تناولنا في المقال السابق جوانب سياسية مختلفة في المشهد الحالي, واليوم نتطرق إلي جوانب أخري, علاجها أو حل عقدها يصحح الكثير من التصرفات لقد اجتهدت لجنة العشرة الفنية وقامت بعمل ضخم ومشكور في زمن قياسي يوجب توجيه الشكر والثناء. ولكن اللجنة تحت ضغط الاستعجال لم تتمكن من التخلص من جميع مساوئ دستور اليمين المتأسلم. وطبيعي ألا تتمكن لجنة كهذه من إرضاء جميع الأطراف. ولذا فإن الأمل معقود علي لجنة الخمسين التي صممت لتمثل مختلف اطياف الشعب للتوصل لتوافق يلقي قبولا شعبيا أوسع بل أن تقوم من خلال أسلوب عملها علي صنع هذا التوافق. ولكي تحقق لجنة الخمسين هذا الهدف يتعين أن تنفتح مداولاتها علي عموم الناس علي الأقل من خلال وسائل الإعلام وتلقي الاقتراحات لتأخذها في الاعتبار في قراراتها. ولا بأس من إطالة أمد عمل اللجنة قليلا, فالغاية المرجوة تستحق إطالة المرحلة الانتقالية شهرا أو شهرين. وفي المضمون, أعلن مقرر لجنة العشرة أن التعديلات التي ادخلت علي دستور2012 من الضخامة بحيث تشكل أساسا لدستور جديد بالكامل. فليكن إذن دستورا جديدا بالكامل يليق بالثورة الشعبية العظيمة وليس ترقيعا لابد سيحتوي علي تناقضات داخلية تصل إلي حد العوار الدستوري. فالثورات لا تنجح بالتلفيق, ودستور يليق بالثورة الشعبية العظيمة لا يجوز ان يكون ترقيعا لدستور معيب أنتجته مرحلة سابقة معادية للثورة. وإن كان لي ان أعبر عن موقفي من نتاج أعمال لجنة العشرة, فإنني اؤيد إلغاء مجلس الشوري والمادة219 المفسرة لمبادئ الشريعة. والأمر الأخير جد خطير وموضع نزاع مستعر, حتي يستحق قدرا من التفصيل هذه المادة تفتح الباب للتمييز ضد غير المسلمين وحتي ضد المسلمين من غير السنة. كما أنها تفتح الباب لجميع أحكام الفقه السني المعسرة والمتشددة والتي لا تناسب عصرنا. والأخطر انها تقحم في دستور مصر نكهة طائفية بغيضة تضر بسماحة الإسلام الوسطي الذي تميزت به مصر ومنارتها الدينية الأزهر الشريف عبر العصور وتهدد بإدخال مصر في أتون الاستقطاب الطائفي في المنطقة العربية خدمة لأغراض لا تمت لمصلحة الوطن بصلة. وقد شهدنا لبروز هذه النزعة الطائفية في مصر مؤخرا تجليات دنيئة وبغيضة مثل الاغتيال الهمجي لإخوة من الشيعة والتمثيل بجثثهم في أبو النمرس. ولا أدري من اين أتي الإرهابيون الذين يتمسحون بالإسلام بخطيئة التمثيل بالجثث الذميمة هذه, والتي مارسها اشياع الإخوان الضالين مؤخرا ضد بعض رجال شرطة شعب مصر. والأخطر أن هذا الجمود الفقهي يقوض دعائم واجب الاجتهاد الفقهي الذي هو شرط اساس لصلاح الدين والدنيا, وأحد مناهله الرئيسية الانفتاح علي جميع المذاهب الفقهية. وعلي الأرجح لا يصل منتهي علم الفئات السلفية المتشددة, ويمنعها ضيق افقها وقصور عقلها, الذي يزين لهم الاستسلام لسهولة النقل والتلقي عن القدماء من الكتب الصفراء, عن استيعاب أن شيوخا أجلاء ممن رأسوا الأزهر الشريف قد اصدروا دررا من الفتاوي تعبر بحق عن رحابة الإسلام. ومن هذه فتوي صاحب الفضيلة الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت, شيخ الجامع الأزهر في شأن جواز التعبد بمذهب الشيعة الإمامية. وتنص الفتوي علي إن الإسلام لا يوجب علي أحد من أتباعه اتباع مذهب معين بل نقول: إن للمسلم الحق في أن يقلد بادئ ذي بدء أي مذهب من المذاهب المنقولة نقلا صحيحا والمدونة أحكامها في كتبها الخاصة, ولمن قلد مذهبا من هذه المذاهب أن ينتقل إلي غيره- أي