أقل من شهر.. جدول امتحانات الشهادة الإعدادية 2024 بمحافظتي القاهرة والجيزة    حى شرق أسيوط يزيل التعديات على مرسى نهر النيل ب«الدوان تاون»    من 8 ل12 ساعة.. قطع المياه عن عدة مناطق بمحافظة الدقهلية مساء السبت المقبل (تفاصيل)    الأسهم الأوروبية تنخفض عند الإغلاق مع استيعاب المستثمرين للأرباح الجديدة    بوتين يعلن اعتزامه زيارة الصين الشهر المقبل    الأهلي يختتم استعداداته لمباراة مازيمبي الكونغولي    موقف ثلاثي بايرن ميونخ من مواجهة ريال مدريد في دوري أبطال أوروبا    مباحث الفيوم تلقي القبض على المتهمين بإشعال النيران في فتاة بسبب خلافات الجيرة    طرح البوستر الرسمي لفيلم السرب    مسرح فوزي فوزي بأسوان يشهد احتفالات ذكرى تحرير سيناء    هالة صدقي: «صلاح السعدني أنقى قلب تعاملت معه في الوسط الفني»    تخصيص غرف بالمستشفيات ل«الإجهاد الحراري» في سوهاج تزامنًا مع ارتفاع درجات الحرارة    عضو بالشيوخ: ذكرى تحرير سيناء تمثل ملحمة الفداء والإصرار لاستعادة الأرض    بفستان أبيض في أسود.. منى زكي بإطلالة جذابة في أحدث ظهور لها    بالفيديو.. ما الحكم الشرعي حول الأحلام؟.. خالد الجندي يجيب    لماذا حذرت المديريات التعليمية والمدارس من حيازة المحمول أثناء الامتحانات؟    وزارة التموين تمنح علاوة 300 جنيها لمزارعى البنجر عن شهرى مارس وأبريل    فيديو.. مسئول بالزراعة: نعمل حاليا على نطاق بحثي لزراعة البن    الجيش الأردني ينفذ 6 إنزالات لمساعدات على شمال غزة    الكرملين حول الإمداد السري للصواريخ الأمريكية لكييف: تأكيد على تورط واشنطن في الصراع    أنطونوف يصف الاتهامات الأمريكية لروسيا حول الأسلحة النووية بالاستفزازية    "أنا مشجع كبير".. تشافي يكشف أسباب استمراره مع برشلونة    عامل يتهم 3 أطفال باستدراج نجله والاعتداء عليه جنسيا في الدقهلية    الأهلى يخسر أمام بترو الأنجولي فى نصف نهائى الكؤوس الأفريقية لسيدات اليد    المغرب يستنكر بشدة ويشجب اقتحام متطرفين باحات المسجد الأقصى    تشكيل الزمالك المتوقع أمام دريمز الغاني بعد عودة زيزو وفتوح    يمنحهم الطاقة والنشاط.. 3 أبراج تعشق فصل الصيف    في اليوم العالمي للملاريا.. أعراض تؤكد إصابتك بالمرض (تحرك فورًا)    6 نصائح لوقاية طفلك من حمو النيل.. أبرزها ارتداء ملابس قطنية فضفاضة    سبب غياب حارس الزمالك عن موقعة دريمز الغاني بالكونفيدرالية    استجابة لشكاوى المواطنين.. حملة مكبرة لمنع الإشغالات وتحرير5 محاضر و18حالة إزالة بالبساتين    دعاء يوم الجمعة.. ساعة استجابة تنال فيها رضا الله    تشيلي تستضيف الألعاب العالمية الصيفية 2027 السابعة عشر للأولمبياد الخاص بمشاركة 170 دولة من بينهم مصر    بيان مشترك.. أمريكا و17 دولة تدعو حماس للإفراج عن جميع الرهائن مقابل وقف الحرب    دعاء الاستخارة بدون صلاة .. يجوز للمرأة الحائض في هذه الحالات    مدرب صن دوانز: الفشل في دوري الأبطال؟!.. جوارديولا فاز مرة في 12 عاما!    