للولايات المتحدةالأمريكية في مصر، ثلاثة مآرب لا تنكرها واشنطن، ولا تنكرها القاهرة، أيًا من يكون الرئيس، هنا أو هناك، وأيًا ما يكون الفصيل السياسي الذي يحكم.. هنا أو هناك أيضًا. هذه المآرب أو الثوابت الأمريكية "المقدسة"، تتمثل في حرية الملاحة في قناة السويس، وبقاء اعتماد جيش مصر في تسليحه على ما يصنع في أمريكا، وأخيرًا وقبل كل شيء، الالتزام بمعاهدة السلام مع دولة الاحتلال الإسرائيلي. والمؤكد أن هذه المآرب، لن تكون مصانة مضمونة، طالما أن مصر في حالة سيولة، وما لم تخبو جذوة الثورة، التي ما تزال ترتفع مدًا بعض الأحيان، وتنحسر جذرًا في حين آخر. الحفاظ على هذه المصالح، دفع البيت الأبيض إلى الوقوف بقوة خلف الدكتور محمد مرسي، مرشح جماعة الإخوان، في انتخابات الإعادة، ضد الفريق أحمد شفيق، رغم أن الأخير ينتمي لنظام مبارك، الذي كان يمثل كنزًا استراتيجيًا لواشنطن وتل أبيب معًا. لم يكن الخيار حينئذٍ بين رجلين، يتماهى أحدهما في واشنطن، فيما يسعى الآخر إلى انتزاع الاستقلال الوطني، فكلاهما فيما يتعلق بالطواف حول البيت الأبيض واحد، ولا فرق بين نظام برئاسة شفيق أو مرسي، حين يتعلق الأمر بخفض جناح الذل لسادة الكونجرس. كان الخيار بين حالتين، حالة ثورية "فوّارة" سيشعلها فوز شفيق بالضرورة،، وحالة سكينة رتيبة، سيحققها وصول نظام الإخوان المحافظ إلى السلطة.. إذن فلتكن السكينة، بما يجتث الثورة من أعماقها. يخطئ بالطبع من يحسب أن واشنطن تريد لمصر الاستقرار، أو أنها وقفت إلى جانب مرسي، لتحقيق هذا المطلب، فالمطلب كان يتمثل في الوصول إلى حالة سكينة جامدة، تكفل أن تنتهي حالة الثورة بأسرع ما يكون. بقاء الحالة الثورية يبقي الاحتمالات مفتوحة على كل مصاريعها، ولعل أداء البيت الأبيض، إذ تشكلت خلية أزمة أثناء الموجة الأولى للثورة المصرية، مايزال يثير السخرية، وتصريحات الرئيس أوباما، بمنح مبارك فرصة، ثم تصريحاته بأن عليه أن يرحل، قبل أن يعود إلى تصريحات منح الفرصة، وصولاً إلى رسالته إلى مبارك بضرورة الرحيل، وما تسرب فيما بعد سقوط النظام، من أن البيت الأبيض امتنع عن الرد على اتصالات مبارك الهاتفية.. كلها معلومات تكشف عن أن الثمانية عشرة يومًا، التي اجتمعت فيها الثورة على هدف إسقاط النظام، كانت خارج الحسابات الأمريكية. الآن.. بعد حكم الإخوان، ثبت بالدليل القاطع، أن السيناريو الأمريكي لوأد الثورة، برئيس يبدو محسوبًا عليها، لم يكن دقيقًا، فثمة ثغرات، والموج الثوري مايزال يضرب الصخور، والميادين لم تتنازل بعد عن هتافاتها: "عيش حرية عدالة اجتماعية". إذن.. لابد من سيناريو بديل، فالحليف الإخواني، لم يتمكن من كبح جماح وجموح شعب يتوق إلى الحرية، وكلما سقط من أبنائه شهيد، كلما ازداد اعتصامًا وتشبثًا بما يتوق إليه. هناك بالطبع خلف الأكمة ما لا نعرفه، وهناك رهانات أمريكية على فصائل أخرى، ربما يكون الجيش منها، وهذا ما يعززه بالطبع، الاجتماع الذي عقده وزير الخارجية الأمريكي جون كيري مع الفريق السيسي، دون أن يحضره الرئيس.. وثمة محاولات أمريكية لإعادة إنتاج المشهد الأخير من الثورة بما يحفظ لواشنطن مصالحها.. وهناك شارع قلبه ينبض، وشهداء تستطيب صدورهم مذاق الرصاص، والأمر كله يتشابه مع مقولة شاعرنا نجيب سرور: بالأمس عاد السرب تنقصه حمامة.. واليوم عاد السرب تنقصه حمامة.. وغدًا ستنقصه حمامة.. لكنه لا ينتهي سرب الحمام. Comment *