تعطف الأمريكي برفع الحظر عن 10 مروحيات من طراز "أباتشي"، جمدها أكتوبر الماضي بعد ثورة الشعب على حكم الفاشية الدينية في 30 يونيو، لكنه استبقى من أمارات غضبه ذيولا في تجميد عناصر أخرى من المساعدات العسكرية، لا بأس فتلك مشيئة البنتاجون و"السي آي ايه" التي تضع مصائر الشعوب بين أصبعين من أصابع "العم سام" ليقلبها كيف يشاء، فقد يغضب ليضن ويمنع، أو يرضي فيعطي ويمنح، وفي كل الأحوال يبقى العيب على من رفسوا فرصة التاريخ، وأعادوا مصائرهم الى عب الراعي الرسمي والحصري للكيان الصهيوني، وهللوا للقرار معتبرين إياه انتصارا سياسيا لمصر وثورة 30 يونيو، رغم ما ينطوي عليه من غسل لوجه واشنطن، وانقاذ لمصالحها بالمنطقة، وإعادة احتواء لمصر الثائرة، والتي ينبغي ووفق تقدير الأمريكي قطع الطريق أمام أي اشارات لخروجها على المرسوم، أو التخلص من تبعيته عسكريا واقتصاديا. استبشر المصريون خيرًا عقب 30 يونيو بإشارات لتحرير الإرادة من كونترول البنتاجون، وتوجه الحكم الجديد شرقا نحو الصديق الروسي بعد طول غياب، فيما بدا للكثيرين أنه كسر للاحتكار الأمريكي للقرار العسكري المصري، لكن وللحق فقد تم إهدار تلك الفرصة التاريخية بحديث سياسي "فاقع" عن تنويع الاختيارات، تحت ستار حديث (مباركي) قديم عن التوازن في العلاقات، في تعام واضح عما سد الأفق من إشارات دالة على مؤامرة أمريكية، في مقابل مساندة ودعم روسيين شديدين لمصر ما بعد الثورة، بما يعني أن الاجابة الاجبارية في تلك اللحظة الفارقة كانت موسكو وصفقات الطائرات الحربية "ميج 35″، لكن وللأسف فلم يستثمر القائمون على الأمر تلك اللحظة بالرد على سلوك الأنذال بالاستغناء، وظل الموقف معلقا في ساحات انتظار البنتاجون أو فوق رصيف صانعي السياسات الأمريكية، حتى جاءت لحظة القبول بعودة 10 طائرات أباتشي كسيحة، وما واكبها من تسويق إعلامي لانتصار سياسي مزعوم، أحسب أنه سيفقد أي تحرك مصري مستقبلي قيمته ويحصره في زاوية المناورة والمراوغة، ما يقطع الطريق أمام أي محاولة جادة جديدة لتحرير القرار الوطني من اصفاد الأمريكي. لابد إذن للمرء أن يتخلص من حبائل الارتباك والتناقضات حيال ما يجري، فقد جاءت عودة الأباتشي الأمريكية كشرط رئيسي لحسم الحرب على الإرهاب في سيناء، لتتناقض بشكل صارخ مع كل حديث عن المؤامرة الامريكية لقضم سيناء من الجسد المصري وإعلانها منطقة غير آمنة، والرعاية الأمريكية المكشوفة للإرهاب تدريبا وتمويلا وتسليحا، وهو ما التناقض الذي يستحق أن يشرع الباب واسعا أمام تساؤل عما إذا كان يمكن للراعي الرئيسي الإرهاب أن يسلح دولة تكتوي بنيرانه لمحاربة صنيعته وبضاعته الفاسدة، هذا مع الأخذ في الاعتبار أن السلاح نفسه مشكوك في فاعليته وقدراته، في سياق ما تتداوله الدوائر العسكرية عن عيوب فنية مقصودة في تسليح (اباتشي المساعدات) ، والتي تضع القوات المصرية أمام خيارات محدودة أو قل مسقوفة في أي جولة عسكرية تخوضها. من الواضح إذن أن ما يسري تحت جلد الأحداث، قد طفح على السطح في شكل بثور، وبدا حجم الارتباك ومساحات التناقضات تتسع بين القائم والمأمول، فما يزال أمام الجميع متسع من الوقت لإعادة التقييم النزيه للتصريحات الأخيرة المرشح الرئاسي المشير عبد الفتاح السيسي خلال لقائه صحفيين أميركيين وبعض الأفراد من الأمن القومي الأمريكي، وما نسب اليه من تكراره الرغبة في إصلاح العلاقات مع واشنطن، فيما لم يثر انتباه الكثيرين فقط بل وأيضا شبكة (فوكس نيوز الأمريكية) التي وصفت حديث السيسي بالتناقض مع الخطاب شديد اللهجة الذي وجهه في الصيف الماضي إلى الولاياتالمتحدة، هذا فضلا عن تصريحات منسوبة له يعاتب فيها واشنطن على عدم نشر قوات غربية في ليبيا بعد إطاحة حلف الناتو بالقذافي بحجة الفراغ السياسي والأمني، وهي نقاط تتراكم ولا تستلزم فقط مراجعًة فورية ووقفة مع قائد نحسبه من الطراز الناصري، بل وعلى نطاق أوسع اختبار تقديرات المؤسسة العسكرية ل3 سنوات من الفوضى، وإن كانت تلك التقديرات تتماشى مع التحركات السياسية والاستراتيجية على الأرض. علينا الاعتراف، بأنه لم يعد لمصر رفاهية من الوقت للمجاملات في تقدير المواقف، أو ترك الرأي العام فريسة للاستنتاجات والتحليلات، في ظل واقع جديد أصبح فيه غياب المعلومة والرؤية المعلنة الواضحة مرتعا خصبا للتأويل ونشر الاشاعات، ومن ثم بات ضروريا إيضاح المواقف والتصريحات ومصارحة الرأي العام بها، والأهم مراجعة مواقف خاطئة يجري اتخاذها بحجة غياب الاختيارات، فما ذلك سوى إعادة لانتاج القديم في قناع إعلامي سرعان ما سيذوب ويتساقط ويصطدم وجهه الحقيقي بإرادة شعب ثار من أجل الحرية وضد عقود من التبعية وكسر الإرادة.