هي مقدمة لا تحتاج لبرهان، لكونها واقعًا معاشًا، يدرك صحتها كل من يحيا ببلادنا، حتى أولئك الرافضين لها، وأعني بها كون التراث يستبد بمجتمعاتنا استبدادًا لا مثيل له بأي مجتمع آخر، فهو حاضر وفاعل بقوة، وليس أدل على ذلك من احتلال إشكالية التراث مساحة واسعة من كتابات معظم مفكرينا المعاصرين، لكنَّه وإن كان حاضرًا، كما ذكرنا، فإنَّ جزءًا معتبرًا منه غير مؤثر لأنَّه غير مُبَين، لأنَّه مطموس ومشوه؛ ليحول ذلك دون أن يصبح التاريخ مدرسة للحرية، بحسب فولتير، فالمعرفة التاريخية هنا زائفة، (والتزييف بتاريخنا كان يجري غالبًا لصالح الأيديولوجية)، ولعل أبرز صفحات هذا الزيف بماضينا هي الصفحات التي سُطرت بها أحداث الثورات على الأنظمة الاستبدادية، فأدينت هذه الثورات، واتهمت بأشنع الاتهامات، وكأنَّ الأسباب الموضوعية لاندلاع الثورة في المجتمع الإسلامي بهذا العصر لم تكن موجودة وظاهرة لكل ذي عين! وفي مقدمة الثورات التي عالجتها الأيديولوجية (أيديولوجية السلطة) بالتزييف، ثورتي الزنج والقرامطة، وقد استطاعت الأخيرة أن تخلق أنموذجًا فريدًا في عصرها لنظام اجتماعي تكافلي ذابت فيه الفوارق بين الطبقات، نظام أقامه عامل زراعي يدعى حمدان بن الأشعث، الملقب بقرمط، هذا الفلاح المعدم الذي كان يعيش بسواد الكوفة استطاع أن يُثَّور الأرض الغاضبة، بعد أن أُثقلت بجور الحكام العباسيين، وعن هذا الجور يتحدث (مسكويه) في كتابه "تجارب الأمم" فيقول أن "الإقطاع العسكري أصبح من أهم سمات هذا العصر، ذلك أن ضعف الخلافة، وتقلص نفوذها تسبب في نقص أموال الدولة، وهو أمر ساعد عليه دهماء الأتراك بما جُبلوا عليه من تخلف حضاري، ولم تجد الخلافة مناصًا من منح الجند إقطاعات من الأرض نظير قيامهم بالخدمة العسكرية.. وأَوكل هؤلاء إدارة أراضيهم إلى طائفة من "الدهاقنة" من الفرس، فأسرفوا في تسخير الفلاحين والعبيد"، كما خسر الكثير من الفلاحين أراضيهم لصالح رجال الدولة وأصحاب النفوذ، الذين كانوا يسبغون حمايتهم على أراضي الفلاحين اتقاءً لظلم الجباة، بأن يسجلوا الأراضي – من الملكيات الصغيرة – بأسمائهم، نظير مبلغ معين من المال، فيما عُرف بنظام الإلجاء، وبمرور الوقت ازداد طمع الحماة، فلم يكتفوا بالأموال التي كانت تُؤَدى إليهم، واستولوا على الأراضي، وتحول أصحابها الأصليون بذلك إلى مجرد مزارعين أُجراء بها. وإلى جانب هذا النوع من الإقطاع ظهرت طبقة مستغلة أخرى من كبار التجار، وثيقة الصلة برؤساء الترك، ورجال الإدارة، والقواد، وعَسُر الحال بالناس، عندها ظهر قرمط يبشرهم "وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا في الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ" ، فكان شعار الثورة التي حملت لواءها قبائل بادية الشام وجنوبي العراق، وهي قبائل كانت مضرب المثل في الفقر والعوز (بحسب البغدادي)، كذا فقد انتشرت الدعوة بين العمال بالمدن عبر "الأساتذة"، وهم رؤساء الحرفيين الذين لم يسلموا أيضًا من ابتزاز الجند الترك، وغاراتهم على دور الصناعة. ومن المعروف أن الدعوة القرمطية اصطبغت بطابع ديني مذهبي (إسماعيلي) ككل الدعوات التي قامت في هذا العصر، فقرمط الذي نُسبت إليه الحركة كان في الحقيقة هو المؤسس الثاني لها، أما المؤسس الأول فهو الداعية الإسماعيلي الحسين الأهوازي، الذي تتلمذ قرمط على يديه، وخلفه على زعامة الحركة، لكن الدعوة بالأساس كانت دعوة اجتماعية، لذا فقد استطاعت في وقت قصير – نتيجة للأوضاع التي شرحناها – أن تنتشر في المساحة الممتدة من فارس إلى المغرب، وتنشأ كيانات سياسية بمصر، واليمن، والمغرب، والبحرين. وسرعان ما انفصلت القرمطية عن الدعوة الإسماعيلية، فحمدان بن الأشعث قرمط، بعد أن تولى زعامة الحركة، كان يدعو لنفسه، كما صرح بذلك لمقربيه، لكنه استمر في استخدام اسم محمد بن إسماعيل المهدي حتى يستمر الإقبال على دعوته، لارتباطها بآل البيت. أقامت الحركة القرمطية نظامًا فريدًا للعدالة الاجتماعية، كانت النظرية الماركسية لتتوق إلى إرساء نظام مثله، يقول شيخ المؤرخين العرب عبد العزيز الدوري أن القرامطة "بدءوا بفرض ضرائب متصاعدة، وانتهوا بإلغاء الملكية الفردية، وبإقامة اشتراكية مطلقة للأموال، إذ ينتظر من كل فرد، حتى النساء والأولاد العمل، ويؤخذ من كل إنتاجه، ويعطى لكل حسب حاجته"، وبالبحرين حيث قامت لهم دولة "ألغوا الإقطاع، وأعادوا النظر في توزيع الأراضي كما يظهر، وألغوا رق الأرض، وقدموا السلف للفلاحين لتشجيعهم على استغلال الأرض، كما أنَّهم شجعوا الصناع، وقدموا لهم المساعدات المالية، وسيطروا على التجارة الخارجية، وساروا على خطى الاكتفاء الذاتي، وعززوا ذلك بضرب نقودهم من الرصاص ليمنعوا انتقال الثروة للخارج، أما السلطة فكانت بيد مجلس من الرؤساء له طابع شوري في الحكم". ورأى المستشرق (ماسينيون )أنَّ الحركة القرمطية هي أول من أسس نقابات للعمال، و"أنَّ هذه النقابات كانت سلاحًا أشهره دعاة القرامطة في نضالهم، لتوحيد طبقة العمال بالعالم الإسلامي"، وفي دولة القرامطة احتلت المرأة مكانة متميزة، فتساوت بالرجل في الحقوق والواجبات، وكانت شريكًا في النظام الاجتماعي والسياسي، فتلقت تعليمها مع أقرانها من الذكور بذات دور التعليم، وكانت تعمل، وتُخرج الخُمس، مثلها مثل الرجل، وتشاركه بالأعمال العسكرية، كما سلكت سلك الدعوة، وكان هذا – كما يذهب عدد من الباحثين – سببًا في توجيه اتهامات للمرأة القرمطية بالإباحية. ولم تكن تلك هي التهمة الوحيدة التي طاردت المجتمع القرمطي، إذ أُلصقت به العديد من التهم الأخرى، من قبل مؤرخي السنة والشيعة على السواء، وفي هذا يقول الدكتور محمود إسماعيل: أجمع مؤرخو السنة والشيعة على اتهام القرامطة بإبطال التكاليف الشرعية..