7 سنوات عجاف مرت على ليبيا، انقسام وصراعات سياسية وحرب نفسية واقتصادية وعسكرية عصفت بالبلاد، أدخلتها في دائرة مفرغة لا تزال تعجز طرابلس عن الخروج منها، باتت التنظيمات الإرهابية والمليشيات المسلحة المتحكم الرئيسي في مستقبل البلاد، وجاءت المؤامرات والتدخلات السياسية الخارجية وصراع الانتهازيين على ثروات هذا البلاد، لتغذي هذا الانقسام، وتعمق الأزمة، وتجعلها أكثر تعقيدًا، ليستمر مسلسل الدم سبع سنوات دون توقف. بداية الأزمة تمر ليبيا اليوم بالذكرى السابعه لأحداث 17 فبراير، حيث جرى إسقاط حكم الرئيس الراحل "معمر القذافي"، الذي حكم بلاده لمدة 42 عامًا، حيث بدأت الأزمة الليبية بثورة شعبية سلمية، سريعًا ما استغلتها القوى المتآمرة لتزرع أشواكها، وتحولها إلى صراع مسلح واضطرابات سياسية. اندلعت الأحداث فعليًّا في 17 فبراير عام 2011، لكن قبل هذا التاريخ ظهرت مؤشرات اندلاع احتجاجات كبيرة في البلاد، ففي 14 فبراير من العام نفسه ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بدعوات للخروج بتظاهرات سلمية ضد "القذافي"، وذلك للاحتجاج على اعتقال قوات الأمن للمحامي عن ضحايا ما تسمى قضية "مجزرة سجن أبو سليم" الذي يدعى "فتحي تربل"، الذي ألقت قوات الأمن القبض عليه في 14 فبراير عام 2011، وهو المحامي المُعارض لنظام القذافي، والذي اعتبره العديد من المراقبين الفتيل والشرارة الأولى الفعلية للاحتجاجات الليبية ومُفجرها الرئيسي. في 16 من الشهر نفسه بدأت أولى الاستجابات الشعبية، حيث خرجت تظاهرة في مدينة بنغازي، وشارك فيها مئات الأشخاص، وجرى اعتقال العديد منهم بعد مواجهات عنيفة مع قوات الأمن، وأغلبية المتظاهرين كانوا من أهالي ضحايا "أبو سليم" الذين كانوا على موعد كل يوم سبت مع وقفة احتجاجية؛ للمطالبة بمعرفة مكان الجثث ومحاكمة المسؤول عن القضية، لكن بعد اعتقال محامي القضية "تربل" خرجت أعداد كبيرة من أهالي ضحايا "أبو سليم" ومناصريهم، بالإضافة إلى أهالي المحامي "فتحي تربل"، ومن أمام مديرية الأمن بمدينة بنغازي ارتفعت الأصوات المطالبة بإسقاط الحكومة ومحاكمة المسؤولين عن المجزرة والمطالبة بالإفراج عن "تربل". الاحتجاجات سريعًا ما تطورت واتسعت رقعتها، الأمر الذي دفع السلطات الليبية إلى محاولة تهدئه الأجواء، فلم يمضِ سوى ساعات قليلة حتى أعلنت السلطات الليبية الإفراج عن المحامي "فتحي تربل"، كما وعدت السلطات الليبية بالإفراج عن 110 سجناء آخرين من معتقلي سجن "أبو سليم"، لكن محاولات السلطة كانت متأخرة، وباءت بالفشل في احتواء الأزمة، حيث كانت مدينة البيضاء دخلت على خط الاحتجاجات مع بنغازي، وسقط بها ما يقرب من ثلاثة قتلى؛ نتيجة اشتباكات بين الشرطة والمتظاهرين، وهنا تحولت الهتافات من إسقاط الحكومة إلى إسقاط "القذافي" شخصيًّا، وتم إعلان يوم 17 فبراير "يوم الغضب الليبي"، ووصلت الاحتجاجات حينها إلى سبع مدن، هي بنغازي والبيضاء وطبرق ودرنة وأجدابيا ونالوت والزاوية والزنتان ويفرن، وتطورت الأحداث، وتحولت المظاهرات من سلمية إلى عنيفة، حيث قام المتظاهرون بإحراق العديد من المباني