تتبوأ المبادئ الاشتراكية مكانتها بين النظم المعاصرة وتشق طريقها بنجاح إلي كثير من المجتمعات المتمدنة، وتحظي بكثير من القوة والنفوذ العملي في عدة من أعرق الأمم الديمقراطية الأوروبية، وتسيطر الفكرة الشيوعية وهي خلاصة الفكرة الاشتراكية وغايتها المثلي علي نظام دولة أوروبية عظمي معاصرة هي روسيا السوفييتية. إذا كانت الفكرة الاشتراكية تبدو اليوم من ناحية التطبيق العملي أحدث فكرة لتنظيم الدولة والمجتمع، وإذا كانت روسيا السوفييتية من حيث الوضع التاريخي هي أول دولة متمدنة تقوم علي الفكرة الاشتراكية وأول دولة متمدنة طبقت الفكرة الشيوعية بصورة عملية، فان ذلك لا ينفي أن الفكرة الشيوعية، كأساس لتنظيم الدولة والمجتمع هي فكرة قديمة مثلت في التفكير الإنساني منذ أقدم العصور. ففي جمهورية أفلاطون نجد شرحا للمجتمع الشيوعي الذي تصوره الفيلسوف، وهو يشير إلي نقص النظم الاجتماعية القائمة في عصره، ويقول بوجوب تغييرها من أساسها، وان يقام مجتمع تسوده المساواة العامة في ظروف الحياة تمحي فيه الفوارق الاجتماعية بين الأغنياء والفقراء، ولم يكن المجتمع الذي تصوره السير توماس مور في كتابه المثالي الشهير Utopia في القرن السادس عشر سوي مجتمع شيوعي بكامل معاني الكلمة يقوم علي شيوع الثروات ووسائل الإنتاج. لم تقف الفكرة الشيوعية في المجتمعات القديمة عند حد الدعوة المجردة، ولكنها طبقت بالفعل بصورة عملية في أحيان كثيرة، ففي عصور المسيحية الأولي كانت ثمة جماعات نصرانية تطبق النظام الشيوعي في حياتها، وفي العصور الوسطي كانت ثمة جماعات وطوائف كثيرة ولاسيما الهيئات الدينية وجماعات الرهبان تعيش في ظل الشيوع. بل لقد غزت الفكرة الشيوعية المجتمع الإسلامي ذاته وهو في ذروة قوته ونضجه ورسوخه: غزته في أوائل القرن الرابع الهجري علي يد طائفة من الدعاة الغلاة الذين اعتنقوا مبادئ دينية واجتماعية جديدة متطرفة، ونجحوا في إقامة دولة من طراز جديد تقوم علي نوع من الشيوع الاقتصادي والاجتماعي. أولئك هم طائفة القرامطة الذين ظهرت دعوتهم الثورية لأول مرة في أحواز الكوفة في أواخر القرن الثالث الهجري، وكان في مقدمة دعاتها رجلان يحيط بأصلهما الغموض، هما الفرج بن عثمان القاشاني المعروف بذكرويه، وزميله وتلميذه حمدان الملقب بقرمط، وهو الذي غدا من بعده إمام المذهب وزعيمه ولم تكن دعوة قرمط في البداية سوي طرف من الدعوة الإلحادية العنيفة التي شهرها عبدالله بن ميمون في جنوبي فارس باسم الحركة الشيعية في أوائل النصف الثاني من القرن الثالث الهجري، وكانت مثلها تقوم علي الدعوة إلي إمام من آل البيت هو المهدي الذي يملأ الأرض بعدله، وكانت الفكرة الدينية في الواقع قوام كل دعوة جديدة تبدو في المجتمع الإسلامي للقيام بأية محاولة لانتزاع السلطة السياسية، وكان الدين دائماً عضد السياسة ودعامتها الأولي، ولم يشذ داعية القرامطة عن هذه القاعدة، فألقي إلي صحبه وأنصاره تعاليمه الدينية