مصادرة 569 كيلو لحوم ودواجن وأسماك مدخنة مجهولة المصدر بالغربية    إصابة سيدة وأبنائها في حادث انقلاب سيارة ملاكي بالدقهلية    جامعة حلوان توقع مذكرتي تفاهم مع جامعة الجلفة الجزائرية    رد فعل غير متوقع من منة تيسير إذا تبدل ابنها مع أسرة آخرى.. فيديو    تحرير 498 مخالفة مرورية لردع قائدي السيارات والمركبات بالغربية    طريقة عمل مافن الشوكولاتة بمكونات بسيطة.. «حلوى سريعة لأطفالك»    ضبط عامل بتهمة إطلاق أعيرة نارية لترويع المواطنين في الخصوص    محافظ كفر الشيخ يتابع أعمال تطوير منظومة الإنارة العامة في الرياض وبلطيم    "ميناء العريش": رصيف "تحيا مصر" طوله 1000 متر وجاهز لاستقبال السفن بحمولة 50 طن    أمين الفتوى لزوجة: اطلقى لو زوجك لم يبطل مخدرات    مشايخ سيناء في عيد تحريرها: نقف خلف القيادة السياسية لحفظ أمن مصر    مستقبل وطن: تحرير سيناء يوم مشهود في تاريخ الوطنية المصرية    أبطال سيناء.. «صابحة الرفاعي» فدائية خدعت إسرائيل بقطعة قماش على صدر ابنها    محافظ قنا: 88 مليون جنيه لتمويل المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر خلال العام الحالي    فن التهنئة: استقبال شم النسيم 2024 بعبارات تمزج بين الفرح والتواصل    هيئة الرعاية بالأقصر تعلن رفع درجة الاستعداد تزامنا مع خطة تأمين ذكرى تحرير سيناء    معلق بالسقف.. دفن جثة عامل عثر عليه مشنوقا داخل شقته بأوسيم    حدث ليلا.. تزايد احتجاجات الجامعات الأمريكية دعما لفلسطين    الفندق عاوز يقولكم حاجة.. أبرز لقطات الحلقة الثانية من مسلسل البيت بيتي الجزء الثاني    الاحتفال بأعياد تحرير سيناء.. نهضة في قطاع التعليم بجنوب سيناء    أحمد موسى: مطار العريش أصبح قبلة للعالم وجاهز لاستقبال جميع الوفود    الزكاة على أموال وثائق التأمين.. الإفتاء توضح أحكامها ومتى تجب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فكرية
نشر في أخبار الأدب يوم 22 - 08 - 2015


1
في بيت كبير بحديقة صغيرة في احدي المدن الساحلية كنت أعيش أنا "مها" مع أبي وأمي وأخوتي حياة هادئة. كان أبي رجلا طيبا، سمح الوجه، وأمي أيضا طيبة القلب، ولكن صارمة وتحب النظام في كل شيء.. فإذا نظرت إلي منزلنا تجد كل شيء في مكانه المحدد ورائحة النظافة تخرج من كل أركانه. كان يوم الجمعة ووقفت أمي تجهز لنا الافطار، وافطار هذا اليوم له طقوسه الخاصة، لأنه يوم اجازة ونجتمع جميعا فيه فكانت رائحة (الفول، الطعمية، الباذنجان، والفطير المشلتت) تملأ المنزل وأنا وأخوتي نتسابق في مساعدتها كنت أنا أصغرهم.. كان عمري آنذاك خمس سنوات.
فجأة دق جرس المنزل وذهب أبي ليفتح. وجد "فتحية" وهي السيدة التي كانت تساعد أمي في المنزل ومعها ابنتاها سعاد وفكرية. فتحية كانت بالنسبة لأمي عشرة طويلة.. ساعدتها في المنزل وفي تربيتي أنا وأخوتي وخرجت من بيتنا عروسة علي بيت زوجها، وأنجبت بنتين، وكان زوجها يسمح لها بالحضور الي بيتنا ومساعدة أمي، توفي زوج فتحية في حادث تاركا لها بنتين فاضطرت أن تتزوج من أخيه ليعينها علي تربيتهما، لم تكن تعلم أنه قاسي القلب لا يعرف معني الشفقة والرحمة.
