عباس شراقي: فيضانات السودان غير المعتادة بسبب تعطل توربينات سد النهضة    البداية الرقمية للنقل الذكي في مصر.. تراخيص إنترنت الأشياء للمركبات تدخل حيز التنفيذ    وزير الإسكان: بدء تصنيف حالات الإيجار القديم وفق شرائح الدخل    لماذا كل هذه العداء السيساوي لغزة.. الأمن يحاصر مقر أسطول الصمود المصري واعتقال 3 نشطاء    مقتل شخص وإصابة 15 في هجوم روسي على مدينة دنيبرو الأوكرانية    تشكيل منتخب مصر أمام نيوزيلندا في كأس العالم للشباب    سلوت عن جلوس صلاح على مقاعد البدلاء أمام جالاتا سراي: رفاهية الخيارات المتعددة    خطة إطاحة تتبلور.. مانشستر يونايتد يدرس رحيل أموريم وعودة كاريك مؤقتا    مصرع 7 عناصر إجرامية وضبط كميات ضخمة من المخدرات والأسلحة في مداهمة بؤرة خطرة بالبحيرة    الأرصاد: الخريف بدأ بطقس متقلب.. واستعدادات لموسم السيول والأمطار    مفتي الجمهورية يبحث مع وفد منظمة شنغهاي آليات التعاون ضد التطرف والإسلاموفوبيا    مواقيت الصلاة فى أسيوط غدا الأربعاء 1102025    ماجد الكدوانى ومحمد على رزق أول حضور العرض الخاص لفيلم "وفيها ايه يعنى".. صور    أمين الفتوى: احترام كبار السن أصل من أصول العقيدة وواجب شرعي    ولي العهد يتسلم أوراق اعتماد سفراء عدد من الدول الشقيقة والصديقة المعينين لدى المملكة    محافظ القاهرة يناقش ملف تطوير القاهرة التراثية مع مستشار رئيس الجمهورية    من القلب للقلب.. برج القاهرة يتزين ب لوجو واسم مستشفى الناس احتفالًا ب«يوم القلب العالمي»    بعد رصد 4 حالات فى مدرسة دولية.. تعرف علي أسباب نقل عدوى HFMD وطرق الوقاية منها    جارناتشو يقود هجوم تشيلسى ضد بنفيكا فى ليلة مئوية البلوز    البورصة المصرية.. أسهم التعليم والخدمات تحقق أعلى المكاسب بينما العقارات تواجه تراجعات ملحوظة    هل يجوز للمرأة اتباع الجنازة حتى المقابر؟ أمين الفتوى يجيب.. فيديو    "أنا حاربت إسرائيل".. الموسم الثالث على شاشة "الوثائقية"    أحمد موسى: حماس أمام قرار وطنى حاسم بشأن خطة ترامب    محافظ قنا يسلم عقود تعيين 733 معلمًا مساعدًا ضمن مسابقة 30 ألف معلم    داعية: تربية البنات طريق إلى الجنة ووقاية من النار(فيديو)    نقيب المحامين يتلقى دعوة للمشاركة بالجلسة العامة لمجلس النواب لمناقشة مشروع قانون "الإجراءات الجنائية"    بلاغ ضد فنانة شهيرة لجمعها تبرعات للراحل إبراهيم شيكا خارج الإطار القانوني    "الرعاية الصحية" تطلق 6 جلسات علمية لمناقشة مستقبل الرعاية القلبية والتحول الرقمي    البنك الزراعي المصري يحتفل بالحصول على شهادة الأيزو ISO-9001    محمود فؤاد صدقي يترك إدارة مسرح نهاد صليحة ويتجه للفن بسبب ظرف صحي    مصر تستضيف معسكر الاتحاد الدولي لكرة السلة للشباب بالتعاون مع الNBA    بدر محمد: تجربة فيلم "ضي" علمتنى أن النجاح يحتاج إلى وقت وجهد    «العمل» تجري اختبارات جديدة للمرشحين لوظائف بالأردن بمصنع طوب    بعد 5 أيام من الواقعة.. انتشال جثمان جديد من أسفل أنقاض مصنع المحلة    المبعوث الصينى بالأمم المتحدة يدعو لتسريع الجهود الرامية لحل القضية الفلسطينية    اليوم.. البابا تواضروس يبدأ زيارته الرعوية لمحافظة أسيوط    حسام هيبة: مصر تفتح ذراعيها للمستثمرين من جميع أنحاء العالم    موعد إجازة 6 أكتوبر 2025 رسميًا.. قرار من مجلس الوزراء    الأمم المتحدة: لم نشارك في وضع خطة ترامب بشأن غزة    انتشال جثمان ضحية جديدة من أسفل أنقاض مصنع البشبيشي بالمحلة    وفاة غامضة لسفير جنوب أفريقيا في فرنسا.. هل انتحر أم اغتاله الموساد؟    