في صورة أوامر وتعاليم جديدة سواء في التحريم والإباحة، فعدل أحكام الصلاة والصوم، وأباح شرب الخمر، وفرض الجزية علي أنصاره إلي غير ذلك من التعاليم والبدع الجديدة التي يتميز بها مذهب القرامطة. قد انتهت إلينا عن فلسفة القرامطة ومراتب دعوتهم أقوال كثيرة متضاربة بيد أنه يكاد يكون من المجمع عليه أنها فلسفة مادية تقوم علي تعاليم الباطنية ومذاهب الدهرية، وأساسها ترك العبادات والمحظورات واستباحة المحرمات. أما وسائل الدعوة فقد رتبت علي عدة مراتب خمس أو سبع أو تسع وفقا لمختلف الروايات تبدأ بالتفرس والتأنيس والتشكيك وتنتهي بالخلع والنسخ، أو بعبارة أخري تنتهي بنسخ العقائد المقررة وهدم الأديان. علي انه يبدو مع ذلك ان دعوة القرامطة كانت تشتمل علي برنامج سياسي واجتماعي وثقافي منظم، يقوم علي العقل والتسامح والمساواة الاجتماعية والاقتصادية، وهذه الناحية من تعاليم القرامطة هي التي تعنينا في هذا البحث قبل كل شيء، ذلك ان المساواة الاجتماعية والاقتصادية التي غلبت علي مجتمع القرامطة كانت في ذاتها بدعة جديدة في تعاليم الفرق الإسلامية، ويري الأستاذ ماسنيون أن مجتمع القرامطة الثوري الذي قام في جنوبي الجزيرة «العراق» كان يقوم علي أساس شيوعي، والواقع ان قرمط داعية المذهب وإمامه الأول ابتدع أصولا وقواعد جديدة لتنظيم مجتمع إسلامي جديد من أنصاره يقوم علي الإباحة والشيوع، ففرض علي أنصاره في البداية ضريبة عامة، ثم ضوعفت هذه الضريبة حتي كادت تستغرق الدخل الفردي، ثم انتهي بأن أقنع أنصاره بمزايا الشيوع وإلغاء الملكية الفردية، واشترط علي الصحب والأنصار وضع الأملاك الخاصة في ملكية عامة أو ما يسميه دعاة المذهب «بالألفة» ونظم الدعاة في كل مكان وجدت فيه طائفة من الأنصار مجتمعا شيوعيا حقيقيا، ولم تلبث هذه الدعوة الشيوعية أن انتشرت بالأخص بين العمال والفلاحين في جنوبي الجزيرة كما انتشرت في بعض أنحاء خراسان وسوريا واليمن. لم يلبث مجتمع القرامطة ان تحول في ظل هذه النزعة الشيوعية، وفي ظل هذه الإباحة المطلقة، إلي عصبة خطرة من الخوارج والناقمين، تستحل الأموال والأعراض وتنشر الدمار والرعب فيما حولها من الأنحاء، ولم تلبث ان نشبت بينهم وبين جند الخلافة العباسية معارك دامية، وذاعت دعوتهم في قلب الجزيرة العربية وطاردتهم جنود الخلافة إلي الداخل وهم يزيدون قوة وجموعا، وظهرت قوتهم وجرأتهم لأول مرة بصورة خطرة حينما زحفوا علي مدينة دمشق سنة 290 ه «902م» ولم يردوا عنها إلا بعد معركة طاحنة اشتركت فيها جند مصر والشام. استفحل أمر القرامطة في أنحاء البحرين، والتفوا هناك حول زعيم قوي صارم العزم هو الحسن بن بهرام المعروف بأبي سعيد، وزحفوا علي البصرة وهزموا جند الخليفة في ظاهرها، ثم أنشأ سليمان أبوالطاهر ولد أبي سعيد مدينة الأحساء وجعلها عاصمة لإمارته، ثم غزا البصرة مرة أخري وتجرد بعد ذلك للبطش بقوافل الحجاج والتجار، وبسط سلطانه علي أواسط الجزيرة