فتحية: أبوس ايدك يا ستي خدي البنتين ربيهم ويشتغلوا عندك من غير ولا مليم.
ماما: ليه كده يا فتحية العيال لسه صغيرة!
فتحية: شوفي يا ستي..
وأزاحت فتحية الملابس عن بنتيها ووجدت أمي آثار ضرب عمهما لهما علي ظهريهما وجسديهما كأنه كان يجلدهما بكرباج.
فتحية: خديهم علميهم صنعة علي الأقل يلاقوا لقمة نضيفة وفرشة يناموا عليها وحد يتقي ربنا فيهم.
وانسابت دموع أمي وهي تنظر الي البنتين فالكبيرة اسمها سعاد عمرها 7 سنوات والحزن والانكسار يطلان من عينيها.. والصغيرة اسمها فكرية وهي جميلة وجذابة عمرها 4 سنوات وبالرغم من صغرها إلا أن الذكاء يشع من عينيها ونظراتها تقول "أنا موجودة وهعيش". وترددت أمي أولا في قبول هذه المسئولية فالأمر ليس باليسير، ودخلت لتستشير أبي.. كان أبي رحيم القلب وقد أحس بقسوة الحياة التي تواجهها فتحية وأقنع أمي أن الله قدا ختارنا لتربية بنتين يتيمتين وأنعم علينا بفضله فلا مانع من التجربة من أجل أطفال لا ذنب لهم. ووافقت أمي وهي مترددة ولكنها وافقت واتفقت مع فتحية أن تأتي وتطمئن علي بنتيها كل اسبوع.
وقبلت فتحية رأس أمي وهي تودع بنتيها وكانت تعلم أنها تركتهما في بيت أمين..
2
وبدأت حياة فكرية العملية وهي في سن الرابعة، تعبت أمي كثيرا معها لأنها كانت تتبول لا اراديا وكانت عنيدة الطبع فلا أسمع صوت أمي إلا وهي تنهرها وتوبخها بسبب أعمالها الغريبة، فبالرغم من أن ظروف الحياة واحدة بالنسبة للأختين إلا أن قدراتهما وتفكيرهما وطموحهما مختلف تماما، فسعاد كانت منهمكة في عملها وكأنها تضع كل حزنها فيه ولا تحب أن يوبخها أحد، وهكذا كانت شديدة الاحترام لنفسها.
فكرية كان لها عالم آخر فهي شديدة التركيز معي أنا لتقاربنا في العمر، كانت تهتم بملابسي وتتلف اللعب التي أحبها حتي أحزن، تستمتع لدروسي وأبي يذاكر لي.. تصطنع عمل أي شيء لتتنصت علي برامج التليفزيون والأحاديث بين أبي وأمي، وأصبحت تقرأ وتكتب وتعرف قليلا في اللغات وتفهم في السياسة. كانت أمي تعلمها أعمال المنزل وكانت تستطيع أن تفعل كل شيء ولكن لا تفعل إلا ما تريده هي، واتضح ذلك يوم أن مرضت أمي وشعرت بآلام مبرحة في الظهر، وكان لابد أن تلازم الفراش لمدة لا تقل عن شهر. كانت فكرية عامود المنزل وتخدم أمي بكل كيانها!! وبعد أن شفيت أمي رجعت فكرية لعادتها كما عادت أمي لتنهرها من جديد.
كان أبي يفهم طبعها وأحيانا ينهرها ولكن الرحمة عنده كانت تمنعه كثيرا من التحدث اليها.
