في تصريحاته أمس، أبدى الرئيس الإيراني حسن روحاني، رغبة إيرانية حقيقية في الحفاظ على الانتصار التاريخي بالاتفاق الذي توصلت إليه طهران مع مجموعة 5+1 حول برنامجها النووي، وأعلن الرئيس الإيراني أن بلاده سترفض "إعادة التفاوض" على الاتفاق النووي الذي تم التوصل إليه مع القوى الكبرى في تموز 2015، في حال طلب الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب ذلك. وبلغة الواثق، دافعت طهران، عن برنامجها النووي ضد هجمات ترامب، فهي لم تكتف برفض إعادة فتح ملف التفاوض حول الملف النووي، بل اعترضت أيضًا على دعوة روسية لترامب لحضور مفاوضات الأستانة السورية، وهو الأمر الذي قد ينذر بمزيد من التوترات بين إيران والإدارة الأمريكية الجديدة على غرار الإدارة السابقة بقيادة أوباما، الذي تجاهل العديد من النقاط المتفق عليها مع إيران في الاتفاق النووي. لمحة عن النشاط النووي الإيراني كانت أمريكا في أوائل السبعينيات هي السبّاقة بتزويد إيران بالطاقة الكهرونووية أيام تحالفها مع الشاه، فأعطت بلاده مفاعلا للأبحاث تم الانتهاء من تشييده وتشغيله عام 1967. وعرضت أمريكا على إيران بناء ما بين خمسة وسبعة مفاعلات كهرونووية، لكن الكلفة العالية للمفاعلات الأميركية جعلت الشاه يفضل عرض الشركة الألمانية، فكلّفها بالبدء في بناء مفاعلين كهرونوويين في مدينة بوشهر، وبدأ العمل فيهما عام 1974. وبعدما اندلعت الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979، بدأت إيران بأخذ مواقف معادية لأمريكا فتغيرت نظرة الامتيازات النووية الأمريكيةلإيران، فتوقف الألمان عن إكمال بناء مفاعليْ بوشهر الذي كان قد أنجز منه نسبة 85% عام 1981، وتباطأ العمل فيهما بعد استتباب الثورة الإيرانية إلى أن تصاعدت حدة القتال أثناء الحرب العراقيةالإيرانية فقام العراق بقصف المفاعلين عام 1987. بحثت إيران عن بلد يكمل لها ما بدأه الخبراء الألمان، وبما أن الثورة الإسلامية حملت أفكار تحررية ضد الاستكبار العالمي تناهض الغرب وخاصة الولاياتالمتحدة والكيان الصهيوني، فإنه لم تقبل أي دولة غربية أن تقوم بإكمال المشروع النووي الإيراني، إلا الاتحاد السوفييتي السابق الذي كان يرى في إيران حليفا جديدا، وتمكنت طهران من التعاقد معه عام 1995 على تحوير المفاعلين الألمانيين المدمرين إلى النوع المعتمد في الاتحاد السوفييتي. الجهود الإيرانية لحيازة التقنية النووية جوبهت بعراقيل عدة سياسية واقتصادية وأمنية، فواشنطن دأبت منذ مطلع الألفية الثالثة على انتقاد النظام الإيراني متهمة إياه بالسعي لحيازة السلاح النووي. وفي عام 2002 كُشف عن برنامج إيران النووي للمرة الأولى على العلن، عندما كشف تنظيم معارض عن نشاطات سرية تشمل إقامة مفاعل لتخصيب اليورانيوم في نطنز ومنشأة للمياه الثقيلة في أراك، لكن بعد فوز محمود أحمدي نجاد في انتخابات الرئاسة عام 2005 جمّد كلّ تقدّم في المحادثات، ووجّهت الوكالة الدولية القضية لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وتعقد المشهد التفاوضي لاحقًا بعد إعلان إيران في أغسطس استئناف تخصيب اليورانيوم عام 2005، وصولا إلى إعلان طهران في أبريل 2006 نجاحها في عمليات التخصيب بنسبة 3.5% الصالحة لأغراض سلمية. بعدها فرضت الأممالمتحدة عقوبات موسعة على إيران، حيث يفوض قرار مجلس