العربية، واستمر أمره في ازدياد، وفي سنة 317ه «929م» سار أبو الطاهر إلي مكة وفتك بالحجاج واقتحم البيت الحرام، واقتلع الحجر الأسود وحمله إلي الأحساء، فارتاع العالم الإسلامي لذلك الاجتراء، ولم يرد القرامطة الحجر الأسود إلي مكانه إلا بعد جهود كثيرة بذلتها الخلافة العباسية والخليفة الفاطمي في ذلك السبيل، ولبث أبو طاهر سيد البحرين زهاء ثلاثين عاما يتردد بالإغارة والنهب علي مدن العراق والشام، حتي اضطرت حكومة بغداد ذاتها أن تقدم له إتاوة سنوية لتنجو من عدوانه. يمكننا أن نعتبر سليمان بن الحسن مؤسس دولة القرامطة الحقيقي ومنظم دستورها السياسي والاجتماعي، وعلي يده اتخذت فلسفة القرامطة وتعاليمهم شكلها النهائي، وطبقت بمنتهي العنف والشدة، وقد ورد في رسالة «القاموس الأعظم» التي وجهها بعض أئمة المذهب إلي سليمان وصف مجمل لأصول الدعوة ووسائل إذاعتها قال فيها: «ادع الناس بأن تتقرب إليهم بما يميلون إليه، وأوهم كل واحد منهم بأنك منهم، فمن آنست منه رشدا فاكشف له الغطاء، وإذا ظفرت بالفلسفي فاحتفظ به، فعلي الفلاسفة معولنا، وإنا وإياهم مجمعون علي أن نواميس الأنبياء، وعلي القول بقدم العالم لوما ما يخالفنا فيه بعضهم من ان للعالم مدبرا لا يعرفه» وجاء فيها أيضا إبطال القول بالميعاد والعقاب، وان الجنة هي نعيم الدنيا، وأن العذاب انما هو اشتغال أصحاب الشرائع بالصلاة والصيام والحج والجهاد.. إلخ. ثم يقول الداعي لسليمان بن الحسن: «وأنت وإخوانك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس، وفي هذه الدنيا ورثتم نعيمه ولذاتها المحرمة علي الجاهلين المتمسكين بشرائع أصحاب النواميس فهنيئاً لكم بما نلتم من الراحة عن أمرهم». ووصل القرامطة إلي ذروة قوتهم في أواسط القرن الرابع الهجري حين زحفوا علي الشام وعاثوا فيها، ثم زحفوا علي مصر سنة 363 ه «973م» في عهد المعز بقيادة زعيمهم الحسن الأعصم، ولم يردوا عنها إلا بعد معركة طاحنة بالقرب من بلبيس، وكان القرامطة ينضوون في بادئ الأمر تحت لواء الخلافة الفاطمية باعتبارهم من فرق الشيعة الإمامية ولكن المعز أنكر عليهم بعد ذلك جرأتهم وعبثهم واعتداءهم علي أراضيه، ونشبت الخصومة بينه وبينهم، ولم ينقطع خطر القرامطة علي مصر إلا في عهد ولده العزيز حيث ردوا عنها وعن الشام بصورة نهائية. ما نود أن نلفت النظر إليه بإيراد هذه اللمحة الموجزة عن تاريخ القرامطة هو أن القرامطة استطاعوا ان ينشئوا بالرغم من مبادئهم الغريبة المتطرفة في قلب الجزيرة العربية مجتمعا منظما متماسكا، ودولة بلغت من التنظيم والقوة، أن استطاعت ان تهدد الخلافة العباسية في الشرق والخلافة الفاطمية في الغرب، وأن تثخن في أنحاء الجزيرة العربية شمالا وغربا، وأن تصل في غزواتها إلي قلب الأراضي المصرية، وقد كانت هذه الدولة العربية التي تتسم بسمة الإسلام دولة خارجة علي سائر الأمة الإسلامية، تقوم علي أصول وتعاليم تنكرها تعاليم الإسلام الصحيحة