وأصبحت فكرية في مرحلة الشباب جميلة الوجه، جذابة الملامح ممشوقة القوام.. بعد أن تزوجت أختها سعاد وتركت منزلنا بقيت فكرية التي لولا العادات لتزوجت قبل اختها الكبيرة فلا يمر اسبوع إلا وهناك من يريد أن يتزوجها ويأتي لوالدي طالبا يدها. كانت أمي تحبها لكن تكره عنادها، فلو طلبت منها الذهاب لشراء العيش قبل الغداء لابد أن تعود بعد أن نتناول الطعام وهي تعلم أن أمي ستوبخها ولكن هذا لا يهمها بقدر أن تكيدنا وتغضبنا بالرغم من حبها لبيتنا ولكن هي تري أنها أفضل من الجميع.
كانت تجلس بعد أن ينام الجميع تنظر من شباك غرفتها الي السماء، فكان عندها يقين بأنه كانت لها حياة أخري قبل هذه الحياة.. كانت ملكة متوجة تعيش في قصركبير ولها خدم وحشم ينفذون كل طلباتها.. كانت النظرة منها أمرا واجب التنفيذ والكل يتسابق لكي يرضيها.. ولكنها كانت قاسية القلب فعوقبت بالنزول الي الأرض. تنظر الي النجوم في السماء وكأنها أصدقاؤها الذين فارقتهم ومازالوا راغبين فيها ينظرون لها ويقولون: "مكانك هنا معنا" وتظل تنظر ويمر عليها الليل بلا نوم فهي دائمة التطلع الي الغد وكيف سيكون..
ومرت السنوات وأم فكرية ترفض زواجها لصغر سنها وعنادها وكانت تقول لأمي: "مين المجنون اللي هيستحملها؟!" الي أن جاء الذي غير فكر الجميع.. فقد جاءت جارة لأمي وأخبرتها أن فكرية علي علاقة بميكانيكي في شارع مقارب لنا وأنها رأته يقبلها في بئر السلم. لم تنم أمي من فرط قلقها وغضبها فبالرغم من "شدتها" إلا أنها تحب فكرية فهي من قامت بتربيتها وتعتبرها أمانة في عنقها. وأخذت تعد الأيام علي ميعاد قدوم فتحية لتري ابنتها، وأخبرتها وصدرت لها خوفها علي ابنتها. لم يمض اسبوع علي هذا الحوار إلا وكان عريس فكرية جاهزا للزواج منها في القرية. رجل قبيح المنظر، عاطل وأكبر منها بسنوات.. ولا تستطيع فكرية أن تقول لا، فهو فرض تستحقه لسوء أخلاقها.
وقام أبي وأمي بمساعدتها بقدر الامكان واعتقدت أمها أنها تداري علي فضيحة ابنتها.. أي فضيحة؟ لا أدري! ولكن هكذا اعتقدت لأنها عندما تبين لها، يوم فرح فكرية، أنها بكر شابها الذهول، وهكذا رضيت الملكة بالصعلوك علي أمل أن يكون هناك مفر.
وعاشت فكرية حياتها بلا حب أو حتي قبول فهي رافضة له كل الرفض، ومع ذلك أنجبت ثلاث بنات في خمس سنوات فزوجها ليس له وجهة في الحياة بلا عمل، بلا صحة، بلا دخل.. بلا أي شيء يذكر. فاضطرت فكرية أن تعمل في بيوت القرية وأن تأخذ بقايا الطعام من القمامة لتكفي بيتها ولكن ألسنة الناس لا ترحم فكانوا يطلقون عليها "لحاسة الصحون"، فتبكي لأنها تري نفسها ملكة ولكن ظروفها اضطرتها لذلك. وكل يوم تنظر الي أعلي فهناك كان حلمها وحياتها الأولي، هناك قصرها وخدمها.. هناك ما تستحقه لا هنا. وضاقت بها الحياة فجاءت الي منزلنا وطلبنا من أمي أن تعود وتعمل عندنا مقابل أجر يعينها علي مصاريف الحياة، وتعجبت أمي لأنها ستضطر أن تركب كل يوم القطار صباحا ومساء.. ولكنها تعاطفت معها لأنها أحست باحتياجها وقبلت ظنا منها أنها لن تصمد. وهنا بدأت فكرية تعيش حياتها من جديد وهي في رحلة القطار.