قال البغدادي "وزعموا أنَّ من عرف العبادة سقط عنه فرضها"، وفي الاتجاه نفسه مضى الغزالي يقول:"ترك القرامطة تأدية العبادات". ونحن نرى أنَّ تلك فرية لا أساس لها من الصحة.. فالغزالي نفسه ذكر أنَّ الداعي القرمطي "كان يشترط على المستجيب للدعوة أن يحج إلى بيت الله ثلاثين حجة، إن أخل بواجباته".. والطبري ذكر أنَّ القرامطة "كانوا لا يغتسلون من الجنابة، وإنما اكتفوا بوضوء الصلاة لإزالتها". وفي موضع آخر روى أنَّ أحد كبار الملاك ضاق ذرعًا بفلاح قرمطي يعمل في ضياعه لحرصه على أداء الصلاة. والمقريزي الشيعي أورد أنَّ الداعي ذكرويه القرمطي "عَظُمَ قدره في أعين الناس وصارت له مرتبة في الفقه والدين"، وأنَّ حمدان بن الأشعث -زعيم الحركة- "عُرف بالزهد والتعبد، وكان أنصاره يسمون أنفسهم المؤمنون المنصورون بالله، والناصرون لدينه، والمصلحون في الأرض". وينقل النويري في "نهاية الأرب" عن الشريف أبو الحسين محمد بن علي صيغة العهد الذي يؤخذ ممن ينضم للدعوة: جعلت على نفسك عهد الله وميثاقه وذمة رسوله (ص) وأنبيائه وملائكته ورسله.. وليكن ما تعمل عليه قبل العهد وبعده، بقولك وفعلك أن تشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وتشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، وتشهد أنَّ الجنة حق، وأنَّ الموت حق، وأنَّ البعث حق، وأنَّ الساعة حق آت لا ريب فيها.. وتقيم الصلاة لوقتها، وتؤتي الزكاة بحقها، وتصوم شهر رمضان، وتحج البيت الحرام، وتجاهد في سبيل الله حق جهاده على ما أقر به رسوله (ص)، وتوالي أولياء الله، وتعادي أعداء الله، وتقوم بفرائض الله، وسننه، وسنن نبيه.."، وهو ما لا يتفق واتهامهم بإسقاط التكاليف الشرعية. وواجه القرامطة اتهامات أخرى بقولهم بالحلول، وبأنهم فرقة تقول ب"المجوسية المحضة" (ابن حزم)، وهذه الأمور تتناقض وما أسلفنا، كما تصطدم بحقيقة انتشار دعوتهم في فترة قصيرة، داخل مساحة واسعة من أرض الإسلام. واُتهم القرامطة أيضا بالشعوبية، لينفيها عنهم أتباع القبائل العربية بالإحساء والقطيف والبحرين. وكانت المعارك التي خاضتها الحركة القرمطية ضد الخلافة العباسية، واتسمت بالعنف الشديد؛ مصدرًا آخر. من مصادر الطعن عليها، وبخاصة مهاجمتها مكة، واستيلائها على الحجر الأسود (317 ه)، تحت قيادة القائد القرمطي أبي طاهر الجنابي، إذ اعتقد القرامطة أنَّه مغناطيس القلوب "يجذب الناس من أطراف العالم". ورغم ذلك فإن كل ما سقناه لا يتعارض مع كون القرامطة كفصيل من فصائل الشيعة الإسماعيلية، لهم خصوصيتهم الفكرية، التي تمايزت عن الرؤى السنية، كذا اختلفت عن الأصل الذي نُسبت إليه الحركة، المذهب الإسماعيلي، وهو ذاته تمايز بين بلد وآخر، كما يشير الباحث الإسماعيلي تامر عارف: "إنَّ الإسماعيلية في سوريا تختلف عقائديًا وفلسفيًا واجتماعيًا عن الإسماعيلية في اليمن، والإسماعيلية في فارس غير الإسماعيلية في المغرب"، كذا نجد "بين الإسماعيلية في القرن الرابع وبين متأخريهم في القرن الخامس بونًا بعيدًا". ومن أوجه التمايز