برج القاهرة يتزين ب لوجو واسم مستشفى الناس احتفالًا ب«يوم القلب العالمي»    لطلاب الإعدادية والثانوية.. «التعليم» تعلن شروط وطريقة التقديم في مبادرة «أشبال مصر الرقمية» المجانية في البرمجة والذكاء الاصطناعي    تعليم مطروح تتفقد عدة مدارس لمتابعة انتظام الدراسة    التقديم مستمر حتى 27 أكتوبر.. وظائف قيادية شاغرة بمكتبة مصر العامة    كونتي: لن أقبل بشكوى ثانية من دي بروين    «مش عايش ومعندهوش تدخلات».. مدرب الزمالك السابق يفتح النار على فيريرا    «الداخلية»: تحرير 979 مخالفة لعدم ارتداء الخوذة ورفع 34 سيارة متروكة بالشوارع    احذر من توقيع العقود.. توقعات برج الثور في شهر أكتوبر 2025    عرض «حصاد» و «صائد الدبابات» بمركز الثقافة السينمائية في ذكرى نصر أكتوبر    بيدري يعلق على مدح سكولز له.. ومركزه بالكرة الذهبية    الملتقى الفقهي بالجامع الأزهر يحدد ضوابط التعامل مع وسائل التواصل ويحذر من انتحال الشخصية ومخاطر "الترند"    قافلة طبية وتنموية شاملة من جامعة قناة السويس إلى حي الجناين تحت مظلة "حياة كريمة"    انكماش نشاط قناة السويس بنحو 52% خلال العام المالي 2024-2025 متأثرا بالتوترات الجيوسياسيّة في المنطقة    ضبط 5 ملايين جنيه في قضايا اتجار بالنقد الأجنبي خلال 24 ساعة    التحقيق مع شخصين حاولا غسل 200 مليون جنيه حصيلة قرصنة القنوات الفضائية    السيسي يجدد التأكيد على ثوابت الموقف المصري تجاه الحرب في غزة    الأهلي يصرف مكافآت الفوز على الزمالك في القمة للاعبين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تكامل أدوار فرنسي – أميركي
نشر في مصر الجديدة يوم 11 - 07 - 2011

من المؤكد ان الشعب الفرنسي الذي فجر الثورة الفرنسية التاريخية الشهيرة ما كان يحلم في أي يوم من الأيام أن تتحول الجمهورية الفرنسية إلى زعيمة للثورة المضادة في العمق الاستراتيجي العربي الجنوبي لفرنسا)
عندما تولى نيكولا ساركوزي الرئاسة الفرنسية في السادس عشر من أيار / مايو 2007، "تمنى" العرب أن تتمكن ثوابت المصالح المشتركة من التغلب على تغيير استراتيجي هددت رئاسته بإحداثه في العلاقات العربية – الفرنسية نتيجة عوامل مثل كونه الرئيس الفرنسي الأكثر دفاعا عن "أمن" دولة الاحتلال الإسرائيلي، وإنهاء الاستقلال الفرنسي عن التبعية للولايات المتحدة، وعسكرة السياسة الخارجية الفرنسية، وطموحه إلى إحياء الدور الفرنسي الاستعماري في الوطن العربي وإفريقيا تحت مسميات وعناوين مختلفة، ناهيك عن "خؤولته" اليهودية. وكان "التمني" العربي مدفوعا بحقيقة أن "النظام العربي" الذي استطاع في معظمه التعاطي مع كل هذه العوامل في نسختها الأميركية يمكنه أن يتعامل مع نسخة فرنسية لها.
لكن أربع سنوات من حكم ساركوزي أثبتت بأن التكامل الفرنسي في عهده مع الدور الأميركي إقليميا وعالميا مثل انقلابا كاملا على سياسات اسلافه يهدد الآن كل الانجازات والايجيابيات التي تحققت في العلاقات العربية الفرنسية منذ أنهى الزعيم الفرنسي شارل ديغول "العصر الذهبي" في علاقات بلاده مع دولة الاحتلال الإسرائيلي بعد عدوانها الذي قاد الى احتلال أراضي أربع دول عربية في سنة 1967.
