منذ ما يربو عن ال12 عاماً كتبت صحيفة (صوت الأمة) المصرية تحقيقاً مطولاً حول الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، تناول كاتبه بالتحليل مناقب الراحل الكبير في صياغة صحفية رشيقة، ربما عبرت عن اشتياق لاستدعاء وتنشيط الذاكرة التاريخية حول فترة مشرقة وخالدة في تاريخ مصر والعرب، أو نكاية صحفية مستترة في نظام مبارك (بجذوره الساداتية) التي ناصبت العداء لمشروع وطني وقومي جامع التفت حوله ملايين هادرة من المحيط للخليج، أو ربما جرياً على عادة مصرية شعبية تستدعي سير وصور القديسين والأولياء في أوقات الكروب والأزمات لتنفس عن آلام الواقع، على أية حال كانت لقطة إنسانية ذكية سرد الكاتب فيها حديثاً عابراً جمعه بسائق بسيط حول الحقبة الناصرية في تاريخ مصر وآثارها على حياته مقارنة بواقعه في ظل عصر المخلوع. لكن فيما يبدو أن الكاتب خانه التعبير في سياق سرد قصته الصحفية المميزة، فبالغ في الحديث عن مناقب عبدالناصر واصفاً كاريزما شخصيته ب(الأسطورة) التي لن تتكرر، وحسناً فعلت الصحيفة حينها بنشر رد على صفحات الصحيفة نفسها بمقال تفنيدي لهذا الوصف، ركزت فيه على أن عبد الناصر لم يكن شخصية قادمة من عالم الأساطير غير الحقيقية التي تحكي قصصاً مقدسة أبطالها من الآلهة أو أنصاف الآلهة فيما تواجد الإنسان فيها يكون مكملاً أو هامشياص، بل ووفق ردي المنشور كان ناصر ممثلاً شرعياً لمشروع وطني خالص ونهضة قومية أصيلة تفاعلت مع طموحات الانسان المصري والعربي في سياق عالمي معاد لا يمكن تجاهله أو انكاره، أصاب في قرارات فأنجز وأبهر واجتهد في أخرى فاخطأ وتعثر، ومن ثم فإن محاولات (تأليهه) و(أسطرته) شئ من التسطيح وظلم التجربة في مقابل سذاجة وسفه محاولات (شيطنته) و(تقزيمه). الواقع أن ما كتبه الكاتب (صاحب الأسطورة) وغيره من المقالات التي تكتنز بها الصحافة المصرية والعربية في أي ذكرى تمس عبدالناصر ومشروع حقبته الوطني مدحا أو قدحا، تعبر تعبيرا صارخا عن حجم الصدمة والتشويه التاريخيين اللذين تركتها الحقبتان الساداتية والمباركية في النفوس، بما مارستهما من تضليل ممنهج أهال التراب على كل ما يمت للماضي بصلة لصالح حاضر اعتمر ذلا وهوانا داخليا بحرب الافقار الممنهجة ورأسمالية المحاسيب وقططها السمان وخارجيا بطوفان التبعية والخنوع لأميركا والكيان الصهيوني باتفاقية كامب ديفيد وأخواتها من سمسرات اقتصادية قزمت الدور القومي لمصر. كان طبيعيا ووسط تلك السياسات المعيبة والتي واكبتها حملة تشويه إعلامية واسعة النطاق أن تتحول تلك المناسبات التي ترتبط بتلك المرحلة الخالدة إلى مواسم للجدل والعراك الصحفي والخلط الصارخ بين الحقيقة والاسطورة وبين الانجاز والاخفاق والشخص والموضوع، لتتوسع دوائر الاستقطاب ويذوب صلب القضية لصالح القشور (لاحظ مثلا مرور الذكرى ال 39 لحرب أكتوبر منذ أيام دونما أي تحليل دقيق وعميق لدور عبدالناصر في اعادة بناء الجيش ما بعد نكسة 1967 وفي حرب الاستنزاف والتي هيأت العرب جدياً