الأمن رقم 1737 الصادر في ديسمبر 2006 كل الدول الاعضاء في الأممالمتحدة "لمنع إمدادات وبيع أو نقل كل المواد والمعدات والبضائع والتكنولوجيا التي يمكن أن تساهم في الأنشطة المتعلقة بالتخصيب أو المياه الثقيلة". في مارس 2007 أصدر المجلس القرار رقم 1747 بهدف زيادة الضغط على إيران بشأن برنامجها النووي وبرنامجها الصاروخي وذلك بمنع التعامل مع البنك الإيراني الحكومي (سيباه) و28 شخصًا ومنظمة أخرى ومعظمها مرتبط بالحرس الثوري الإيراني، ونصت قرارات مجلس الامن كذلك على منع واردات الأسلحة إلى إيران وتقييد القروض الممنوحة لها. الاتفاق النووي في يوم السبت 15 يناير 2016 دخل الاتفاق النووي الموقع بين إيران والدول الكبرى حيز التنفيذ، ليبدأ بالتبعية رفع العقوبات الاقتصادية التي كانت قد فرضت على طهران منذ العام 1979، حيث رفعت الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي العقوبات المفروضة على إيران مقابل التزامها بتطبيق الاتفاق النووي الذي توصلت إليه طهران مع مجموعة (5+1) في يوليو 2015 والذي تضمن: يمكن استخدام إيران اليورانيوم منخفض التخصيب الذي يحتوي على نسبة تركيز من يورانيوم U235تتراوح بين 3 و4 في المائة، لإنتاج الوقود لمحطات الطاقة النووية. وفقا لاتفاق "خطة العمل المشترك الشاملة" ستلتزم إيران بتركيب ما لا يزيد عن 5060 جهازا للطرد المركزي الأقدم والأقل كفاءة في "نطنز" لمدة 10 سنوات، علمًا بأن إيران كانت تمتلك نحو 20 ألف جهاز للطرد المركزي في يوليو عام 2015. وستخفض إيران أيضا مخزونها من اليورانيوم بنحو 98 في المائة إلى 300 كيلوغرام لمدة 15 عاما، ويجب عليها أيضا الالتزام بمستوى تخصيب 3.67 في المائة. أنشطة البحث والتطوير ستجرى فقط في "نطنز" ولمدة 8 سنوات فقط، ولن يسمح لإيران بالتخصيب في "فوردو" لمدة 15 عاما، وستنتج أجهزة الطرد في "فوردو" البالغ عددها 1044 جهازا للنظائر المشعة لاستخدامها في أبحاث الطب والزراعة والصناعة والعلوم. كما ينص اتفاق "خطة العمل المشترك الشاملة" على عدم السماح لإيران ببناء مفاعلات إضافية بالماء الثقيل أو تخزين أي كميات إضافية من الماء الثقيل لمدة 15 عاما وستبيع الفائض في الأسواق الدولية. أعداء الاتفاقية عارض الاتفاق بشدة كل من الكيان الصهيوني والسعودية، فرئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، قال إن "اتفاقية تقوم على اتفاق إطاري كهذا تهدد وجود إسرائيل"، وبالنسبة للسعودية فقد أكدت أن الاتفاق سيزيد من نفوذ إيران في المنطقة، خاصة في ظل احتدام الصراع بين الرياضوطهران في ملف سوريا والبحرين واليمن. مكاسب إيرانية في مقابل التزامات إيران ببنود الاتفاق تتعهد الأطراف الأخرى برفع كافة العقوبات عن إيران بما فيها العقوبات المفروضة من الأممالمتحدة وبشكل مواز مع تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وتتعهد الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد الأوروبي بعدم فرض أي حظر جديد على إيران، وتتعهد كافة الأطراف باحترام نصوص الاتفاق وعدم الإقدام على أي خطوة تسيء للاتفاق وأهدافه. اعتبر المسؤولون الإيرانيون الاتفاق النووي حدثا مهما للغاية، حيث تمكنت إيران من الموافقة على استعادة 120 مليار دولارا كانت محجوزة بفعل العقوبات الاقتصادية، إلى خزينتها ومعالجة اقتصادها