وتهديد سياسات ساركوزي للمصالح الفرنسية لا يقتصر على العلاقات مع العرب. ففي 24 شباط / فبراير الماضي على سبيل المثال نشرت لوموند الفرنسية بيانا لمجموعة من ثلاثين دبلوماسيا فرنسيا عاملا ومتقاعدا وجه نقدا لاذعا لسياسته الخارجية التي جعلت "أوروبا لا حول لها ولا قوة، وإفريقيا تفلت منا، والبحر الأبيض المتوسط لا يتحدث معنا، والصين تسحقنا، وواشنطن تتجاهلنا" بسبب "سياسة خارجية هاوية ومزاجية تركز على المجد الشخصي" لساركوزي الذي حول فرنسا من دولة داعية للسلام الى دولة مثيرة للحروب كما قالت فضائية "فرانس 24" في الثامن من نيسان / أبريل الماضي، والذي "سيعلن حربا كل أسبوع" إذا استطاع كي يحرك المشاعر الوطنية ويعزز شعبيته التي وضعته في الترتيب الثالث بعد مارين لوبن الزعيمة الجديدة ل"الجبهة الوطنية" اليمينية المتطرفة وأي زعيم للحزب الاشتراكي المعارض، كما قال المعارض له ديديير ماثوس في مقابلة من النيويورك تايمز الأميركية.
لقد كان "تسلل" السفيرين الأميركي روبرت فورد والفرنسي ايريك شوفالييه الى مدينة حماة السورية في الثامن من الشهر الجاري دون التنسيق مع السلطات كما تقتضي الأعراف الدبلوماسية هو المثال الرمزي الأحدث على التكامل الأميركي – الفرنسي في عهد ساركوزي الذي حول بلاده الى شريك منافس أو "شريك مضارب" للولايات المتحدة يحاول انتزاع حصة لنفسه من "الكعكة" العربية، في نسخة أميركية – فرنسية معاصرة للشراكة التنافسية البريطانية الفرنسية التي أنتجت اتفاقية سايكس – بيكو التي تقاسم بموجبها البريطانيون والفرنسيون الوطن العربي في مطلع القرن العشرين الماضي.
لقد أخرج ديغول فرنسا من القيادة العسكرية لحلف شمال الأطلسي "ناتو" واستقل ببلاده عن المحور الأنغلو – أميركي في قيادة الغرب، مما أرسى أساسا موضوعيا لشراكة عربية – أوروبية على أساس الند للند والمصالح المشتركة والاحترام المتبادل ومنح الأمل للعرب في دور أوروبي مستقبلي مستقل عن التبعية للولايات المتحدة، وقد اكتسب هذا الدور الأوروبي المأمول عربيا أهمية أكبر بعد انهيار المنظومة الاشتراكية الدولية بقيادة الاتحاد السوفياتي السابق. وكانت سورية، على سبيل المثال، في طليعة الدول العربية التي بنت علاقاتها الخارجية مراهنة على هذا الدور لتخص أوروبا بحوالي نصف تبادلها التجاري.
لذلك فإن تصريح وزير الخارجية السوري وليد المعلم في الثاني والعشرين من الشهر الماضي بأن لدى فرنسا "أجندة استعمارية" وبأن سورية "ستنسى أن أوروبا على الخريطة" كان تعبيرا عن صدمة خيبة أمل عميقة تعكس إحساسا جريحا بالخيانة بعد تاريخ طويل من الرهان على موقف أوروبي مستقل يوازن الانحياز الأميركي السافر غير المشروط إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي في الصراع العربي معها بعد أن أسقطت أوروبا بقيادة ساركوزي هذا الرهان الذي رعته سورية بحرص وعناية طوال حوالي خمسة عقود من الزمن، أكثر مما كان تصريح المعلم تعبيرا عن سياسة سورية مدروسة للتوجه "شرقا وجنوبا" ونفض اليد نهائيا من أوروبا.