لانتصار أكتوبر). لم تكن إذن قراءة التاريخ وإعادة تكرار سطوره المحفوظة من أجل غاية منزهة عن الغرض أو وسيلة لتعلم أخطاء الماضي ومقارنتها بالواقع بحثاً عن الإصلاح أو تعديل المسار وتقويمه، بل كانت في جزء ليس بقليل منها ورقة على طاولة المزايدات وموائد المراهنات تستخدم آداة للتشويه وإهالة التراب على التاريخ أو مجالاً للتأليه والتبجيل المبالغ فيه وملاذا بالتاريخ من واقع مرير، وحتى فيما بعد 25 يناير ووصول الإسلاميين للسلطة لم تنقطع تلك المزايدات بل زادت وتعمقت ووجدت بيئة خصبة للتربح بحكم الثأر التاريخي بين جماعة الاخوان المسلمين وعبدالناصر، فكانت اسقاطات الرئيس الإخواني محمد مرسي عن تلك المرحلة في خطابه الشهير في ميدان التحرير والذي قال فيه (الستينيات وما أدراك ما الستينيات)، والمدهش أن ذلك التنشيط للذاكرة من قبل الرئيس المصري أوقع بصاحبه في فخاخ التناقض، وجعل البعض يهمسون للرئيس بأن نفس ذلك العقد من تاريخ مصر هو الذي منح أسرته الفقيرة فدانين من الأراضي الزراعية لينتشلها من دائرة الفقر وأدخله تعليماً جامعياً مجانياً تحول بفضله لأستاذ جامعي مرموق، بل وفي غدواته وروحاته الخارجية في عدم الانحياز وأفريقيا وآسيا كانت دوائر تحرك الإرث الناصري هي الرصيد الوحيد الذي ارتكن اليه. إن جزءاً من الأزمة الحقيقية التي تعيشها مصر وربما العالم العربي بأكمله أنها لم تحرر بعد من منغصات الجدليات التاريخية بتركاتها المثقلة بالسفسطة والتشويه، والتي تؤدي بدورها إلى غلق باب التاريخ على تجاربه العريضة سلباً كان أو إيجابا، فيما تُغيب ربما عن عمد ضرورات تقييم التجارب والمراحل تقييماً نزيهاص يضع الأحداث على قضبان التاريخ دون بتر أو اجتزاء، ويستخلص منها الدروس والعبر بعيداً عن المبالغة أو المزايدة للوصول إلى خارطة طريق سليمة للمجتمعات والشعوب. خارطة طريق بعد دراسة تاريخية متأنية لدروس وعبر الماضي منذ عصر محمد علي وحتى الآن، ستكشف ببساطة أن أية حركة للأمام ستتبعها خطوات للخلف إن كانت تحت إمرة التبعية للمحتل الجديد والولاء التام لسياساته وتوجهاته الاقتصادية والاجتماعية في مقابل تجيير كل البدائل الوطنية، وأن تلك الحركة رهناً لفهم جاد لتاريخ الأوطان وأواصر صلاتها وامتداداتها الإقليمية والدولية وطبائع تقاطعات المصالح والمآرب الدولية فيها، وذلك بالطبع لن يتم دون إرادة سياسية جادة تعلي مصالح المجموع وليست فئة أو فصيل بعينه مهما كان تكلفة الفاتورة والتضحيات المطلوبة. ظني أن المشروع الوطني الذي سينتجه هذا الحراك الفكري والسياسي الجاد إن حدث سيعود بالأمور إلى قواعدها سالمة، بتجربة جديدة قديمة لن تختلف عن جوهر تجربة المد القومي وفق رؤية عصرية تزيح خطايا الواقع المعاش وتتدارك أخطاء الماضي، لأن تلك التجربة كانت شجرة باسقة بجذور راسخة وتربة خصبة وليست خرافة قادمة من أضابير الأساطير أو نبتاً شيطانياً لا أصل له أو فروع .. الأيام بيننا لكن اذا لم تظل قراءة التاريخ بالمقلوب!! Comment *