يفكر الأمريكي قبل أن نتوقع.. ويخطط قبل أن نتحسب ل(التعكز).. وينفذ ويبلغ المراد قبل أن تتدافع الأنفاس للحراك.. لا بأس إذن أن نتمسك بفضيلة الصمت أمام قرع كؤوس الأنخاب في صحة الغارقين في الأوهام.. حتى لو خرجت نهاياته السعيدة صدى كئيباً مفزعاً في البلدان العربية المكلومة المغلوبة على أمرها.. إلى مزيد من الحيرة تتدافع التساؤلات.. هل هو فارق التوقيت والتفكير والوعي والإدراك الشاسع بين من ليلهم نهار مفعم بالتدبير والتخطيط وبين من نهارهم ليل يغط في نوم عميق أو جري وراء السراب؟!.. أم هو حكم التاريخ في أمة دشنت الشرق الأوسط الكبير ب(كامب ديفيد) في رحلة تخبط طويلة مبعثرة الخطوات داخل برزخ من الانحطاط والتردي والتراجع والتقزيم. بالأمس ركب الأمريكي موجة الطموحات المصرية في (العيش) و(الحرية) و(العدالة الاجتماعية)، وجعل من حراكها الشعبي الهادر في ال25 من يناير مصنعا للفرص ومختبراً بشرياً كبيراً لوهم اسمه ربيع للحرية، كان في جوهره مزاد سريا لنقل السلطة من نموذج عسكر كامب ديفيد إلى النموذج الأردوغاني الإخواني، وبينهما تواصلت الجسور وامتدت خطوط الاتصال للحفاظ على حزمة المصالح الأميركية في قلب المنطقة، لتبقى صيغة الولاءات والتفاهمات على حالها شيكا على بياض لاستكمال ما تبقى من مشروع الشرق الأوسط الكبير ودرة عقده اسرائيل. لكن، يبدو أن حالة الغليان التي يمر بها المجتمع المصري جراء انسداد الأفق السياسي والازمات الاقتصادية المتلاحقة تحت حكم الاخوان، ووصولها إلى حافة الانفجار مع الدعوات لتظاهرات غضب عارمة في ال30 من يونيو المقبل في الذكري الأولى لتولي الرئيس محمد مرسي السلطة، قد خيبت آمال الأميركي وفرضت عليه خطوات إلى الخلف يجلس بعدها على رصيف الأحداث لاعادة حساباته في بؤرة نفوذه بالمنطقة، والبحث عن مخرج من مأزق تمر به المصالح الأميركية داخل بلد يستعصي على ترمومترات قياس درجة الحرارة الثورية. لا مفر إذن أمام هذه الورطة المستحكمة من طبخ سيناريوهات جديدة لمستقبل قبل أن يبلغه أصحابه، وإعداد الخطة (ج) لاحتواء ما قد تكون موجة ثورية جديدة، هذا اذا تيقنا أن خطط تكبيل قلب الأمة من الانحراف على الخطوط الأميركية لا تقبل لغوا ولا تأثيما. إنه تطفل الأميركي مجددا على مستقبل المصريين، تكشفه أروقة معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى الذي بدأ في طرح خيارات أمام صناع السياسة الخارجية الأميركية حيال (صيف التذمر الذي يمر على مصر) وذلك في دراسة نشرها المعهد للباحث إريك تراجر زميل الجيل التالي في معهد واشنطن، حيث تلخصت توصياته لصناع القرار الأمريكان في سيناريوهيين: الأول: إقناع المعارضة بعدم التخلي عن السياسة، إذ أن المشاركة في النظام الحالي تمهد طريقاً يمكن السير فيه بصورة أكبر نحو تقاسم السلطة، بدلاً من الدعوة للقيام ب"ثورة" ضد مرسي، واقناع الإخوان بأن (زيادة الضرائب وخفض الدعم) تجعل شمل المعارضة وصياغة توافق سياسي أمرين لا غنى عنهما. أما الثاني وهو الأهم من نظري التخطيط لحالة محتملة من عدم الاستقرار. والتركيز على ثلاث مصالح استراتيجية يمكن أن تتعرض للخطر وهي معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، وأمن قناة السويس، والتعاون في مجال مكافحة الإرهاب، ويرى الباحث وفق هذا السيناريو أنه وبما أن الجيش المصري هو المسؤول الأول عن جميع هذه العناصر، ينبغي على إدارة أوباما أن تعمل مع القادة العسكريين لضمان تفعيل خطط طارئة إذا ما اشتعل صيف التذمر الذي تمر به البلاد. إلى هنا انتهت توصيات الباحث، ولي في هذا السياق عدة ملاحظات: أولا: أن تاريخ نشر هذه الدراسة هو ال 28 من مايو الماضي قبل شهر من المظاهرات المرتقبة، بما يؤشر إلى قلق أميركي بالغ ومبكر مما قد يحمله المستقبل في مصر من حراك، قد يؤثر وبشكل مباشر على المصالح الأميركية ويدير دفة الأحداث إلى حيث لا يريد طابخوا السياسات الاميركية ومن خلفهم اللوبي الصهيوني. ثانيا: أن السيناريو الأول يسعى إلى محاولة ناعمة لاستغلال شبق الوصول للسلطة لدى أطراف بالمعارضة، في مقابل استخدام مدخل اقتصادي للإخوان يوفر استمرار شبكات التبعية الاقتصادية للاميركي، بغض النظر عن مدى معاناة الانسان المصري في معادلة رأسمالية مجحفة، وهي في رأيي السبب الجوهري لتفجير أي موجة ثورية جديدة في مصر. ثالثا: أن السيناريو الثاني، يمثل ترجمة حية لفرضية ما بعد مرحلة احتراق الجلد السياسي ووصول الأزمة إلى العظام، بما يفرض استغلال العسكر وتشابكات علاقاتهم الممتدة مع واشنطن للحفاظ على المصالح الاستراتيجية الاميركية وفي صدارتها (كامب ديفيد)، أو بما يعني دون مواربة الحفاظ على الثوابت التي أخرجت مصر من دائرة التأثير في المنطقة. رابعا: أن كلا السيناريوهين المطروحين يعبران عن مأزق أميركي بالغ الصعوبة في لعبة سلم الثعبان مع المصريين، حيث باتت واشنطن مجبرة على إعادة الكره مرة أخرى والبحث عن نظام حكم بديل للإخوان يلبي طموحات واشنطن في الحفاظ على استقرار مصالحها الاستراتيجية، بعد أن خاب الرهان الأميركي على (الأردوغانيين) الجدد، وتبددت مساعي العامين ونصف في الدعم المقنن والممنهج للاخوان في تحسين شروط إعادة الوضع لما قبل ال25 من يناير. لا مجال للشك إذن في أن تلك الخطة الأميركية المتطفلة تتجاهل إرادة المصريين وتستهزئ بقدرتهم على تحديد مصيرهم، وتغيب دورهم الحقيقي في تقرير مستقبلهم، ولعل في ذلك ما يرفع درجة الشك في الدور الأميركي الجوهري في إدارة تخبط مرحلة ما بعد الاطاحة بمبارك في شتاء 2011، واستمرار التعاطي مع المصريين على أنهم جثة بلا حراك، وفي ذلك ما يؤجج مشاعر الغضب والعداء الشعبي المصري ضد أميركا وألاعيبها التي سقطت ورقة التوت عن آخر عوراتها.