المتدهور، حيث جاء الاتفاق في الوقت المناسب في ظل انخفاض أسعار النفط، كما أن الاتفاق أدى إلى زيادة صادرات النفط الإيراني بنسبة ثلاثة أضعاف. كما توجهت المصالح الأوروبية إلى مغازلة الإيرانيين ومؤسساته الاقتصادية وتوجه العديد من الوفود الاقتصادية والحكومية الأوروبية كإيطاليا وفرنساوبريطانيا إلى طهران أو من خلال الاتصالات السياسية المباشرة والهاتفية لبدء صفحات جديدة من العلاقة الأوروبية مع إيران ودعوتها للمجتمع الدولي، وهو الأمر الذي انعكس في الزيارة التي قام بها الرئيس الإيراني إلى فرنسا وإيطاليا مطلع العام الماضي، وليس هذا فحسب فالاتفاق النووي عزز العلاقات الإيرانية مع الكثير من الدول كالهند. مستقبل الاتفاق النووي ينشغل مستشارو العلاقات الخارجية في فريق ترامب، ومنذ اليوم الأول لتشكيله، بإعداد السيناريوهات لكيفية التعامل مع الاتفاق النووي، فبعضهم يجتهد بأنه يمكن الإبقاء على الاتفاق مع تشديد العقوبات على طهران، والبعض الآخر الأكثر تشدّدا يرى في الاتفاق ضعفا شديدا واستسهالا بدور أمريكا وموقفها المناهض للسياسات الإيرانية، ويطالب بإلغائه وإعادة مناقشته. وقال ترامب، في مقابلتين نشرتهما صحيفتا بيلد الألمانية وتايمز البريطانية، أول أمس، إن الاتفاق النووي "من أسوأ الاتفاقات التي أبرمت حتى الآن" و"من أكثرها حماقة"، رافضا أن يؤكد ما إذا كان يعتزم إلغاءه. ولكن لا يبدو الأمر بهذه السهولة بالنسبة للموقف الأمريكي من الاتفاق النووي، فطهران متمسكة بالاتفاق كونه وثيقة دولية لا يسهل العبث بها، بالإضافة إلى أن الموقف الأوروبي الذي كان راعيًا للاتفاقية لا يشاطر الموقف الأمريكي الرأي، حيث أعلنت ممثلة الاتحاد الأوروبي العليا للأمن والسياسة الخارجية، فيديريكا موغيريني، الاثنين الماضي في بروكسل، أن الاتحاد الأوروبي سيلتزم بالاتفاق النووي الإيراني، واصفة إياه ب"البالغ الأهمية"، خصوصا لأمن القارة، وهو الموقف ذاته الذي عبرت عنه بريطانيا، حيث أعلن وزير خارجية بريطانيا بوريس جونسون، أن بلاده عازمة على مواصلة العمل بالاتفاق النووي الإيراني، مؤكدا أنه "ذو فائدة كبرى" كونه يمنع طهران من امتلاك السلاح النووي. وقالت هيلجا اشميد، الأمين العام لإدارة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي في بروكسل عن الاتفاق الذي توسط فيه الاتحاد بين إيرانوالولاياتالمتحدةوفرنسا وألمانيا وبريطانيا وروسيا والصين "يوجد سوء فهم بأنكم يمكنكم إعادة التفاوض على هذا الاتفاق. هذا لا يمكن عمله"، في إشارة لترامب. وعلى الرغم من أن طهران تنفذ التزاماتها النووية، حيث خفضت مخزونها من اليورانيوم بنسبة 98% وأزالت ثلثي أجهزة الطرد المركزي التي تملكها، إلا أن الولاياتالمتحدة مازالت تماطل بتنفيذ بعض بنود الاتفاق الخاصة برفع العقوبات الاقتصادية، وقد أكدت بعض التقارير أنه وبعد تخفيف العقوبات الاقتصادية التي نص عليها الاتفاق، لا تزال إيران وبسبب الشكوك والقرارات الأمريكية تعاني من مشكلات كبيرة، بسبب عزوف وخوف الشركات الكبرى من الاستثمار في إيران، يضاف إلى ذلك استمرار حجز وتجميد الأرصدة الإيرانية بسبب استمرار العقوبات الأمريكية وتهديد الكونجرس بمنع وصول إيران إلى النظام المالي الأمريكي، والتي تعتبر وسيلة للتحايل على تخفيف العقوبات، وهو الأمر الذي قد يهدد هذا الاتفاق.