في سياق الثورات, وخاصة الثورات الشعبية كثورة 25 يناير, تأتى لحظات تاريخية معينة تتلاحق فيها الأحداث بسرعة, كما يحدث الآن للثورة المصرية. فى هذه اللحظات توجد حاجة قصوى لأعلى ترشيد ذاتي ممكن, بخصوص التوجهات والقرارات الثورية, بحيث تكون النتيجة إيجابيات طويلة الأجل, وليس مجرد إيجابية عاطفية سريعة راهنة, تكون عرضة للغرق فى سلبيات متصاعدة,تتضح فيما بعد, على غرار ما حدث حتى الآن بالنسبة لحكومات المرحلة الانتقالية. وللدلالة أكثر بخصوص المعنى المقصود, يمكن الإشارة إلى أن ثوار “التحرير” كانوا هم أنفسهم قد نادوا بتسمية أو ترشيح د.شرف (وآخرين غيره) لرئاسة الحكومة وعضويتها (من الميدان وعبر فيسبوك), متخطين الغربلة المنطقية الاسترشادية المتوقعة. وهكذا,من خلال هذا التخطى للمنهجية العلمية , جرى إهدار ثمانية أشهر من فترة المرحلة الإنتقالية, ومن عمر الثورة, والتى كان عليها (أى الثورة) أن تقوم بالتعويض والتصحيح, بإستشهاد المزيد من أبنائها. بالأخذ فى الإعتبار لماسبق ذكره, يمكن جذب الإنتباه لمايلى: 1) الثورة مازالت تحت الإنضاج والإرتقاء, وهى لم تصل بعد الى “نموذجها الإسترشادى”, والذى تقوم فيه بممارسة التصميم الإبداعى لمسارها, وتحديد سقفها, وخلق وتطوير آليات المتابعة. وعليه, من الضرورى بشأن القرارات التى تتخذها قوى الثورة أن تساهم فى إتاحة الحركيات والفرص المناسبة, والمطلوبة, لدعم عمليات إنضاج وإرتقاء الثورة ذاتها, وليس وضع خط نهاية لها. 2) أن مناداة البعض بتشكيل مجلس رئاسى لقيادة البلاد يُعد أمرا غير حميدا, حيث يجب أن تكون أعلى سلطة فى البلاد هى “سلطة الثورة” ذاتها. ذلك فضلا عن أن تشكيل المجلس الرئاسى لايكون إلا بمنهجية وإنتخابات, وليس من المناسب أن يتشكل (كما ردد البعض) من الأكثر شهرة, ممن بدأوا الدعاية لإنتخابات الرئاسة, وإعتُبروا مرشحين محتملين, برغم عدم إستكمال أو إستقرار الثورة بعد. وذلك – بالتأكيد – مع الإحترام لجدارتهم جميعا للترشُح. وعليه, المطلوب هو تشكيل سلطة للثورة, الأمر الذى إقترحناه مرات على مدى الأشهر الماضية (فى “البديل” وفى مواقع ومنتديات الكترونية وورقية وحوارية أخرى), حيث يمكن لهذه السلطة أن تكون فى شكل “مجلس قيادى جماعى للثورة”. 3) وعن طريقة تشكيل هذا المجلس (أو الكيان), من المهم أن ترتكز على أسس منطقية, شفافة ومعلنة, وعلى درجة من الوضوح و البساطة, بحيث يمكن إستيعابها والتفاعل معها من الجميع. هذا, وقد جرت الإشارة الى منهجية الطريقة فى مواضع عديدة فى أوقات سابقة, وكان آخرها فى ” آن أوان تشكيل مجلس قيادى جماعى للثورة المصرية -21 نوفمبر”. وأما فى المقام الحالى, يجدر جذب الإنتباه الى أن المدخل الى الطريقة لابد وأن يبدأ بورشة (أو بعدد من ورش) العمل, الأمر الذى كان قد بدأ الترتيب له مع بعض قوى الثورة فى الإسكندريةوالقاهرة, فى النصف الثانى من يوليو الماضى, إلا أنه قد توقف – فى الأغلب – بسبب إنشغالات مفاجئة لهذه القوى, شبابا وشيوخا, بما قد قاد بعد ذلك الى ما صار يُعرف بوثيقة المبادىء الحاكمة للدستور. 