الظن أن جوهر الحيرة والعجز عن استيعاب ما يحدث في مصر منذ ال25 يناير وصولا ال30 من يونيو وحتى الآن، هو الإصرار على تحجيم مشاكل المصريين في دائرة مطالب حياتية وفئوية ضيقة، ولعل في ذلك التشخيص السطحي ظلما تاريخيا لحراك شعبي ملهم متدافع الموجات، نجح في وقت قصير وقياسا بتاريخ الشعوب أن يعيد تقييم الحسابات في المنطقة والعالم بأكمله، لكن وضع النقاط على الحروف يفرض الاعتراف بأن ثورات المصريين كانت بنت حركة تاريخ متمردة، ترفض مراوحة سياساتخارجية وداخلية سدت منافذ ضخ الدماء في شرايين قلب الأمة العربية، وحولتها إلى عصا يتكئ عليها جسد عجوز هرم لا حول له ولا قوة، أوعلى أحسن الأحوال متحفضخم لماض يُذكر بالخير ولا يملك زائروه إلا أن يقرأوا عليه الفاتحة. ومع هذا الغبن لواقع حراك تاريخي على أرض الخلود سيبقى يجري طالما النيل يجري، شاقًا بتدافع لحظاته التاريخية واقعا حضاريا جديدا، فإنه يجدر الانتباه إلى تلك الطاقة الجبارة التي تتفجر من أحشاء مصر مع هذا الحراك، لتحرق أي انحياز لخيارت ماض عاشته على مدار 4 عقود من الانضواء تحت إمرة الأميركي، وهو التفاعل الذاتي الذي جعل من مصر اليوم محرقة كبرى لنزوات الطامع أو المتربص أو الجاهل أو المدفوع بأحلام إعادة عقارب الساعة للوراء، فيما يتضاعف حجم الدهشة أمام وقود تلك المحرقة الكبرى من ابطال مشهد ماضي متعدد العناوين متوحد الأهداف، دخلوا في حرب تكسير عظام كبرى أو ربما دفع قدري مدهش وساحق، حكمته اغراءات قوية توحي بخلو الطريق أمامهم لاعادة تدوير قمامة الماضي. مما لا تخطأه عين، أنه منذ ثارت مصر على مبارك بانحيازاته الاميركية الصرفة، وما قدمه نظامه من تأمين تقاعد مبكر ومريح ل(القاهرة) من أدوارها الاقليمية والدولية، وهي في برزخ طويل وممتد في رحلة البحث عن الذات والتنقيب في كنوز ماض فخيم يعتمر بالإنجازات القومية، محاولة قدر الجهد تفادي مطبات ساداتية مباركية تثقل كاهلها، ومعاندة طريقًا وعرًا وملغمًا إشارات مرور أميركية وغربية تريد اعادتها إلى حيث بدأت الطريق، لكن سوء الطالع أوقفها أمام امتحان البيان العملي الأول تحت سلطة نخبة عسكرية قديمة تفجرت بتناقضات ربيع حرب اكتوبر وانتصاره وأمجاده وبين خريف كامب ديفيد وفاتورته المثقلة بالتبعية وارتهان القرار الوطني، فكان منطقيا أن يحسم هذا الصراع الداخلي كوارث وأزمات سلمت حكم مصر إلى البديل الإخواني اللدود والجاهز والمتربص والمرضي عنه أميركيا، لينسدل الستار وبشكل درامي على تلك المرحلة، مذيلا تلك الصفحة بعلامة تعجب كبرى، زاد غموضها أوسمة الرئيس الاخواني السابق لقائد الجيش ورئيس الأركان السابقين. كان إذن الانصياع المرحلي للاختيار الاميركي في وضع لمسة من لمسات مشروع الشرق الأوسط الكبير على الصيد الثمين هو جزء من فاتورة مؤجلة الدفع، فبدا ملحوظا أن الرهان الأميركي على حكم الإخوان وتمكينهم هو استكمال لما أدير به نظام مبارك ومن قبله السادات ب(الريموت الكونترول) في الرسم السريالي لخارطة مصر والمنطقة وتفتيت مفاصل وحدتها ولحمتها التاريخية وتحدي جغرافيتها السياسية، لكن وللحق فإن ألمعية المصريين وفطرتهم الذكية وعبقرية الأضداد المعتملة داخلالتركيبة المصرية نجحت في جمع شتات هذا المشهد المتناثر، وقفت بالمرصاد لهذا المخطط الجهنمي وأهالت عليه وابلا من التراب، فكانت ثورة ال30 من يونيو هي إعادة التوزان بين معادلة تحرير الوطن