3
كانت فكرية تستيقظ كل يوم في الرابعة صباحا حتي تستطيع أن تركب أول قطار، في باديء الأمر كانت مضطربة وتحس بقليل من الخوف ولكن سرعان ما كانت بالنسبة لها حياة جديدة فيها انطلاق وأشخاص جدد تتعرف عليهم وتخرج بعيدا عن القرية وأهلها. تعاملت فكرية بذكائها المعهود واستغلت جمالها الذي لم يأخذ منه الزمن رغم قسوته عليها، فكانت تقابل جميع أنواع البشر ومنهم المتعلم والجاهل.. منهم الخجول ومنهم من يجردها من ملابسها بمجرد النظر اليها.. منهم من لديه مشاكل يريد أن يبوح بها ومنهم من يريد الصحبة. وحياة فكرية في منزلنا قبل زواجها أعطتها فكرا وثقافة ولغة فاستجمعت كل قدراتها وبدأت في استعراض كبير كل يوم، صباحا ومساء، في رحلة القطار. فالجاهل تستعرض عليه معلوماتها فينظر اليها وهو مبهور ومعجب بثقافتها، المثقف يسعد بالحديث معها لأن لديها ما تتكلم به معه، ويقضي وقتا لطيفا يخفف من ملل السفر.. والمغرم بجمالها ينظر اليها تبهره بنظرة الخجل والرغبة في نفس الوقت مما يجعله يلهث وراءها ويقول: "هل من مزيد؟!".
وهي جالسة تنظر من شباك القطار كملكة متوجة ويقف القطار في المحطات يخيل لها أن الرعايا علي جانبيه يلوحون لها ويهتفون باسمها وهي تمن عليهم بابتسامة تعال وتوزع عليهم العطايا والهدايا. هكذا كانت تفكر فكرية فهي خلقت ملكة والكل عبيد ابتسامتها وجمالها.. خلقت لتقود وتأمر فتطاع.
كانت تذهب الي عملها في الصباح الباكر حتي العصر ولا ترجع بدون أن تشتري لأولادها ما تراه في بيتنا، جاتوه أو أطباق جميلة وشوك وسكاكين.. مفرش جميل أو ورود. فبالرغم من فقرها إلا أنها كانت تسمو وتفكر في أن تعلم بناتها تعليما عاليا، تعلمهن كيف يأكلن بالشوكة والسكين. فكرية ليست لديها مائدة سفرة في منزلها ولكنها كانت تضع علي "طبلية الطعام" مفرشا جميلا ونظيفا وفي وسطها وردة جميلة في كوب ماء. لم تلبس بناتها مثل بنات قريتها، فكانت تأخذ منا ملابس جميلة وتشتري لهن جديدا، فأولاد الملوك أمراء.
بناتا كن يتعجبن منها فهي في نظرهن ليست إلا "لحاسة صحون" وكن لا يدركن أبد مدي التعب الذي تتكبده من أجلهن. حاولت فكرية أن تساعد زوجها في أن يجد عملا وكانت تحدثنا عن أنه عاطل، فكونت له مبلغا واشترت له حمارا وعربة كارو، لينقل عليها ويكسب منها. لم يمض اسبوع وجاءت باكية فقد باع الحمار وأعطي النقود لأهله وأخذ يجر العربة بنفسه.. كنا نضحك وهي تقص علينا هذه القصة ولكني لمحت في عينيها شجنا لم أره فيها من قبل. كانت فكرية تفتقد الحب في حياتها فهي لم تحب أبدا. كنت أفهم ذلك من نظرتها لي حين يمر زوجي ليأخذني من بيت أمي فهي تفتقد الحنان والحب بمعناه الصادق، فزوجها لا يشتاق إلا للطعام فهو يعيش ليأكل.