لقد أظهر غياب أي تمثيل سوري له حد أدنى من الصدقية في المؤتمر الذي استضافته العاصمة الفرنسية خلال الأسبوع الماضي ضد سورية بحجة "التضامن" مع المعارضة للنظام أن سياسات ساركوزي العربية تورط فرنسا في رسم صورة سلبية لها تتعزز في الأوساط العربية ولا تقتصر على الحكومات بل تمتد إلى المعارضة أيضا. وقد نظم هذا المؤتمر برنارد – هنري ليفي وبرنار شالشا وكلاهما معروف بولائه للحركة الصهيونية ودفاعه عن دولة الاحتلال الاسرائيلي ومشروعها الصهيوني وأمنها واحتلالها وتوسعها الاقليمي والاستيطاني. وافتتح المؤتمر بعرض شريط تحول الى ما وصفته صحيفة الأخبار اللبنانية الى "مرافعة ضد القومية العربية" بدأ بانتقاد حزب البعث ثم انتقد الزعيم العربي المصري الراحل جمال عبد الناصر بحجة أن "الوحدة" بين سورية ومصر، لا "الانقلابات العسكرية"، هي التي قضت على "الديموقراطية" في سورية. وقد تحول ليفي بخاصة الى مستشار أول للرئيس ساركوزي في الشؤون العربية فكان فيلسوف الانقلاب على السياسة الفرنسية المعارضة للحرب الأميركية على العراق، ومنظر تحويل فرنسا الى كاسحة ألغام أمامية للتدخل العسكري الأميركي – الفرنسي الذي يستخدم الناتو من أجل تغيير النظام في ليبيا، وها هو الآن يمهد الرأي العام الفرنسي لتكرار السيناريو الليبي في سورية.
لقد فاجأت ثورتا تونس ومصر إدارة ساركوزي، فأطاحت الأولى بنظام تونسي كان على علاقات وثيقة معها، بينما أطاحت الثانية بالرئيس السابق حسني مبارك الشريك المصري لفرنسا في رئاسة الاتحاد المتوسطي. وقادتا الى تعديل وزاري فرنسي حل فيه آلان جوبيه محل برنار كوشنير في وزارة الخارجية. ورافق هذا التعديل تغيير استراتيجي في السياسة الخارجية الفرنسية حاول أن يعوض بالتدخل العسكري الفرنسي عن العجز الأميركي عن التعامل عسكريا مع المضاعفات الاستراتيجية لتغيير النظامين في تونس ومصر، وكلاهما كان محسوبا على الغرب.
وربما لا يرى المراقب غير المتعمق أي علاقة بين التحرك المصري بعد ثورة 25 يناير نحو فك الشراكة المصرية مع دولة الاحتلال الاسرائيلي في حصار قطاع غزة الفلسطيني، أو نحو توجه مصري باتجاه "تطبيع" العلاقات مع إيران، لكن هذين التحركين على وجه التحديد لهما علاقة وثيقة بالقرار الأميركي – الفرنسي للتدخل العسكري في ليبيا، ثم للتمهيد لتدخل مماثل في سوريا، لأن تدخلا كهذا فقط هو الذي يمكنه حرف الحراك الشعبي العربي من حراك يستهدف الأنظمة المتحالفة أو المتساوقة مع الاستراتيجية الأميركية – الغربية في الوطن العربي الى حراك يستهدف الأنظمة المعارضة لهذه الاستراتيجية، لقطع الطريق على أي تنسيق مصري – سوري كان تاريخيا هو المحور العربي القادر على احباط كل الأطماع الخارجية في الوطن العربي.
وقد فتحت الثورة المصرية الباب موضوعيا أمام إعادة بناء المحور المصري - السوري. إن دول الخليج العربية التي انساقت مع التكامل الفرنسي – الأميركي في الاحتواء العسكري لمضاعفات تغيير النظامين في تونس ومصر مدفوعة بمخاوف مشروعة من ملئ إيران للفراغ الناجم عن غياب التضامن العربي قد غاب عنها أن إحياء التنسيق المصري السوري هو وحده الكفيل بتأمين بديل عربي للنفوذ الآيراني المتنامي، وهو بديل إذا ما تعزز بالدعم العربي الخليجي له في مواجهة الأطماع الغربية – الاسرائيلية التي تستهدف العرب كافة فإنه كفيل بإحياء التضامن العربي وتحييد البديل الايراني له دون خسارة الاضافة الايرانية الهامة الى أي نظام أمن اقليمي خارج إطار الاستراتيجية الأميركية – الغربية التي تعتمد دولة الاحتلال الاسرائيلي محورا أساسيا لها.
