هى دائمًا الحاضرة بقوة وبعمق فى حياتى وفى حكاياتى وذكرياتى وفى أحلامى أيضًا. وكلما التقيت مع أى من شقيقاتى الثلاث «أليس وظوفيج وسيران» الأكبر منى أو مع شقيقى الوحيد «هاجوب» الأصغر منى أو عندما أتواصل معهم عبر الهاتف أو غيره تأتى سيرة ماما بشكل أو آخر. فاكرين لما كانت تقول كذا.. فاكرين لما كانت تعمل كذا. اسمها كانت روزيت ديكران مرزيان. كانت ماما ربة البيت ومعلمة أفراد الأسرة وكل شيء فى حياتنا وفى مملكتها القائمة فى شبرا. فى تلك الشقة فى 35 شارع الترعة البولاقية والتى شهدت حياتنا ودفء أسرتنا وحنان ماما وطفولتنا وأحلام الصبا والشباب. هى بالنسبة لى كانت ومازالت المرأة العظيمة التى لم تتح لها الظروف أن تكمل تعليمها بعد الابتدائية، إلا أنها أرادت واستطاعت أن تعلم نفسها أكثر وأكثر بأكثر من لغة وأن تقرأ بنهم وبرغبة فى المعرفة وأن تعمل كل ما فى وسعها لكى تمكن ولادها من أن يتعلموا ويذهبوا إلى الجامعات. وكنت أراها دائمًا تبتسم برضا وامتنان شاكرة الرب الكريم لأنها استطاعت أن تحقق من خلال أولادها ما حلُمت به وتمنت أن تحققه فى يوم من الأيام هى كانت الملكة والشغالة فى خلية أسرتنا.هى تتسوق احتياجات البيت وهى التى تدبر اقتصاديات الأسرة وهى التى تدير شئون 7 أفراد هم الأب وثلاث بنات وولدان. ثم تطبخ الأكل وتنظف البيت وتغسل وتكوى هدومنا وتسمع مسلسل الراديو وتتابع مذاكرتنا وواجباتنا المدرسية. وتعمل الحلويات والمربات وتمضى ساعات على ماكينة الخياطة وأيضا ترحب بقدوم الأقارب وزياراتهم المفاجئة. وبالطبع الحريصة على أن نجلس معا فى العشاء على الأقل لنشاطر معا الأكل والحديث العائلى. ماما «مايريج باللغة الأرمنية» حرصت بشدة على أن تعلمنا الأرمنية ليس فقط كلغة قراءة وكتابة بجانب ما نتعلمه فى المدرسة كالوسديان الأرمنية بشارع الجلاء بل على أن تعلمنا الأرمنية كأسلوب حياة وكثقافة وكدفقة حياة وإرادة بقاء وكطريقة للتعامل مع تفاصيل الحياة اليومية. نعم، الأرمنية كإرث إنسانى تاريخى ممتد عبر القرون بحلوه ومره. أرضعتنا الأرمنية يوميا بجرعات مختلفة حسبما رأت حاجتنا إليها، ولم تفكر أبدا فى أن تفطمنا عنها. إحساس الأم بقه وعمره ما يخيب. لقد خلقت من شقة أسرتنا الصغيرة بشبرا أرمينيا صغيرة. أمى كانت دائما على علاقة طيبة مع كل الجيران فى العمارة. لا تنسى من حين لحين أن تطلب منى أو أخى أن نذهب إلى الجيران بالحلويات اللى هى عملتها بيديها. المشاطرة كانت جزءا من شخصيتها. فى فرحتها تريد أن تتواصل مع الآخرين لكى يفرحوا هم كمان وفى حزن الآخرين كانت تقول وتصمم لازم نروح لهم علشان نشيل معاهم حزنهم. تعلمت منها الكثير.. أن تعرف قيمة ما عندك أو ما تملكه مهما كان صغيرا وأن تقدر هذه القيمة وتعتز بها. وليه لا فى يوم من الأيام ممكن كمان تفتخر بها. أن تصل إلى القناعة وروح الاحتفاء بما لديك وأن تشارك مع الآخرين ما لديك. هى بالنسبة لى كانت الإرادة والعزيمة والإصرار على إنجاز المطلوب وعدم الاستسلام لليأس وقلة الحيلة. وطبعا لا يمكن الدلع بادعاء الكآبة. على فكرة عباراتها بهذه المفاهيم أحيانا ترن فى أذنى رغم مرور سنين طويلة. هى كانت الرغبة فى التحدى وتجاوز الصعاب مهما كانت. هى كانت تقول شد حيلك وأنا عارفة ومتأكدة كمان أنك ممكن تنجح وتنجح بتفوق وليه التخاذل ده؟!. هو إنت نسيت نفسك ولا إيه. هى كانت الحنية والرحرحة فى الكلام والطبطبة والشعور بالأمان فى الأزمات. هى كانت عارفة أنا عايز أو محتاج إيه بالضبط قبل ما أنطق بكلمة.. هى الصبورة واللى تعلمك تصبر إزاى.. وتخفف من حمل الأيام.. شدة وحتزول أكيد. هى كانت الفرحة الصادقة والحضن الدافئ والنظرة اللى تخليك تحس إنها أيوه فاهماك وبتحبك بلا شروط ويوم ما تفتكر هذه النظرة «تتذكرها فلاش باك» عيناك تدمع ولسانك يعجز عن وصف قوة وسحر وجاذبية هذه النظرة.. نظرة الأم وهى بتقول لك بنظرة واحدة إنت عارف أنا عايزة أقولك إيه!! وماما موجودة وبألتقى بها دائما.. فى الأماكن اللى زرناها معا. فى الحكايات اللى سمعتها لأول مرة منها.. فى الكتاب اللى قلبنا صفحاته معا. فى الأغنية اللى غنتها لى وهى عايزانى أنام علشان أقدر أصحى الصبح وأروح المدرسة بنشاط وهمة. هى الحدوتة التى كانت بتتكرر وكمان بتتغير وهى نبع للسرد الآسر والحكى المتنوع.. غالبا كنت عارف الحكاية ولكن هى وبتحكى كانت بتتفنن وتسرح وتضيف وتغزل وبتدينى أجنحة بأطير بها بعيد وفى كل الأحوال هى كانت ساحرة ومبهرة بتلعب بخيالى وبتثرى قاموس كلماتى وبتخلينى أحس إنى ممكن فى يوم من الأيام أحكى ميت حكاية بميت طريقة أسرح بها زى ما أنا عايز.. أنا وشطارتى! عندما رحلت ماما عنا فى 20 سبتمبر 2006 وهى فى ال85 من عمرها تذكرت كيف كانت تكرر القول «أينما كانت» أريد أن أرحل بهدوء وبدون أن أسبب أى إزعاج لأى واحد منكم يا أولادى وأنا مطمنة عليكم وسعيدة بكم وبأحفادى أيضا..هكذا كان فراقنا وهكذا ظلت ذكراها حية معى.. هكذا أتذكر أمى وهكذا أتحدث وأكتب عنها.•