السياسية والاجتماعية فضلا عن الدينية، كانت دولة عسكرية شيوعية، تقوم علي شيوع الثروات الطبيعية والمكتسبة يوزع الإمام منها ومن ثمراتها علي رعاياه وفقا لمشيئته، ولا تحترم مبدأ الملكية الشخصية الذي يعتبر قاعدة أساسية في تكوين المجتمع الإسلامي الاقتصادي، والذي تحيطه الشريعة الإسلامية بضمانات قوية، بل لقد ذهب القرامطة في تطبيق مبدأ الشيوع إلي حد الإباحة المروعة، فأباحوا شيوع النساء، وكانت المرأة عنصرا بارزا في مجتمع القرامطة يسمح لها بالانتظام في سلك الدعوة والتدرج في مراتبها. وكان الدعاة من المراتب العليا يطبقون هذا النوع من الشيوع المثير بطريقة منظمة، وكانوا يعتبرونه نوعا من الكمال الذي يقوم علي أقصي درجات الصداقة والإخاء، ويروي لنا ابن الأثير عن زعيم القرامطة أبي سعيد حادثا من هذا النوع يؤيد انحدار القرامطة إلي هذه الفوضي الأخلاقية المروعة، التي كانت عنوان مذهبهم، وقد كان من الطبيعي أن تقترن هذه الإباحة المغرقة بإلغاء أحكام الإسلام الأساسية من الصلاة والصوم وسائر الفرائض الأخري. ولقد كانت هذه الناحية الدقيقة من الشيوع التي اعتنقها القرامطة في القرن الرابع الهجري من أشد ما تهاجم به الشيوعية الحديثة، إذ يقول خصوم الشيوعية إن شيوع الثورات ووسائل الإنتاج يؤدي إلي شيوع النساء، ويرد ماركس إمام الشيوعية في البيان الشيوعي علي هذه التهمة ويفندها، ويحاول أن يدلل علي أن المجتمع البرجوازي يتخبط في معترك الفوضي الأخلاقية، ويقوم في الواقع علي نوع مستتر من شيوع المرأة، وان الشيوعية ترمي بتحرير الطبقات الدنيا من الفقر والعوز، إلي تحرير النساء وإلغاء هذا البغاء المستتر الذي يحميه النظام البرجوازي «الرأسمالي». قد تأثرت فلسفة القرامطة فيما يبدو بمبادئ الخوارج الكلامية والسياسية وقد كان بين الخوارج فرق تري إباحة شرب الخمر والسرقة وغيرهما إذا ارتكبت بغير إصرار ومن جهة أخري فقد كان بين الخوارج من يري أنه لا ضرورة لتنظيم المجتمع أو أن يقوم بين الناس إمام أو حكومة وانما يجب علي الناس ان يتعاطوا الحق فيما بينهم، وهذه بلا ريب هي اللا حكومية الحديثة بعينها. علي أي حال فان هذه الإباحة الدينية والسياسية التي غلبت علي مذهب القرامطة منذ البداية لم تكن إلا طورا من أطوار الثورة علي الإسلام وعلي مبادئه ونظمه، وهي ثورة بدأت مبكرة جدا منذ قيام الحركة الشيعية وتسربت إليها تعاليم الملاحدة والمتآمرين السياسيين، ولا سيما الدعاة الفرس أئمة هذه الثورة الإلحادية وأكبر دعاتها، وقد كانت هذه النزعة الإباحية المغرقة تقترن عند القرامطة بالعنف الذريع، فكان ذلك مما يضاعف خطرها علي المجتمع الإسلامي، قد استطال هذا الخطر السياسي والاجتماعي زهاء قرن، ولم ينحل مجتمع القرامطة إلا في أوخر القرن الرابع الهجري بعد جهود ومعارك عنيفة، اشتركت فيها الدولة العباسية ومصر الفاطمية علي ما بينهما من أسباب الخصومة والتباعد. نقلا عن مجلة الكاتب المصري