تأسست فكرتي عن الموت على منطق واضح، الموت سنة طبيعية لم يخالفها بشر ولن يفلت منها كائن حي، ظلت الفكرة الطفولية عن الموت، وارتباطه بالتقدم في العمر هي الأقرب إلى عقل طفل تعلم الحساب والساعة قبل أن يتعلم القراءة والكتابة، يولد الطفل ويبدأ في التعلم ثم ينضج فيبدأ بتعليم ما تعلمه لأبنائه، حتى ينتهي من تعليمهم أو ينتهوا منه، فيجلس بانتظار الموت حتى يترفق به فيأتي سريعا، أو على مهل. فهمت أن للموت دائما سببا ومسببا، كما لكل حادث يمر بحياتنا، فالموت يحمله المرض في أغلب الأوقات، كما تحمله الحوادث والعوارض، ويحمله التقدم بالعمر ولكن على محطات، المهم أن الموت لا يأتي أبدا بلا سبب، ولا يكون السبب بغير مسبب، ودائما تدور كلها في إطار من المنطق البسيط. ربما لهذا السبب لم أتوقف عند أي حالة وفاة في الصغر، لم أحزن ولم أهتم، حتى وفاة الجدة لم تخرج من هذا الإطار، أدت دورها الإنساني، فقدت نظرها، ثم فقدت الأطراف واحدا تلو الآخر، حتى سقطت خلال أيام، هكذا وصف والدي الموت، يموت البعض تباعا فيموت الكل، تفسير منطقي آخر. لم أستوعب أبدا مظاهر الحزن المواكبة للموت، لم تكن مشكلتي مظاهر الحزن المبالغ بها، بل الحزن ذاته، لم أفهمه ولم أحبه، كرهت الحزن ومظاهره، كرهت الجنائز والنعوش والغسل والدفن، لم أذهب يوما إلى جنازة ولم أحضر دفنا، حتى واجب العزاء جنبته حياتي الاجتماعية، كرهت كل ماهو متعلق بالموت، ولكني لم أكره الموت. كثيرا ما فكرت في رحيل الأحبة، كيف سأتقبل الغياب، من يقوم بأدوارهم بعد الرحيل، هل أحزن للمرة الأولى لفقدان قريب، كانت تعود الإجابات منطقية، لن يأخذ الموت من لم يتمم دوره، إذا أتم دوره لن يتألم أحد لغيابه، ربما فقط مرارة الذهاب بغير عودة، ولكن المرارة لا تبقى وأيضا الألم لا يدوم. أتساءل أحيانا عن منبع شعور الحزن بفقدان الأحبة، لماذا نتمنى بقاءهم رغم علمنا اليقيني بأنهم بالفعل قد ارتاحوا من هموم الحياة، وربما ارتاحوا منا أيضا؟، هل للأمر علاقة بالأنانية وحب التملك، فنكره الحزن على الأحبة؟، هل نتمنى لو ارتحنا مكانهم، وجلسوا هم حزانى بدلا منا؟. ظل الموت يمثل لي هذه الأفكار الطفولية المنطقية، حتى وصلني خبر مقتل الصديق مينا دانيال، برصاص الجيش المصري أمام مبنى الإذاعة والتليفزيون، أتذكر أني استقبلت الخبر كعادتي بغضب دونه الحزن، تماسكت. وصلني الخبر قبل الظهور على الهواء أمام كاميرات التليفزيون، تحدثت عن الواقعة، وأعلنت خبر الوفاة، بهدوء اعتدته في مثل تلك المواقف، لم أعد إلى بيتي متذكرا صديقي بغبطة المودع إلى دار خير من دارنا وأهل خير منا، بل توجهت إلى المشرحة، بكيته كما لم أفعل من قبل، حضرت المراسم، بهدوء وحزن فاق الغضب هذه اللحظة. سقطت الدموع من أجل الصديق المقرب، لم تنفع معها حسابات المنطق، ولم تردعها حيل الغبطة، تمنيت كثيرا أن يعود مينا إلى الحياة، تمنيت أن أكون مكانه فأرتاح من ألم الفراق، ومتاعب العيش، كنت أعلم أنه أفضل مني حالا لاصطفائه، ولكني كنت أنانيا هذه المرة. ربما كانت القاعدة انتهاء الأدوار المعيشية، ثم انتظار الموت، ولكن البعض أكبر من أن يجلس عاجزا في انتظار تآكل جسده وتحلل روحه حتى الفناء، البعض يجبر الموت على الجلوس منتظرا اللحظة التي ينقض فيقتنصه مرة واحدة. لم تتكرر لحظة مينا وربما لن تعود، ولكن عادت الحسابات المنطقية بعد عدة تعديلات وتركيبات تليق بحوادث الموت المتعددة والمتفردة، في الحقيقة لم تعد الحسابات المنطقية منطقية، ولكن ربما فقد العقل منطقه الحسابي أيضا، فلم يعد يفاجئنا الموت، دون حساب أتقبل الخبر بهدوء وربما يمر مرور أنباء السفر وحالات الاكتئاب وأحكام السجن، مجرد خبر. أصبحت أكثر تصالحا مع الموت فلا أخشاه ولا أحبه، وصلنا إلى نقطة التعادل، لا أحزن للفراق ولا أغبطه، لم أتوقف عن حضور المراسم الجنائزية، ولكنها أيضا لم تعد تخلف أي أثر.