يتمتع الفكر العربي المعاصر بظاهرة متميزة عن الفكر الغربي ألا هي وحدته اللغوية، أي قدرة العرب على استيعاب العربية الفصحى من مشرق العالم العربي إلى مغربه، رغم الاختلافات الطفيفة في التداول النسبي لبعض الألفاظ والمصطلحات، والتي تظهر خصوصًا في الترجمة إلى العربية. ولهذا فإن الفكر العربي المعاصر ينتشر إبداعًا ونقلاً وتلقيًا ونقدًاعلى رقعة جغرافية شاسعة، ومرورًا بتعداد نسمي ضخم، بالإضافة كذلك إلى قراء العربية غير العرب في العالم الإسلامي، والعرب الذين يعيشون في الغرب. ولا يتمتع الفكر الغربي بوحدة اللغة، ولا امتدادها التاريخي، فرغم أن الألمانية يمتد عمرها لألف سنة تقريبًا، وهي أهم لغة في العلوم الإنسانية والاجتماعية، وأنها اللغة الأم الأولى في أوروبا، إلا أن عدد من يجيدونها-على صعوبتها النوعية-كلغة ثانية قليل نسبيًا على مستوى العالم كله. ورغم أن الإنجليزية هي اللغة الأكثر انتشارًا بعد الصينية والإسبانية في العالم، وهي لغة الولاياتالمتحدة على تعدادها السكاني الضخم، إلا أن امتدادها التاريخي وأهميتها في العلوم الإنسانية والاجتماعية أقل من الألمانية. وتقع الفرنسية في موقع متوسط بين الاثنتين في كل هذه النواحي. وكل من اللغتين الألمانية والإنجليزية ليس لهما الامتداد الثقافي-التاريخي الذي للغة العربية، فحتى لو كانت اللغة الألمانية هي اللغة الأولى انتشارًا في الغرب فهي لا تمثل صلة بالتراث اليوناني واللاتيني والعبري الذي شكل الثقافة الغربية فعلاً وردَّ فعلٍ. ولم يزل على قارئ كانْط وهايْدِجَر مثلاً أن يجيد الألمانية إجادة كبيرة بالإضافة إلى اللاتينية واليونانية نظرًا لوجود فقرات بهاتين اللغتين الأخيرتين، وهذا طبيعي نظرًا لما ذكرناه من أهمية التراث اليوناني واللاتيني والعبري (العهد القديم خاصة) في تكوين منابع الثقافة الغربية التي دائمًا ما يعود إليها الفلاسفة، حتى المعاصرين منهم، فقد قام هايدجر مثلاً في مصنفه الأساسي (الكينونة والزمان) بما أسماه "Die Aufgabe einer Destruktion der Geschichte der Ontologie" أي: مهمة تفكيك تاريخ الأنطولوجيا. وقام تحت هذا العنوان بمراجعة تاريخ الأنطولوجيا من أفلاطون إلى هيجل. تمثل العربية في المقابل صلة مباشرة تاريخية بمنبع التراث الفلسفي العربي، أي نصوص الدين الإسلامي، ونصوص العلوم الإسلامية، كأصول الدين وأصول الفقه والتصوف.. إلخ، وفي الوقت نفسه تمثل صلة مباشرة جغرافية بين المفكرين والقراء العرب في العالم. ورغم ذلك حدث تباين فلسفي هام بين المشرق والمغرب العربيين؛ فقد تعرض المغرب إلى الاحتلال الفرنسي لفترة طويلة نسبيًا في التاريخ الحديث والمعاصر، نجم عنه انتشار الفرنسية بين سكانه، فصاروا أقرب وأكثر اطلاعًا على المنتج الفلسفي الفرنسي، والغربي عمومًا، إذا ما قورن حالهم مع المشرق العربي، كالشام والعراق ومصر والسودان، الذين لا يجيدون لغة أجنبية كإجادة المغاربة العرب للفرنسية. وبالتالي صار اطلاع المشرق على الثقافة الغربية أقل، وإن كانوا تاريخيًا الأسبق في ريادة منابع الفكر الغربي الحديث، وخاصة مصر، قبل انقلاب يوليو 1952، وما نجم عنه من انحطاط العلاقة مع الغرب، سواء بالعداء الصريح، أو بالخضوع الضمني، حيث كانت مصر تستقبل الكثير من الأساتذة الأجانب قبل عام 1956، كما كانت ترسل البعثات الدراسية بكثافة وسخاء إلى الغرب، ثم ضعف بعد ذلك وجود الأساتذة الأجانب في الجامعات المصرية، كما ضعفت البعثات، خاصة في كليات العلوم الإنسانية، وهو ما نتج عنه انحدار عام في تلقي وفهم ونقد الثقافة الغربية في مصر. ونتيجة لذلك اهتم المغرب العربي بالحداثة في صورتها الغربية، وبالنقد الجذري، كأعمال الجابري، وأركون مثلاً، ويتمتع شباب الباحثين في المغرب العربي بهذه الروح، بينما يتمتع المشرق العربي بإلمام أكثر بالتراث الإسلامي، نظرًا لركونه إلى الانكفاء على الذات، والعزلة اللغوية، وباهتمام أكبر بدور التراث في تشكيل العقل العربي المعاصر، فظهرت مشروعات التجديد لدى حسن حنفي مثلاً، أو التأويل لدى نصر أبو زيد، وغيرهما. ومن النتائج الهامة كذلك اتجاه المغرب العربي نحو العقلانية في صورتها الرشدية، أي في انفصال الاستدلال العقلي عن (الشعور) في الفلسفة الظاهراتية، أو (الذوق والوجدان) في التصوف، ويدل على ذلك عمل الجابري في (بنية العقل العربي) مثلاً، بينما يتجه المشرق العربي إلى التصوف (كما في مشروع محمود طه المفكر السوداني الراحل)، أو إلى الفلسفة الظاهراتية (الفينومنولوجيا) كما لدى حسن حنفي، أكبر فينومينولوجي عربي. هذا بينما يظهر التعاون بين كل من المشرق والمغرب، كما في (حوار المشرق والمغرب)، وهو حوار بين المفكرين المغربي الجابري، والمشرقي-المصري حسن حنفي. كما يظهر التعاون بأشكال أكثر عمقًا في تتلمذ عدد من باحثي المغرب العربي على أيدي فلاسفة المشرق العربي، واهتمامهم بأعمالهم، ونقدهم إياها، وهذا يدل على سعة اطلاع باحثي المغرب العربي وتعدد مصادرهم، أكثر مما يدل على علو أهمية مفكري المشرق مقارنة بالمغرب.