وكأننا كنا بحاجة الى "حلاوة روح" لنتذكر كيف غرق الفن المصرى أو بالأحرى مصر بأكملها في أوحال الابتذال والاسفاف، فبدا صخب ذلك العمل الفاضح وكأنه زلزال بلا مقدمات أو استثناء لقاعدة، وزادت كوميديا المشهد مع محاولات تصدير الغضب ضد "مرارة الروح" وكأنه عودة للروح وصحوة ضمير مفاجئ للأخلاق والقيم، في مقابل أصوات تحاول تسييس المنع والحظر باعتباره تسخينا حكوميا مبكرا لاستهداف حرية ما يوصف ب"الإبداع"، ولا بأس من تجيير المشهد بصب جم الانتقاد على رأس المنتج محمد السبكي، وكأن طابور أفلامه "الرديئة المبتذلة" لا يكفي لتقديمه للمحاكمة في قفص محاكم نورمبرج الشهيرة. إنها نفس مأساة فيلم "أبوالدهب" لأحمد زكي ومعالي زايد في تسعينيات القرن الماضي بمشاهده المخلة، عندما تعيد استنساخ وتحديث نفسها في "حلاوة هيفا"، لتختطف الرأي العام في أحاديث جانبية حول ثنائية تحسين شروط الإسفاف أو الذود عن حرية الإبداع، فيما توارى السؤال الأهم عما إذا كانت البضاعة الرديئة المطروحة على أرصفة الفن المصري إبداعا مؤهلا لحصد جوائز عالمية، بل وتدخل ذهن المرء في سؤال أكثر منطقية حول إذا ما كان ما يقدم في دور العرض، أو تفاجئنا به شاشات الفضائيات من طرود مفخخة تحت لافتة أعمال درامية، مما يمكن أن يطلق عليه مجازا "دراما" أو "فن سابع" أو حتى فنا في الأساس. في المحروسة، من السهل أن يصاب المرء بفوبيا الإندهاش من تلك الصحوات الموسمية، هذا فقط إذا انقطعت في ذهنه أوصال الماضي بالحاضر، فساد الاعتقاد بأن ذلك العمل بما يصدره من قيم رديئة هو مما يمكن تصنيفه كفن وإبداع، ليتطاول على تاريخ الفن المصري ويضع نفسه على قائمة واحدة مع فيلم (الأرض) للراحل يوسف شاهين، بل وللحق فإن تلك المهزلة العصرية هي صورة صارخة وترجمة فورية صادمة للقطيعة بين عصر وعصر، وامتداد طبيعي لسينما المقاولات وفن السداح مداح، الذي غزا الشاشات المصرية لعقود، وحول قوتها الناعمة من قيمة مضافة في النفوذ والتأثير، إلى عبء ثقيل ينخر ويزيف الوعي الوطني، ويحول رصيد تأثير مصر في أمتها إلى خصم بالسالب، فلا بأس من أن تتحول حارة "الحرافيش" الى حارة الغنوجة "هيفاء", ويصبح المشوه "اللمبي" بثقل لسانه وظله هو النموذج العصري للشاب الشعبي المصري! من عجائب القدر أن يكون سؤال الستينيات الشهير هل هو فن للفن أم فن للمجتمع، وأن يكون الانقلاب على الستينيات موازيا لأكبر انقلاب على هذا السؤال، بإجابات ولف ودوران لتحسين شروط عرض البضاعة الفاسدة، أو قل عروض خاصة على اللحم الرخيص في مذابح تجار الفن الجدد، هؤلاء الذين وجدوا من غياب الدولة وغفلتها بيئة خصبة للاتجار السريع في تدمير الأجيال، بما يتكامل مع اقالة السادات ومن بعده مبارك لمصر من فرائض أدوارها الحضارية والتاريخية، وتُرك مع اجرامهما الشعب ورصيده الحضاري سلعة مكشوفة وفريسة سهلة لعوامل التعرية والنحر الثقافي. كان منطقيا إذن أن يتمرد المصريون على النص المكتوب بموجتين ثوريتين حاشدتين، لكن الواقع لم يترجم هذين العملين الثوريين الرائعين بفن مبدع أو إعلام مهني أو اقتصاد راسخ أو سياسة تحررية، فكان المشهد الصاخب ل"حلاوة روح" هو خروج للروح من جسد مات إكلينكيا، ينتظر لحظة البعث بثورة ثقافية يسبقها حساب عسير وعصف ذهني وفكري عارم، فيما يغفل المشهد العام أن الثورة تستتبعها ثورات، تحدث تغييرات اجتماعية عميقة، فكان ضيق الرؤية هو اشارة دالة نحو تجاهل حالة انسانية استثنائية أفرزتها تجربة الثورة الإيرانية، وبنت عليها حلم وطني كبير بدأ يفسر نفسه اليوم، بداية من استكمال طموح نووي قديم يثير جدل العالم، وصولا إلى فن يخاصم فن الفراش ويرتقي بالذوق معريا النفس البشرية وتناقضاتها، ويحصد الجوائز العالمية بما يطوع الخلافات السياسية لصالح الاعجاب والتقدير. لا بد من امتلاك شجاعة الاعتراف بأن حبات العقد ما تزال على انفراطها وانفكاكها، وأن الشاغل الرئيسي الآن هو احصاء ما انفرط، وحجم خسائر هذا التشظي سياسيا واجتماعيا وثقافيا واقتصاديا، فيما يزال السؤال غائبا عن كيفية غزل خيط قوي مشدود لهذا العقد، أو قل انبات رأس واع مفكر لهذا الجسد الضخم الذي خرج عن التحكم والسيطرة، فصار يتطوح يمينا ويسارا بلا منطق يحركه، أو فلسفة تحكم اختيارات مسيره واتجاهات مستقبله، وأصبح العبث الفني والثقافي انعكاسا لواقع عام لا يقل عبثا وانحدارًا، لا يتراجع فيه الوطن فحسب، بل الأخطر أن تتجرد الألفاظ من معناها، وتُفرغ القيمة من مضمونها، وذلك هو أقسى وأقصى صور اضمحلال الحضارات الإنسانية، والتي أحسب أن الصبر لن يطول عليها!