4) أن رأس الثورة (أو “المجلس القيادى الجماعى للثورة”) يعمل جماعيا, وليس من خلال سلطة أو كاريزما الفرد. إنه يختص بتحديد لزوميات الثورة (أى متطلباتها ومسارها), ويكون هو الموجه والمتابع لأدوار السلطات الإدارية والتنفيذية فى البلاد (أى المجلس الأعلى للقوات المسلحة والحكومة) بشأن هذه اللزوميات. هذا المجلس إذن, يكون بمثابة المكتب التنفيذى للثورة, بينما المليونيات هى جمعيته العمومية, و الإطار المرجعى الحاكم له. وغنى عن الإشارة هنا أن هذا المجلس قابل للتدوير فى أداء مسؤلياته, وفى عضويته. 5) أن ما قد تناقل بخصوص قيام قوى الثورة فى التحرير من منع بعض كبار نشطاء السياسيين ورجال الأحزاب من دخول الميدان (الإثنين 21 نوفمبر), يحمل دلالة قاطعة على رفض مايُعتبر حيود من هؤلاء النشطاء عن مسار الثورة. وإذا كنت شخصيا من أوائل من نبهوا الى هذا الحيود, فى حلقات نقاشية عامة حضرها بعض هؤلاء النشطاء, إلا أن المصلحة الوطنية تتطلب عدم نسيان أن العديد من هؤلاء النشطاء الكبار , هم ممن ساهموا بفاعليات وتضحيات لايمكن إغفالها فيما يتعلق بإرتقاءات الأوضاع فى مصر الى مسار الثورة, كما أن إمكانات عطائهم الوطنى لاتزال وفيرة. هذه الإشكالية (التباينات بين التوجهات والممارسات) تعزز من الحاجة الى مجلس قيادى للثورة, يقوم بمهمة “المايسترو” فى الإستفادة برؤى وطموحات وخبرات الجميع, صغارا وكبارا, شبابا وعواجيز, بحيث يتضائل النشاز, و يحدث التوافق فى أداء أحسن عزف (وإرتقاء) ممكن للثورة المصرية. وختاما, لابد من التأكيد على الإحترام الكبير للمواطن العادى فى مصر. إنه من صنع الثورة فى يناير, ومن بادر بحمايتها بروحه فى نوفمبر, ومن يحرسها إن شاء الله فى المستقبل. عدد ليس بقيل من المهمومين بالشأن العام فى مصر, بينما كانوا يتألمون من عمليات إهدار الثورة على مدى الأشهر الماضية, كانوا فى نفس الوقت على يقين عال بقدوم الموجة الثانية من الثورة بواسطة المواطنين العاديين. فى هذا الخصوص , لا أنسى لقاء تشرفت به, مع جمع من المواطنين العاديين فى القاهرة (فى الصيف الماضى). كان اللقاء عن “إستكمال وحماية الثورة”. لقد رأيت بوضوح, وبشكل مجسم, أن الحس الجمعى لهؤلاء المواطنين يتفوق على رؤى نسبة كبيرة ممن يُطلق عليهم “النخبة”. كانت لديهم القدرة على إدراك الحيودات عن متطلبات الثورة من جانب الكثرة من النشطاء السياسيين من شباب الثورة ورجال الأحزاب, ورواد الحوارات التليفزيونية. كما أدركت كم أن حسهم الجمعى يتفوق كذلك فى الحرص و الحمية بخصوص إستكمال وحماية الثورة. نعم, إنه الشعب المُعلم والذى يستطيع أن يُلقن طلائعه الثورية أسرار آماله الكبرى, وذلك كما ذكر عنه منذ خمسة عقود بالتمام.