كنت دائماً أظن أن للإنسان قدرة على النسيان.. قدرة أعطاها لنا الله لنستطيع مواصلة الحياة بدون أحبائنا.. هكذا كنت أفكر بعد لحظات من غيابها عن الحياة، وكما يقال إن الأيام الأولى هى الأصعب.. لكن هيهات أن يحدث هذا فمع الأيام يزداد حزننا عمقاً بعمق تجاربنا وقسوتها لتصبح الرؤية ضبابية نلتفت حولنا يميناً ويساراً بحثاً عن يد حانية وقلب يحتوينا فنجد أنك أنت أول من يتبادر إلى الذهن أيتها الحاضرة الغائبة.. أنت الوحيدة التى يهفو القلب لها وتسكن الروح إليها.. فيضنينا البحث ولا نجدك فقد ذهبت الروح لخالقها حتى إننى أؤمن بأننا أنانيون فى حزننا على من رحلوا.. أنانيون لأننا نؤثر راحتنا بوجودهم جانبنا على راحتهم بوجودهم بجانب الله. وعلى الرغم من البعد والفراق الذى كتبه الله علينا وعلى الرغم من حنينى أنا وإخوتى الجارف إليك وعلى الرغم من شوقى لرؤيتك وحاجتى لأن ارتمى بين ذراعيك ليشكو القلب إليك قسوة الأيام والناس.. على الرغم من هذا فإننى سأكون كاذبة إن قلت إنك كنت يوماً بعيدة، فدائماً تأتينى فى نومى ويقظتى فمرة تدعو لى وأخرى تبشريننى ببشارة أو توصينى بشىء أو تساعديننى لأخذ قرار أو لتحذرينى من حاسد أو حاقد.. ووالله إن فرحتى بقربك منى وخوفك علىّ رغم الموت والبعد تسيطر علىّ حتى إننى أنسى ما بى وأنسى الحلم وأتمناه حقيقة.. فأى أم أنت التى تراعينا وتحنو علينا وتثقل على نفسها بهمومنا وهى بقرب الرحمن الرحيم؟ وإن كنت أفرح لأنك تخصيننى عن إخوتى بهذه الرؤى إلا أنهم يغارون. ربما لأنى عشت أكثر من نصف عمرى بدونك ولا أريد أن أحيا أكثر من ذلك بعيدة عنك فأيامى معك وإن كانت قليلة فإنى كنت أحياها بقلب مطمئن دون خوف.. لم أخَف فيها من شىء سوى بعدك.. كم باتت هذه الأيام بعيدة رغم أنها ما زالت محفورة بذاكرتى فتبدو كأنها حياة لم أعشها من قبل. وبعد أن فقدتك يا أمى -فقدت الجسد وليس الروح-أخشى ما أخشاه أن أنسى صوتك يوماً.. هل تعلمين أنى ما زلت أسمعه يرن فى أذنى حتى الآن؟ ترى إلى متى ستسعفنى ذاكرتى لتسمعنى إياه أم أن هذه الأصوات الملائكية كصوتك لا تنسى؟ حتى حينما أراد الله مجيئك إلى هذه الدنيا اختار أن يكون ميلادك يوم عيد. لتكونى دائماً فرحة لمن حولك. لم أفخر يوماً بشىء كفخرى بكونك أمى وإن كنت تستحقين ابنة خيراً منى لتفخرى بها. ولم ولن أحزن على فراق أحد بقدر حزنى على فراقك حتى إننى أصررت -وأنا ذات 14 ربيعاً- ألا أتركك وأن أظل معك فى كل مراسم الجنازة رغم قسوتها على عمرى الصغير.. ولو كان بيدى أن أختار لاخترت أن أرافقك فى القبر ليس خوفاً عليك من وحشته لكن خوفاً من وحشة الحياة بدونك. كثيراً ما شعرت أنك ستفارقيننا -ولا يعلم لماذا إلا الله- وكلما تخيلت هذا أبكى لساعات رغم أنك كنت بجانبى ولم يكن يبدو أى معالم للفراق. وإنى على يقين بأن كلاً منا يفخر بأمه ولا يرى أما أفضل منها لكنى ما زلت متحيزة لأمى ليس لأنها أمى لكن لأنها كانت أما لكثير غير أبنائها فلم تكن تمارس الأمومة بفطرتها التى جبلت عليها ولكنها كانت تمارسها بروحها التى كانت تسع كل من حولها لتكون أماً للكل.. أمى اسألى الله أن يأخذنى إلى جوارك فأنت إلى الآن بجواره فهو يحبك ويسمعك.. افعلى هذا لأجلى رأفةً بى من دنيا لست بها.