الحكومية في مدن مختلفة، فيما تدخلت قوات الأمن الليبية مُطلقة الرصاص الحي لفض التظاهرات، وتراوحت إحصاءات أعداد القتلى من 11 إلى 49 قتيلًا موزعين بين مدن بنغازي والبيضاء وأجدابيا ودرنة. مع قدوم الجمعة 18 فبراير ارتفعت حدة الأزمة أكثر، ودخلت عناصر ومليشيات في صفوف المتظاهرين السلميين؛ ليقوموا بإحراق المنشآت وإعدام بعض رجال الأمن، وتحولت حينها المظاهرات السلمية إلى حرب شوارع وصراع مسلح، فيما كانت الكتائب التابعة للقذافي تواجه التظاهرات باستخدام الأسلحة النارية الثقيلة والقصف الجوي؛ في محاولة للسيطرة على الأوضاع التي انفلتت سريعًا من أيدي النظام، وحينها ضرب الانقسام السياسي والعسكري أوصال الدولة الليبية، حيث انضمت بعض القيادات والرتب العسكرية إلى صفوف المتظاهرين، وكان أبرزهم وزير الداخلية اللواء الركن "عبد الفتاح يونس العبيدي" الذي أعلن في 22 فبراير استقالته وانضمامه للثورة وسط توالي انشقاق كتائب من الجيش وانضمامها للثوار. التدخلات والمؤامرات تؤجج الأزمة بهذه الانقسامات والصراعات السياسية والعسكرية، أصبحت ليبيا أرضًا خصبه لتدخل قوى الفتنة وإلقاء المزيد من الحطب لإشعال النيران في الدولة وإسقاطها، حيث كانت هذه التطورات كفيلة كي تستغلها بعض القوى الإقليمية للبحث عن الزعامة المفقودة، وزرع أشواك الفتنة وانتهاز الفرص لتحقيق الأهداف، حيث كانت بداية التدخلات الدولية في 26 فبراير، عندما فرض مجلس الأمن عقوبات ضد النظام الليبي بضغوط أمريكية، بدأها بفرض حظر على الأسلحة وتجميد الأصول، كما أحال المجلس نظام القذافي إلى محكمة الجنايات الدولية للتحقيق في جرائم ضد الإنسانية، وبالتوازي مع تلك التحركات الدولية، قام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في 2 مارس بتعليق عضوية ليبيا، وتصاعد الموقف أكثر في 19 مارس، حيث بدأت القوات الفرنسية والبريطانية والأمريكية أولى عملياتها العسكرية في ليبيا، إذ قامت بإطلاق 110 صواريخ "توماهوك"من سفن حربية وغواصات، ضربت 20 هدفًا جويًّا ودفاعيًّا ليبيًّا، وبعد شهر من تلك الضربة دخل حلف شمال الأطلسي "الناتو" على الخط، حيث شنّ هجومًا بالصواريخ على منزل في طرابلس، أسفر عن مقتل الابن الأصغر للقذافي "سيف العرب" وثلاثة من أحفاده، وفي 27 يونيو أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال بحق القذافي ونجله الأكبر "سيف الإسلام" ورئيس المخابرات الليبية، وأكثر المقربين من الرئيس الليبي "عبد الله السنوسي"، لدورهم في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وقمع الثورة. في 17 مارس من العام نفسه تبنى مجلس الأمن الدولي قرارًا برقم 1973، يقضي بفرض حظر طيران فوق الأجواء الليبية عدا رحلات طائرات الإغاثة، واتخاذ كافة التدابير الضرورية الأخرى لحماية المدنيين من قصف القوات الموالية للعقيد معمر القذافي، وقد صوت على القرار الذي تبنته المملكة المتحدةوفرنسا والولايات المتحدة، 10 دول من الدول الأعضاء في المجلس، وامتنعت كل من روسيا والصين وألمانيا والبرازيل والهند عن التصويت، وحينها انتهزت الدول الاستعمارية