كتبت: د. ليلى عبدالمجيد أمى سيدة مصرية صابرة مضحية.. حياتها عطاء.. وتد أسرتها، والحضن الذى ضمنا دومًا فى بيت العيلة.. تتمتع بخصوصية ترتبط بأسلوب نشأتها ومسيرة حياتها. أمى «رجاء» كان لها من اسمها الكثير، تركت بيت أسرتها فى الإسكندرية طفلة فى السادسة عشرة، لتبدأ حياة جديدة فى القاهرة، تتحمل فيها مسئولية أسرة جديدة، محظوظة بزوج حنون متفهم أحبها وأحبته، وارتبطا حتى تشابها فى ملامحهما وفى الاهتمامات المشتركة. لم تكن مجرد أم، بل أخت وصديقة لابنتها الكبرى، أنا، فأوكلت لي مهمة مساعدتها فى رعاية إخوتى، كان يبهرنى صلابتها وقوتها وقدرتها على إدارة أمور الأسرة بعقل وحكمة، فى بيت يحطيه الحب والتفاهم، لم أر يومًا مشاجرة بينها وبين أبي- رغم أنه بالتأكيد كان يحدث بعض الاختلاف- ولكنهما حرصا على أن نظل بعيدين، ورغم صغرسنها لم تترك بيتها يومًا غاضبة! أمى وأبى حرصا دومًا أن يكون بيتنا مفتوحًا بالدفء والدعم لكل العائلة، الأعمام والعمات والخالات وأولادهم والجيران والأصدقاء والمعارف، فى أى وقت يدق بابنا أحدهم تقدم الطعام، ومعه حلو الحديث، وكانت تتمتع بحاسة سادسة، قادرة على فهم أغوار أى شخصية تتعامل معها. وكانت تتمتع بذوق فنى رفيع، ترجمته فيما صنعته لنا بيديها من فساتين طيلة طفولتنا، حتى فستان زفافي، قامت بنفسها بخياطته وتطريزه وكان رائعًا مبهرًا، كانت تملك قدرة خرافية على القص والحكى، معها لا تشعر بالملل أبدًا. ورغم رقتها وحنانها، كانت قوية صاحبة قرار، ونحن صغار كنا كثيرًا ما نذهب إلى بابا لنطلب موافقته على أمر معين، فيحيلنا إليها ويرهن موافقته بموافقتها. قليلاً ما اختلفنا أنا وهى.. إلا فى أمر واحد، إذ كانت تلح علىّ منذ تخرجت في الجامعة أن أتزوج، وكنت أخطط لاستكمال دراستى العليا، وهى كأم تريد أن ترانى عروسة سعيدة فى حياتها وتمر السنوات وأرانى مثلها أحلم بأن تتزوج ابنتى، أخيرًا يا أمى الحبيبة أدركت حقيقة مشاعرك، وأصبحت مثلك أتمنى أن أرى بنتى «عروسة» وأرى أحفادى وأستمتع معهم بحياة جديدة ممتدة. «ماما» كانت قادرة على التواصل مع أحفادها، وكانوا أصدقاء حقيقيين لها، ولكل منهم ذكريات كثيرة معها، وتعلموا منها أشياء. كثيرة، كنت أحيانًا أطلب منها أن تتوقف عن التضحية بما تحب من أجلنا، ولكنها كانت ترى سعادتها الحقيقية فى سعادتنا، وهكذا دارت الأيام لأجدنى فى نفس موقفها. رحلت أمى، غاب الجسد فقط، ولكنها معى فى كل لحظة، أستعيد أسلوبها الحكيم فى إدارة شئون الحياة التى لم تكن سهلة حينما تواجهنى مواقف مشابهة، أرى روح أمى فى كل أخت من أخواتى، النعومة والأنوثة والتمسك بالاحتفاء تقليديًا بالمواسم والمناسبات المختلفة عند «عزة»، الصلابة والاعتداد بالرأى أحيانًا عند «لبنى» الطيبة والحنان عند «عبلة» المهارة والشطارة فى إدارة الأمور لدى «حنان»، أصغر أخواتى وأقربهن إلى أسلوب أمى فى طهى أحلى الأكلات! حبيبتى ماما الآن كثيرًا ما أنظر فى المرآة فأرانى أرى وجهك الجميل الذى يشع حبًا وحنانًا، الذى ظل رغم كل سنوات عمرك نضرًا صبوحًا يعكس ما بداخلك من نقاء وصدق وشفافية، عرفت أخيرًا كما أنا أشبهك!•