادة219 غير المأسوف علي غيابها في ديباجة الدستور وإلا عادوا مشروع الدستور الذي ساهموا في صوغه وقاموا بالحشد شعبيا لرفضه. وهو إمعان في التحزب والمراوغة. ويرتبط بهذه الإشكالية مسألة منع الأحزاب الدينية., فلا ريب أن الخمسين قد احسنت صنيعا بمنع قيام الأحزاب علي أساس ديني. وهو بالمناسبة نص غير مستحدث. فلطالما نصت القوانين علي منع قيام الأحزاب علي اساس ديني ولكن القائمين علي تطبيق النص ورئاساتهم تغاضوا عن النص تسهيلا علي تمكين تيار اليمين المتأسلم من سدة الحكم, إما تواطؤا أو خضوعا للابتزاز بالعنف. ولكن اللجنة بعدم توضيحها معني الحزب الديني, تركت ثغرة واسعة لما يسمي بالأحزاب الإسلامية, وليس لها بالإسلام أي علاقة, وكانت عنصرا فاعلا في كوارت التي جرها حكم اليمين المتأسلم والإرهاب الفاجر الذي ردوا به علي إسقاط حكمهم شعبيا, تركت لهم الثغرة للتملص من طابعهم الديني تحت غطاء المرجعية الإسلامية الفضفاض. وأظن أن الإنجاز الأهم للجنة الخمسين هو تضمين المشروع ترسانة من المواد الحامية للحقوق والضامنة للحريات الأساسية والمساواة والكرامة الإنسانية. ولكن ينتقص من هذا الإنجاز الرائع حقا أن اللجنة لجأت إلي الحيلة القانونية المعتادة للتملص من الإقرار الحاسم للحقوق والحريات بإحالتها إلي القوانين التالية للدستور تحت شعار تنظيمها الذي كثيرا ما انتهي في عصور الحكم التسلطي بتقييد الحرية أو الحق. ولعل اللجنة لجأت لهذه الحيلة لحسم الخلافات داخلها أحيانا. والمثال الواضح علي هذا هو الإحالة إلي القوانين لتنظيم حق الإضراب السلمي, علي الرغم من استقرار الحق في المواثيق الدولية ووجود أحكام رائعة للقضاء المصري في إقراره. ويتبين من الجملة السابقة أن هذا التقييد بقصد التنظيم يتضارب مع نص المادة التي توجب احترام المواثيق الدولية لحقوق الإنسان, وهي إنجاز آخر يحمد للجنة أن ضمنته في الدستور. وفي النهاية فإن لجنة الخمسين, رغم الجودة البادية في منتجها والتي تستحق الإشادة في المجمل, أفسدت علي نفسها فرصة الاحتفاء الشعبي بمنتجها بإغضاب كثير من المغبونين تحت الحكم التسلطي الذي قامت الثورة لإسقاطه وكانوا جميعا يأملون ان ينصفهم مشروع الدستور الجديد. والكاتب يتعاطف هنا مع لجنة الخمسين من منطلق استحالة إرضاء الجميع بعد عقود من الحكم التسلطي الذي ظلم جميع فئات الشعب تقريبا. وربما كان اجتهاد اللجنة للانتهاء من عملها تحت سيف الستين يوما الذي سلطه الرئيس المؤقت عليها سببا في استجلاب غضب الفئات المغبونة, حيث أظن أن الحكمة الجمعية للجنة كان يمكن أن تصل لحلول توفيقية افضل في مدي زمني أطول ولو من خلال بعض الحكام الانتقالية. والمثل المهم هنا هو إلغاء حصة العمال والفلاحين في المجلس النيابي. ومع تسليمي بأن هذا النص- نبيل المقصد- قد أسيء استغلاله منذ وضع وحتي ألغي, فقد كان الحل في نظري يمكن في تبني تمييزا إيجابيا انتقاليا لجميع الفئات المهمشة في المجال السياسي المصري إلي أن يتكفل التنظيم الديمقراطي وآليات الديمقراطية السليمة بالقضاء علي منابع تهميش أي فئات مهمة في المجتمع. ويتصل المأخذ الثاني للبعض بمسألة المحاكمات العسكرية للمدنيين والتي أعارضها من حيث المبدأ ومن منطلق احترام المواثيق الدولية حقوق الإنسان المقر في مشروع الدستور. وإن كانت لجنة الخمسين في نظري وفقت بتقييدها بالاعتداء علي المنشآت العسكرية. وقد كان الإفضل تأقيتها بظروف استثنائية مثل التي تمر بها مصر حاليا من معاناة الإرهاب الخسيس لفئات ضالة. ولهذا اتساءل ألم يكن أوفق أن يحال هذا التخلي عن شرط القاضي الطبيعي, إلي القانون ليقيده؟ لمزيد من مقالات د . نادر فرجانى