يتناول الكثيرون الهوية المصرية من منظور العلم والتاريخ وسطور الكلمة، ولا يدركون أن تلك الهوية هى موروث جيناتى يسلمه جيل لآخر، فمفهوم الهوية عند الكثيرين هو آثار الحضارة المصرية المتواجدة فى كل مكان بأرض مصر، كل ذلك ليس صحيحًا، فالهوية هى الموروث الحياتى الثقافى الفلكلورى الذى يستلمه الأبناء من الآباء والأجداد، ويتم تسليمه للأحفاد، وهو نمط معيشى فى المأكل والملبس والتعاملات والسكن والعمل والسلوكيات، وهذا ما جعل الشخصية المصرية متفردة عن باقى الأجناس البشرية، لأن لها جذورًا وعمقًا تاريخيًا يخترق جدار بداية التاريخ. وأمى التى رحلت إلى السماء منذ أيام، كانت رسولًا حيًا للهوية المصرية، تعايشت معه بالجسد والروح لمدة خمسين عامًا، واستلمت منها تلك الهوية لكى أسلمها لأولادى وأحفادي، كانت البداية هو ثدى حنانها الذى ترعرعت فيه، وعند النطق بأول حروف الكلمات كانت كلمة أمي، التى كانت تصطحبنى فى كل زيارتها للأهل والأقارب والأحباب وانأ طفل صغير، هنا موروث الترابط الاجتماعى والإنسانى الذى استلمته أمى من آبائها وأجدادها، وسلمته لى كتابًا مقدسًا حيًا، فالخال هو الوالد والخالة هى آلام والعم هو الأب والأخ هو السند والأخت هى الحنان والجيران هم الأقارب هكذا تعلمت من أمى المعنى الحقيقى للمحبة والتسامح والإخاء. امسكت يدى ومعها القلم الرصاص لكى تعلمنى أن اكتب أول حروف الكلمات، لا تنزل عن السطر يا بنى وكأنها تعلمنى استقامة الخط والأخلاق، وفى حضن الكنيسة كانت تصطحبنى لتعلمنى الصلاة والألحان وتقول لى هنا المسيح العطاء والشبع لكل جعان. أمام فرن الخبيز الصعيدى تجتمع نساء الأقارب والجيران ليشتركوا فى يوم الخبيز، يوم غير عادى يوم فرح تقريبًا، وفى أثناء ذلك ترسل أمى العيش البتاو السخن إلى الأقارب والجيران وربما معه طاجن البطاطس أو البدنجان، ولا انسى فتة عيش البتاو بالسمن البلدى أو الفطير الرقاق، هكذا كانت تفعل كل السيدات فى ذلك الزمان. وعلى طبلية كبيرة كانت تجمع كل أفراد المنزل ومعهم أولاد العمومة والخالة، لتغذينا من فيض خيراتها، وتروينا من نبع حنانها، لم يكن الغذاء أكلًا بل أحضان محبة وودًا وتسامحًا، وفى المحبة يحدث الانصهار ما بين أخيك وابن عمتك وابن خالتك وكل أطفال الجيران.، هكذا هى الهوية المصرية المحبة التسامح التلاحم التماسك الوحدة . وفى المجلس عند الكبار أنصت للأحاديث واحترم وأحب الكبير وكل الحضور، أراها مثقفة قوية فى الكلمة والتعبير، صوتها حاضر فى كل الأحاديث وحكمتها تعطيها الصدارة والقيادة فى كل ما يطرح من موضوعات، كانت المثل والقدوة، لأنها لم تكن امرأة بالمعنى التقليدي، بل كانت قائدة ثائرة مناضلة عظيمة ضد كل الظروف والأوضاع، لم تستلم يومًا ما لعنف الزمان أو قسوة الأيام، وهكذا استلمت منها حياة النضال والانتصار فى كل المعارك. وفى اخر النهار كنت أراها تقف وترفع يدها للسماء ليس لكى تطلب، بل لتشكر على كل حال ومن أجل كل حال، كنت أسمعها تشكر الله على الصحة وعلى الستر، وتصلى من اجل كل تعبان ومريض ومحتاج، كانت هكذا طول فترة حياتها، لديها ثقة ويقين فى صلواتها مهما تأخر طلبها، كانت غنية بالإيمان وعند تقدمها فى الأيام كنت اطلب منها، أن لا تصوم من اجل قسوة طعام الصيام على صحتها، فكانت ترفض وتنتهرنى بقوة وتقول كيف أفطر فى الصيام المقدس؟ هكذا استلمت منها الإيمان. وفى مناسبات وأعياد أخواتى المسلمين أراها تذهب إليهم فى المنازل لتزورهم، وتقدم لهم الواجب والتهانى وتطلب منى ألا أنسى أحدًا من الجيران لكى أهنئه، نعم رحلت الهوية المصرية أمى الذى أرضعتنى مصريتي، إنها كانت حقًا حفيدة أجدادى عظماء التاريخ إنها حقا كليوباترا وحتشبسوت فى شموخها وعظمتها وقناعتها وحكمتها وصبرها ونضالها وقوتها وحكمتها. شارفنا أنا وأخواتى العقد الرابع والخامس من أعمارنا، لكن كنا عندها كأطفال تهتم بشئوننا واحتياجاتنا ومتطلباتنا وتعطينا النصيحة والرشد، كانت شمعة تحترق من أجل أن تضئ لنا الطريق. كم كانت عظيمة كعظمة مجد مصر فى الماضى، رحلت أمى بالجسد ولكن سوف تعيش معى بالهوية، وكل ما استلمته منها لكى استكمل طريق نضالها واسلم ما استلمته إلى أولادى وأحفادى وكل من حولى، شكرا أمى وأتعهد أمام الله وروحك سأكون كما تطلبين منى وتتمنين لي.