والمواطن، من بوابة اسقاط لنظرية الآنسة رايس في الفوضى الخلاقة. ولم تتوقف جولات المشهد العبثي الذي يمسك بتلابيب مصر ويحاول ادارة مستقبلها بلعبة الكراسي الموسيقية، فما أن غاب الإخوان عن المشهد، حتى تسلل نفر من فلول نظام مبارك بنخبته الساقطة، وغزوا الصحافة والاعلام المصري بمذكرات ولقاءات، في محاولة لتصفية حسابات وغسل وجه تلك الحقبة السوداء في تاريخ مصر، لكن يبدو أن تلك الزمرة الأسيرة لأوهام الماضي وسرابه، لم تدرك بعد أن قطار الغضب المصري يمضي في البرزخ مندفعا وساحقا كل شبح لماضي الفساد والاستبداد والتبعية للأميركي وحراسة بوابة اسرائيل، بل والاهم أن أرامل ويتامي هذا الماضي قد فاتهم حقيقة أن نفس الشعب الذي يستدرون تعاطفه هو الذي عاش منذ أيام أجواء احتفائية غير عادية بالذكرى ال43 لرحيل الزعيم جمال عبدالناصر العدو التاريخي لرهانات ما بعد 1970 بتعدد أطيافها وواجهاتها، فكان ان ارتسم في الأفق حنين شعبي غير مسبوق لعصر من العزة والكرامة الوطنية والقومية، وعاد التاريخ ليتحدى الحاضر ويفرض أسئلة صعبة على مستقبل مصر. ان المشهد الاخير من هذا البرزخ الطويل والممتد، والذي يجعل الكثيرين يتوقفون بترقب لمغزاه ومعانيه في انتظار اكتمال تحميل صورته كاملة، هو زيارة الفريق اول عبدالفتاح السيسي لضريح الزعيم الراحل جمال عبدالناصر في الذكرى ال43 لوفاته، والتي أعرب فيها السيسي عن الاعتزاز بما حققه ناصر لمصر من إنجازات اقتصادية واجتماعية غير مسبوقة، وما قدمه من خدمات جليلة لدعم القضايا العربية والإقليمية، ومساندة الشعوب الإفريقية والآسيوية في نضالها من أجل الاستقلال والسلام والحرية، أما الجانب الأكثر لفتا للانتباه في تلك التصريحات هو تأكيد السيسي ان الزعيم الراحل سيظل نموذجاً يحتذى به للأجيال القادمة في الكفاح والتضحية من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية وتلبية طموحات وتطلعات الشعب المصري العظيم. لقد تجاوز ما جاء على لسان قائد الجيش الحدود البروتوكولية التقليدية والعبارات الإنشائية التي تقال في هكذا مناسبات، لكن يبدو أنها رهان مستقبلي على التزام واستحقاق تاريخي يجب الوفاء به، ولا يصح بل من المخاطرة أن يكون مناورة أو رهان على دغدغة لمشاعر الجماهير المتعطشة للحرية والكرامة القومية، بما يعني أن كلمات السيسي تلك ستكون كشف حساب مثقل له اذا ما تقدم للانتخابات الرئاسية واصبح رئيسا لمصر مدفوعا بتأييد شرائح شعبية واسعة، قطعًا لا تطالبه باستحضار شخصية الزعيم الراحل أداء وتمثيلا واخراجا، ففي ذلك جري على بدعة فنية مصرية عجيبة ومفلسة اعادت انتاج روائع السينما المصرية في قالب درامي باهت. لكن رسالة المصريين الحاضرة الآن على المشهد وبقوة، هي ضرورة استلهام تجربة الستينات وعصرنتها وفقا للظرف التاريخي الذي تعيشه مصر ومحيطها الاقليمي والدوليفي الوقت الراهن، وهو ما لا يمكن أن يتحقق بالطبع وفق الشروط القائمة والتي ما تزال تضع مصر رهينة للتبعية، وليتذكر السيسي ان اقدم على خوض التجربة أن آخر انتخابات رئاسية مصرية ورغم ما شابها من ظروف استثنائية أتت بالبديل القومي كطريق ثالث اختارته مصر بعدما أجبرت قسرا على الاختيار بين صندوقي مبارك والاخوان، ومن ثم لن يكون سؤال المستقبل معلقا بعنق الاختيار بين المدني أو العسكري، بقدر تعبيره عن ارادة المصريين وبشكل ديمقراطي نزيه وبما يعيد لمصر بعضا مما فات