أيضًا التي أوردت القرامطة موارد الشبهة إفادتهم من المذاهب القديمة التي كانت بالعراق، فأفادوا من علم الفلك، واستخدموه في فلسفة دعوتهم وتنظيمها، فجعلوا مراتب الدعوة سبعًا، تبعًا للكواكب السيارة السبع، كما قسم القرامطة مناطق الدعوة إلى اثني عشر إقليمًا، وكل إقليم تحت إمرة داعية، والداعية مسئول عن ثلاثين نقيبًا، وكل نقيب يشرف على أربع وعشرين داعية، وهذا التقسيم قائم على أساس فلكي، كالسنة التي تنقسم إلى اثنى عشر شهرًا، والشهر ثلاثون يومًا، واليوم إلى أربعة وعشرين ساعةً، كذلك كانت مراتب الدعوة سبعًا، لكل منها بلاغ طبقًا للمرتبة، وذلك بحسب فلسفتهم "السبعية". إذن فالمجتمع الذي أنشأه القرامطة ما من شك أنَّه ارتكز على رؤيا مغايرة للدين، تلاقحت مع الثقافات القديمة بالبلدان التي ظهرت فيها، وتقاطعت معتقداتهم مع الفسلفة، فأنتجت مجتمعًا – كما ذهب باحثون عديدون – التمس خُطى المدينة الفاضلة لدى أفلاطون، وفق محددات إسلامية (اعتمدت على رؤيا الفارابي التوفيقية بين الدين والسياسة) فنجد أنَّ السلطة في المجتمع القرمطي كانت بيد جماعة من المستنيرين، الحاكم "السيد" فيه يتساوى مع بقية أفراد الجماعة الحاكمة "الأشيرة"، كهيئة شبيهة بطبقة الفلاسفة في مدينة أفلاطون، كذا فالأفراد المقاتلون بدولة القرامطة كان يجري إعدادهم لهذه المهمة منذ الطفولة، فيُجمعون في دور خاصة، ويتم تدريبهم على ركوب الخيل، وحمل السلاح، والفروسية، وهذا على غرار طبقة المحاربين بالمدينة الفاضلة لأفلاطون، أما طبقة العمال والمهنيين فكانوا ينتظمون في جماعات متخصصة، وحتى النساء والأطفال كانت لهم أعمالهم المحددة، كما روى النويري، ليتفق ذلك مع تقسيم المجتمع الأفلاطوني، وأسلوب إدارته. وبهذا فإنَّ الحركة القرمطية كانت أوسع من مجرد دعوة لمذهب ديني، أو ثورة لطبقة مستضعفة، أو فكرة أنزلها طامح جسور إلى أرض الواقع، بل كانت بجانب كل ذلك أنموذجًا فريدًا – وإن لم يدم طويلاً- لمعالجة الواقع بالنظرية، ولتكييف النظرية مع الواقع، وهو ما يستحق من باحثينا بذل مزيد من الجهد، للوقوف على تفاصيل هذه التجربة الإنسانية الثرية، التي قدمنا عرضًا موجزًا لها، بخاصة وأنَّها تعرضت للتشويه – كما ذكرنا – من قبل مؤرخي المذهبين السني، والشيعي الإسماعيلي، بسبب المعارك التي خاضها القرامطة على الجانبين (ضد الخلافتين العباسية والفاطمية)، ولا شك أنَّ القراءة الجديدة المتحررة من ثقل الأيديولوجية للثورة القرمطية، ولغيرها من أحداث كبيرة وقعت بتاريخنا تفتح مجالاً للحرية فيه، وسبيلاً لإدراك حقائقه في الوقت ذاته. المراجع: محمد عبد الفتاح العليان، قرامطة العراق د.عبد العزيز الدوري، تاريخ الاقتصاد العباسي للقرن الرابع الهجري د. محمود إسماعيل، تاريخ الحركات السرية بالإسلام عبد القاهر البغدادي، الفرق بين الفرق النويري، نهاية الأرب مسكويه، تجارب الأمم عارف تامر، الإسماعيلية والقرامطة