الفرصه لتقسيم كعكة ليبيا، حيث أطلقت أمريكاوفرنسا وربريطانيا اسم "فجر أوديسا" على العمليات التي بدأت في 19 مارس. بمرور الوقت تزايدت الأطماع الأجنبية في خيرات ليبيا، حيث أحيا سقوط نظام "القذافي" أطماع الدول الاستعمارية القديمة للظفر بالنصيب الأكبر من ثروات الدولة خاصة النفطية منها، حيث تحتوي ليبيا على ثروات هائلة من النفط، وتقدر احتياطاتها بنحو 46.6 مليار برميل، وهي الأكبر في إفريقيا، الأمر الذي أدى إلى تعدد أطراف الصراع، وبات كل طرف يبحث عن نصيبه من الكعكة الليبية، فإيطاليا مثلًا راودتها أحلام الاستعمار القديمة، حيث تدخلت إيطاليا في الشأن الليبي سياسيًّا وعسكريًّا ومدنيًّا، فليبيا بالنسبة لإيطاليا مجال جوي حيوي خاص وأرض خصبة لا يجب أن يكثر حولها الطامعون، خاصة القوى الكبرى أمثال أمريكاوفرنسا وبريطانيا، كما أن ليبيا منطقة نفوذ استراتيجي بالنسبة لإيطاليا، فجغرافيًّا لا تفصل ليبيا عن إيطاليا إلا أمواج البحر المتوسط، وتاريخيًا كانت ليبيا أهم المستعمرات الإيطالية في إفريقيا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، إضافة إلى أنها بوابة لضمان نفوذ وموطئ قدم قوي في شمال إفريقيا، كما أن إيطاليا تأمل في الحصول على النصيب الأكبر من السوق الليبية وتأمين أسواق مستقبلية لإصلاح اقتصادها المتردي، الأمر الذي دفعها إلى البحث عن نفوذ فقدته في المنطقة من خلال الأراضي الليبية، لذلك فقد سعت إلى إبراز دورها في ليبيا سياسيًّا وعسكريًّا، في محاولة للحفاظ على مصالحها النفطية وضمان إدارة عملية مكافحة تهريب اللاجئين. الإمارات أيضًا دخلت على خط الأزمة كلاعب بارز في ليبيا، وذلك بدعمها قوى الثورة المضادة المدنية والعسكرية، وتؤكد العديد من التقارير أن دولة الإمارات شكلت منذ اللحظات الأولى للثورة الليبية فريقًا أمنيًّا عسكريًّا تمركز في ثلاثة مواقع، الأول اتخذ من إحدى الجزر الإيطالية قاعدة لانطلاق نشاطاته، والثاني على الحدود الليبية التونسية، فيما كان الموقع الثالث على الحدود التشادية الليبية، وفي أكتوبر عام 2016، نشرت مؤسسة البحوث العسكرية "جاينز" ومقرها لندن، تقريرًا يؤكد أن الإمارات أنشأت قاعدة عسكرية شرق ليبيا خلال الفترة من مارس إلى يونيو 2016، تنطلق منها طائرات هجومية من طراز "802 AT"، وأخرى بدون طيار من طراز "وينق – لوونق" لدعم قوات ما يسمى بعملية الكرامة التي يقودها حفتر، ونشرت صورًا ملتقطة بالأقمار الاصطناعية للقاعدة في 23 من يوليو من نفس السنة يظهر فيها تمركز طائرات حربية، ولفت التقرير حينها إلى أن القاعدة الإماراتية أنشئت في مطار الخادم على بعد نحو 100 كيلومتر من مدينة بنغازي، مشيرًا إلى أن هذا المطار كان قبل إنشاء القاعدة الإماراتية، مطارًا بسيطًا ببنية تحتية متواضعة. فرنسا أيضًا حاولت البحث عن دورها المفقود في إفريقيا من خلال إبراز وجودها في ليبيا، وكانت بداية عملية البحث في دفع أغلبية الدول إلى التصديق على قرار مجلس الأمن الدولي الخاص بحظر الطيران على ليبيا والتدخل هناك، وهو القرار الذي سمح لها بالقيام بالضربات الجوية الأولى ضد