مذهب- ولا حرج عليه في شيء من ذلك. وإن مذهب الجعفرية المعروف بمذهب الشيعة الإمامية الإثنا عشرية مذهب يجوز التعبد به شرعا مثل سائر مذاهب أهل السنة. لكن أين هذا الانفتاح والسماحة مما يقرعون به آذاننا ويضربون به عقولنا وفهمنا لصحيح الإسلام, من تشددهم المنفر الذي كان يقيم الدنيا ويجرد التظاهرات لمجرد زيارة بعض سواح من إيران لمصر خوفا من خطر تشيع مزعوم, وقد انتهي كما نعلم إلي قتل إخوة في الإسلام علي ايدي دهماء مضللين. في الواقع, أنا أفضل النص علي مقاصد الشريعة كمصدر للتشريع, وليس المصدر الأساسي, وهو المصطلح الفقهي الأدق والمفضل علميا. وهو لذلك يتعين أن يكون معروفا لأي من يدعي الإلمام بمبادئ الشريعة ولا يمكن الادعاء بأنه مصطلح مطاط وغامض كما تدعي السلفية المتشددة علي لفظ مبادئ. فالمقاصد الكلية للشريعة الإسلامية السمحاء, والتي تعني في الجوهر إسلام العقل والعدل والإخاء والمساواة والمحبة والتراحم, معلومة بالضرورة لمن يفقه اساسيات الشرع. وهي خمسة أساسية تستهدف أصلا حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال. وهي تناظر عناصر جوهرية في منظومة حقوق الإنسان, ويتفرع عنها مقاصد فرعية مثل الحرية والكرامة الإنسانية. وإن لم يتيسر الأخذ بمقاصد الشريعة فليكن العود حميدا إلي المبادئ مع تفسير المحكمة الدستورية لها. لقد افسد اليمين المتأسلم علينا السياسة في مصر وحولوها إلي ساحة مغالبة بالعنف والإرهاب. فلا تدعوهم يفسدون هوية الإسلام الحنيف في الدستور, رجاء. وبناء عليه, لا تساهل مطلقا, من فضلكم, في حظر قيام الأحزاب علي اساس ديني يؤسس لدولة غير مدنية يطغي عليها الطابع الديني ولمجتمع يسوده فقه التعسير والتكفير. ولا يعني ذلك تغييب المرجعية الإسلامية من السياسة في مصر شريطة أن تترفع عن فقه التعسير والتشدد المنفر, والبينة علي من ادعي. ويتوجب علي لجنة الخمسين التخلص من النزوع الاستبدادي التقليدي في كتابة الدساتير بفتح باب التنصل من حماية الحقوق والحريات بإحالة تنظيمها للقانون أو أحكام الشريعة وليس مبادئها المؤسسة لمواد الدستور كلها, والتشديد علي إلتزام الدولة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية, وليس مجرد السعي من أجلها أو كفالتها, لا سيما للفئات الأضعف اجتماعيا كالأطفال والنساء. والمثل الصارخ هنا هو ابقاء لجنة العشرة علي النصوص التي تسمح بالسخرة وبعمل الأطفال. وفي تشكيل مؤسسات الحكم, فلنعتمد النظام المختلط في الانتخابات التشريعية لدورة واحدة علي الأقل. ومن المفيد انتقاليا إجراء الانتخابات الرئاسية أولا للسماح بأحزاب جديدة تعمق جذورها الشعبية, وبعد ذلك يمكن إجراء الانتخابين معا. وتقوم ضرورة للحد من سلطات رئيس الجمهورية خاصة في تعيين نائب الرئيس ورئيس الوزراء والوزراء وإعفائهم, وفي حل مجلس الشعب. ويتضمن ذلك النص علي إجراء دستوري للانتخابات الرئاسية المبكرة ولعزل الرئيس بناء علي مقياس لرأي الشعب وليس فقط لأعضاء المجلس النيابي. ويعضد هذا التوجه انتخاب نائب الرئيس من الشعب مباشرة مما يكفل للمنصب ولشاغله مصداقية. وفي النهاية, ينبغي إعادة وضع القوات المسلحة لشعب مصر إلي موضعها الطبيعي في الدساتير الديمقراطية التي لا تعلي علي سلطة الشعب أي سلطة ولو كانت لقواته المسلحة الباسلة حتي لا تنشأ ارستقراطية عسكرية تهدد الطبيعة المدنية للدولة الديمقراطية الحديثة المنشودة. لمزيد من مقالات د . نادر فرجانى