وقد نجح التدخل العسكري السافر الأميركي – الفرنسي في ليبيا، ونجح الاستقواء بالتهديد بتكرار هذا التدخل في سوريا، في تركيز الاهتمام الدولي على الدعوة الشعبية الى الاصلاح والتغيير في هذين البلدين العربيين بينما ما زالت القيادة الأميركية – الفرنسية لهذا التدخل تراوغ إعلاميا في تأييدها اللفظي الخجول للدعوة الشعبية المماثلة الأوسع نطاقا والأكثر صدقية في البلدان العربية "الشريكة" لهذا التدخل في إطار حلف الناتو (البحرين مثالا) أو في البلدان العربية التي يكون لتغيير النظام فيها نتائج تهدد مصالح الشراكة العربية مع التدخل العسكري الغربي كما هو الحال في اليمن، وهذه المراوغة الأميركية – الفرنسية بالكاد تستر الدعم الغربي للأنظمة في مواجهة الاحتجاجات الشعبية في مثل هذه البلدان العربية.
وقد كان الدور الفرنسي حاسما في هذا التحول في الاهتمام الدولي، وكان سافرا حد أن يتحول الى مصدر فخر واعتزاز لساركوزي وحكومته، في ليبيا وفي سوريا على حد سواء، وحد أن يتحول الى العنوان الغربي للثورة المضادة الوطن العربي. ومن المؤكد ان الشعب الفرنسي الذي فجر الثورة الفرنسية التاريخية الشهيرة ما كان يحلم في أي يوم من الأيام أن تتحول الجمهورية الفرنسية إلى زعيمة للثورة المضادة في العمق الاستراتيجي العربي الجنوبي لفرنسا. والمفارقة ان رئاسة ساركوزي تحاول مخاطبة "المجد الاستعماري" الكامن في ذاكرة غلاة اليمين الفرنسي من أجل تحسين شعبية ساركوزي التي كانت تتدهور في استطلاعات الرأي العام الفرنسي حتى بلغت حوالي 25% قبل التدخل العسكري في ليبيا.
وكان التدخل الفرنسي مكملا للتدخل العسكري الأميركي حيث حالت أسباب عملية دون التدخل الأميركي المباشر. ومن هذه الأسباب الأزمة المالية والاقتصادية التي تعصف بالولايات المتحدة منذ عامين. ومنها نشر القوات الأميركية الى الحد الأقصى الذي يحول دون نشر المزيد منها من دون اللجوء الى التجنيد الاجباري بعد مضي عشر سنوات على احتلال أفغانستان والحرب الأميركية المستمرة عليها دون حسم عسكري حتى الآن، ومضي ثماني سنوات على احتلال العراق والحرب الأميركية المستمرة عليه دون حسم عسكري حتى الآن.
فالرئيس الأميركي باراك أوباما الذي اضطر لاتخاذ قرار الحرب في ليبيا دون مشورة الكونغرس ومصادقته قد فعل ذلك لفترة قصيرة معتمدا على أن يسلم المهمة لفرنسا ساركوزي كي تكملها تحت مظلة الناتو. وإذا كانت الحالة الليبية هي خير مثال واضح على التكامل الاستراتيجي بين الولايات المتحدة وبين فرنسا، فإن الشريك الفرنسي المنافس أو المضارب كان الى جانب الولايات المتحدة منذ تولى ساركوزي الرئاسة في كل المبادرات الأميركية الدبلوماسية والسياسية في إطار الأمم المتحدة ومجلس أمنها أو خارج هذا الاطار في أفغانستان والعراق وليبيا ولبنان وسورية والصراع العربي الاسرائيلي.
فمشروع الاتحاد المتوسطي الذي كان عماد سياسة ساركوزي الخارجية في "الشرق الأوسط وشمال افريقيا" هو نسخة فرنسية لمشروع الشرق الأوسط الجديد أو الكبير الأميركي، وكلا المشروعين يستهدف إنهاء أي نظام عربي ما زال واقفا على قدميه من أجل دمج دولة الاحتلال الاسرائيلي في المنطقة ضمن نظام اقليمي اوسع من أي نظام عربي. وكانت المبادرة الفرنسية الأخيرة لاحياء المفاوضات الفلسطينية – الاسرائيلية الثنائية المباشرة هي النسخة الفرنسية لمبادرة باراك أوباما الأميركية في مستهل عهده وربما لهذا السبب كان مصير النسخة الفرنسية هو الفشل الذي أصاب المبادرة الأميركية الأصلية. ويكفي اي مراقب أن يلحظ الرعاية الأميركية – الفرنسية المشتركة لكل القرارات التي اتخذها مجلس الأمن الدولي خلال السنوات القليلة الماضية بشأن القضايا العربية حتى يدرك التكامل الفرنسي – الأميركي في الهيمنة على الوطن العربي. وبعد أربع سنوات على وجوده في الرئاسة الفرنسية يتأكد اليوم أن التهليل الاسرائيلي لفوزه كان في محله.