قوات معمر القذافي، فيما ظهرت محاولات باريس في اقتطاع قطعة من الكعكه الليبية لاحقًا، حيث برز الوجود العسكري الفرنسي في ليبيا، ونشر موقع "ميدل إيست آي" البريطاني، تسجيلات صوتية مُسربة، لمحادثات الخطوط الجوية في بنغازي شرقي ليبيا، كشفت عن دعم عسكري فرنسي وغربي للقوات الموالية لحفتر شرقي البلاد، بوجود غرفة عسكرية غربية بقيادة فرنسية هناك، رغم أن فرنسا تدعم بشكل مُعلن حكومة الوفاق الوطني الليبي التي كانت من مخرجات اتفاق الصخيرات المدعوم غربيًّا وأمميًّا. وفي 20 يوليو عام 2016، تم الكشف عن وجود عسكري فرنسي في ليبيا، رغم نفي فرنسي سابق نيتها التدخل العسكري المباشر هناك، حيث قال المتحدث باسم الحكومة الفرنسية "لي فول": نستطيع تأكيد وجود قوات خاصة فرنسية في ليبيا للمشاركة في محاربة من وصفهم ب"الإرهابيين"، حيث سعت فرنسا إلى ضمان موطئ قدم لها في ليبيا وإعادة الدور الفرنسي في المنطقة للإمساك من جديد بزمام شمال إفريقيا. أمريكا أيضًا لم تترك فرصه كهذه إلا واستغلتها، حيث بحثت واشنطن بكل جهدها عن طريقة لتقسيم ليبيا على غرار ما كانت تخطط له في سوريا والعراق، وهو ما أكدته صحيفة "جارديان" البريطانية في العام الماضي، إذ قالت إن مسؤولًا أمريكيًّا عرض خريطة لتقسيم ليبيا على ثلاث دول على أساس أقاليمها الثلاثة القديمة، مرسومةً على منديل، طرابلس في الغرب، وبرقة في الشرق، وفزان في الجنوب، وكشف التقرير البريطاني عن أن مسؤولًا كبيرًا في البيت الأبيض مُكلف بالسياسة الخارجية، رسم أمام دبلوماسي أوروبي خريطة لتقسيم ليبيا. المشهد الآن.. الإرهاب يحكم تعيش ليبيا انقسامًا سياسيًّا كبيرًا بات يضرب بجذوره في عمق أراضيها، فمنذ الإطاحة بنظام "القذافي" تُدار ليبيا بثلاث حكومات منفصلة، واحدة في الشرق يقودها "عبد الله الثني"، في حين تدار العاصمة طرابلس بحكومتين هما حكومة الوفاق الوطني برئاسة "فايز السراج" المدعومة دوليًّا، وحكومة الإنقاذ الوطني التي يقودها "خليفة الغويل"، بعد فشل اتفاق الصخيرات الموقع نهاية عام 2015 في إحلال السلام في البلاد، كما باتت تسيطر عليها عصابات تهريب النفط والبشر، ناهيك عن الميليشيات العسكرية المتعددة التي تقتطع كل منها جزءًا من الأراضي الليبية تحت مسميات مختلفة، حيث تسيطر قوات اللواء "خليفة حفتر" على معظم إقليم برقة، بينما يسيطر تحالف لكتائب الغرب الليبي وعلى رأسها كتائب مصراتة على معظم أجزاء إقليمي طرابلس وفزان. أضف إلى ذلك أن الاضطرابات السياسية التي عصفت بالبلاد لمدة سبع سنوات، كانت كفيلة بضرب الاقتصاد الليبي في مقتل، حيث بات على شفا الانهيار، وهو ما أعلنه وزير المالية المفوض بحكومة الوفاق، أسامة حماد، قبل أشهر، حيث حذر من ارتفاع معدلات التضخم في ليبيا وحالة التعثر الاقتصادي الذي تعاني منه البلاد، فيما حذر المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى ليبيا، غسان سلامة، من أن ليبيا ستفلس في غضون 18 شهرًا، وعلى الرغم من مرور سبع سنوات على الصراع الليبي وتعدد المحاولات الأممية في إنهائه، إلا أن الحل السياسي لا يزال بعيد المنال.