وربما قادها هذا الشعور أن تميل الي "ترزي" كان يركب معها القطار كل يوم، كان متزوجا ولديه أولاد هو أيضا ولكن حياته خالية من كل شيء الا الشجار مع زوجته. اعتادت علي الكلام معه فهو يجيد الكلام الناعم معها، وفي يوم أقنعها بأن تذهب معه الي شقته لأن زوجته غضبت وتركت له البيت.. وما إن ذهبت حتي وجدا أمه هناك وقامت بضربهما هما الاثنين علقة موت. فرت فكرية وهي علي ثقة أن من فعل هذا هو حراسها، فكيف تحب الملكة أحد رعاياها الفقراء؟!.. الملكات لا يعشقن إلا ملوكا وارتاحت لهذا التفكير ومضت في حياتها وكأنه لم يكن.
ومرت السنوات ولم تكل فكرية من رحلة الصباح والمساء ولكنها أخذت كثيرا من صحتها وضعفت، وتخرج بناتها من التعليم المتوسط وعملن، واستطاعت أن تزوجهن بمجهودها وبالرغم من ذلك كن ينظرن اليها نظرة دونية لعملها في المنازل وفي أي مشاجرة معها يقلن لها "لحاسة الصحون" وزوجها هو الحي الميت لا حول له ولا قوة.
وكلما زاد مرضها زاد حنينها لحياتها الأولي وقصرها، كانت تطلب السماح علي قسوة قلبها التي تسببت في نزولها الي الأرض والتعامل معه أشخاص قلوبهم أقسي من الحجارة ولكنها تابت عن القسوة ولا تريد أن تعيش مع هؤلاء فهي تصبو الي عرشها!!
4
اشتد المرض علي فكرية وأصبحت عاجزة عن السفر كل يوم بالرغم من أنها في الخامسة والأربعين من عمرها، ولكن العمل في المنازل كل يوم أنهكها فأصبحت لا تستطيع التحرك إلا بصعوبة.
وبات المنزل خاليا من بناتها بعد أن تزوجن خارج القرية ووجدن صعوبة في أن يأتين اليها كل يوم ويساعدنها كما ساعدتهن ولا تعلم لماذا كل هذه القسوة التي تملكت من قلوبهن؟ وتعود وتقول: "هذا عقابي لأني كنت قاسية القلب".. لا أعلم هل كانت تصدق نفسها بالفعل أم تحاول أن تخرج من واقعها في عالم تهيم فيه فتنسي هموم الدنيا وقسوتها؟!
وطلبت فكرية أن تراني عن طريق احدي بناتها وصممت أن أذهب اليها خاصة بعد وفاة أمي وأبي فكنت أحاول أن أسير في نفس طريقهما وأستلهم من روحهما القوة في مساعدة الناس. كانت فكرية تنام علي سرير في غرفة صغيرة نورها باهت كئيب وأمامها مرآة مشطورة نصفين، وكرسي قديم بجوارها دعتني للجلوس عليه. لا أعلم كم من الوقت مضي وفكرية تحدثني عن ذكرياتها في منزلها وكيف كانت تكرهني وتحقد علي وتتلف فساتيني ولعبي، وحاولت مقاطعتها، ولكنها رفضت إلا أن تكمل حديث الذكريات، وقصت علي رحلة القطار وسعادتها فيه حتي أنها كانت تعمل لكي تستمتع بحكايتها ومغامرتها فيه وكيف كانت تحب أبي الصدر الحنون الذي لم يقل لها يوما كلمة جرحتها أو أغضبتها وتحب أمي رغم قسوتها لأنها أدركت أن مسئوليتها كانت كبيرة.
حاولت أخرجها من حديث الذكريات فسألتها عن المرآة المشطورة وأنها خطيرة قد تسبب في حادث وفوجئت بردها.. فهي من شطرتها نصفين عن عمد، تعجبت وسألتها لماذا؟!
فقد كسرتها لتري في جزء منها نفسها الآن، والجزء الثاني تري فيه قصرها الذي اشتاقت اليه، فهناك الحب ينتظرها.. الفرح ينتظرها.. الرعايا ينادون عليها.. ستقام الأفراح وتعلق الزينة احتفالا برجوع الملكة بعد أن تغير قلبها وعرف معني الرحمة.
ومازالت فكرية تنظر في المرآة بانتظار العفو عنها وأن تعود، فقد خلقت ملكة.. وآن لها أن تعود!!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.