لقد كان ساركوزي هو الذي فك العزلة الغربية التي فرضتها الولايات المتحدة على ليبيا معمر القذافي وسورية بشار الأسد. فقد فرش السجاد الأحمر للقذافي في كانون الأول / ديسمبر عام 2007، واعتبر أنه "لايعتبر دكتاتورا في العالم العربي" وأن كونه "رئيس الدولة الأطول حكما في المنطقة هو ما يهم"، مع أن طول حكم القذافي هو الذي فجر الانتفاضة الشعبية عليه، ثم فرش السجاد الأحمر للأسد في تموز / يوليو العام التالي ليضعه الى جانبه في الموكب المهيب بشارع الشانزليزيه أثناء الاحتفال بالعيد الوطني لفرنسا.
إن انقلاب ساركوزي على الرجلين اليوم يظهره كشخصية لا يؤتمن جانبها وينبغي الحذر من "ضيافتها" والتفكير مليون مرة قبل الثقة فيها. ومن المؤكد أن العلاقات الدولية، ومنها العلاقات العربية مع فرنسا، لا يمكن بناؤها على مثل هذا النوع من السلوك المتقلب والغادر وبخاصة إذا كان مدعوما بعسكرة للسياسة الخارجية لدولة نافذة في صنع القرار الدولي مثل فرنسا وتعتبر القوة العسكرية الثانية بعد الولايات المتحدة اقليميا والقوة الدبلوماسية الثانية بعدها عالميا.
إن "الربيع العربي" هو "نقطة تحول كبرى في التاريخ، ربما يمكن مقارنتها بسقوط جدار برلين" كما قال وزير الخارجية الفرنسي آلان جوبيه، وما يحدث في "الشرق الأوسط الآن يمكن أن يكون التغيير الجيوستراتيجي الأهم منذ سقوط جدار برلين" كما قال رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأميركي جون كيري، وهو "الحدث الرئيسي حتى الآن في القرن الحادي والعشرين، فهو أهم من الأزمة المالية عام 2008 .. وأهم في نتائجه في الأمد الطويل من الحادي عشر من سبتمبر" في الولايات المتحدة كما قال وزير الخارجية البريطاني ويليام هيغ.
وقد وصف أمين عام حلف الناتو، آندرز فوغ راسموسن، في خطاب له في الأول من الشهر الماضي ما يحدث في الربيع العربي بايجاز بليغ: "ما الذي تغير؟ جيل أصغر سنا يطالب بغد أكثر إشراقا. لسنوات طالت أكثر من اللازم سمع هذا الجيل عن النمو الاقتصادي، لكنه لم يشعر بفوائده. لقد شاهد الثروة، لكنه كان عاجزا عن المشاركة فيها. وبعضه شاهد حتى الانتخابات، لكنه لم يعش الديموقراطية. والآن يريد هذا الجيل أن يحصل على كل ذلك في الواقع. وهذه بداية تحول طويل ومعقد يمكن أن يكون مضطربا، لكنه سوف يصوغ شكل المنطقة والعالم لسنوات مقبلة".
إنه حقا تحول ثوري تاريخي يضع فيه ساركوزي فرنسا في جانب الثورة المضادة ضد حركة التاريخ، وقد أثبت التاريخ ان من يعاند حركته يكون خاسرا في النهاية. والمفارقة أن راسموسن الذي أجاد في وصف هذا التحول لم يجد في خطابه ذاته ما يقتبسه من العرب سوى ما قاله رجل "في الرابعة والثمانين من العمر من مصراتة" الليبية التي تحاصرها قوات القذافي: "لو لم يرسل الله الناتو، لكانوا أحرقونا جميعا"، ليوحي راسموسن أن حلف الناتو والله سبحانه يقفان في خندق واحد، ومعاذ الله جل جلاله!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.