وأنا أدخل بيتها للمرة الأولى، حاولت أن أحصى – بلا جدوى – عدد المرات التى دخلت هى فيها بيتى، وعندما تمتَمت ب«أهلا وسهلا» استعدت فى صوتها طفولتى وبراءتى ومعرفتى الأولى بالعالم الذى تلمسته عبر حواديتها، فصعدتُ للقمر بسلم، وارتعدتُ رعبا من الغولة. ورغم أنها «أبلة فضيلة»، أى الأخت الكبرى، فهى بعيدة كل البعد عن هذا اللقب، لأنها مزيج بين أم حنون للغاية، وطفلة لا حدود لبراءتها وقدرتها على الاندهاش، هنا تحكى لنا عن زوجها، ابنتها، وحدتها، وعملها بالإذاعة. ■ هناك مسحة من الحزن تكسو وجهك وصوتك.. ما السبب؟ - لم يعد هناك ما يفرح، أشعر بأننا نعيش فى زمن ردىء، كل الأشياء فقدت نكهتها وبهجتها فيه، كما أننى فقدت عزيزين علىَّ فى السنوات الأخيرة، هما زوجى، وصديقتى الحبيبة صفية المهندس، والغريب أن ما يزيدنى حزنا، الحفاوة البالغة بى فى وسائل الإعلام حاليا، وتكريمى رسميا أكثر من مرة، وأذكر بعد وفاة زوجى، جملة قالتها لى صفية فى العزاء لتواسينى «ربنا هيتبطب عليكى يا فضيلة» وأشعر الآن أن هذا التكريم هو مقابل فقدى لهذين الحبيبين. ■ وكيف تتغلبين على وحدتك الآن خاصة أن ابنتك الوحيدة تعيش بالخارج ؟ - بالعمل، أذهب يوميا لتسجيل برنامجى الإذاعى، الذى أكتبه بنفسى، وفى أوقات فراغى، أمارس بعض الأنشطة الاجتماعية، وجيرانى وأخوات زوجى لا يدعوننى أشعر بالوحدة، هم دائما إلى جانبى ومعى يوميا، كما أن أختى محسنة توفيق على بعد شارعين منى ونلتقى دائما، وأتصل بابنتى ريم يومياً وهى كذلك، لا أشعر بالوحدة إلا ليلا حينما أحاول أن أتجاوز حنينى إلى المرحوم زوجى. ■ رفضت البقاء مع ابنتك فى كندا وأصررت على العودة إلى مصر.. لماذا؟ - لم أحتمل الحياة هناك، لاختلاف المجتمع الكندى جذريا عن المصرى، الشوارع خالية ليس بها مشاة، والناس هادئة لحد البرود، فقررت العودة، فسألتنى لماذا؟، من لك بمصر، فقلت لها لى مصر نفسها. ■ وهل مصر أهم من ابنتك؟ - أفهمتها أنه من الصعب تكيفى مع المجتمع الكندى، كما أمضى معها ثلاثة أشهر كل عام، أبقى فيها وحدى تقريبا بالبيت، حيث تذهب هى وزوجها للعمل وأولادها للمدارس، وأبقى حتى السادسة مساء فى انتظارهم، وينتابنى الملل رغم ذلك أذهب لزيارتها بانتظام، إذن فى الحالتين بمصر أو بكندا، أنا وحدى وأراها نادراً. ■ ما الصفات المشتركة بينكما؟ الحنان وإيثار الأسرة على ذاتينا، ومن حسن الحظ أنها أخذت من أبيها حسمه وشدته، لذا تربيتها لأطفالها مثالية فى نظرى غير أنها جميلة الملامح، وكانت تداعبنى دائماً بقولها «أنا أحلى منك يا مامى»، وأرد على مداعبتها بأخرى «عندما كنت فى عمرك، كنت أفوقك جمالاً». ■ وكيف استقبلتى فكرة زواجها وابتعادها عنك.. هل عارضتى هذا الزواج؟ - بالعكس سهلته كثيرا، وكنت أحد أسباب الضغط على والدها ليوافق، وكان معترضا على العريس لأنه عراقى، ويخشى كثيرا على مستقبل أولادها خاصة أنهم لن يحصلوا على الجنسية المصرية، أردت لها أن ترتبط بمن أحبته واختارته، وأولادها الآن حمدا لله بسبب قانون الأسرة الأخير، يتمتعون بالجنسيتين الكندية والمصرية. ■ وهل تحكين الحواديت لأحفادك؟ - هم يتحدثون ويفهمون العربية، ويحبون حكاياتى، لدرجة أنهم، يعترضون على أسلوب حكى أمهم، ويطالبونها، بأن تحكى مثلى، ولكنى أقص عليهم حواديت قصيرة ليست طويلة كالتى أقولها بالإذاعة، كما ألعب معهم بالمكعبات ويحاولون هم فى المقابل تعليمى الكمبيوتر، وكيفية التعامل مع الإنترنت، حيث لا أتقن التعامل معه، بل مع الأجهزة الإلكترونية عموما. ■ وماذا عن زواجك أنت.. هل وجدت معارضة من الأسرة عليه؟ - زوجى كان يعمل كبير المهندسين بالإذاعة، وكنت أخشاه كثيرا، لأنه شديد الطبع وصاحب هيبة، وفوجئت به يطلبنى للزواج، ولم أكن مرحبة، وذهب لمقابلة أمى، وتصادف أنه تقدم فى نفس الوقت مع اثنين آخرين، ووافقت أمى عليه رغم أنه أقلهم إمكانات، وعندما استفهمت عن موافقتها قالت إنه الأصلح وتركت لى القرار النهائى، فوافقت أنا الأخرى، وتبين لى أنه شخص جدير بالحب والتقدير فعلا، واختفت شدته فى تعاملاته معى فيما بعد. ■ وإلى أى حد تفتقدينه الآن؟ - توفى منذ ثلاث سنوات ومازلت أبكيه، هذه السنة هى الأولى التى أخلع الأسود عليه، خلعته لأنه لم يكن يحب ذلك اللون، ظللت أحاوره بعد مماته، كنت أتخيله مازال معى فى البيت، حتى منعنى الطبيب من ذلك لكى لا تتدهور حالتى النفسية أكثر، أشعر أن حياتى غير محتملة بدونه، وكنت أتمنى أن أموت قبله. ■ ما أحب ذكرياتكما إليك؟ - هو من كان يعد لى الفطور، ويساعدنى فى صنع الغداء، كما كان ينتقى لى ملابسى وألبس على ذوقه، كل أشيائى أفعلها برفقته، ولأنه مهندس إذاعى كثيرا ما سجل لى بالمنزل، ليستمع لهذه التسجيلات وحده، قال لى لا أحب أن أسمعك بالراديو مع آلاف غيرى، أريد أن أكون مستمعا استثنائيا، كان يغار من كل ما يأخذنى منه، لدرجة تذمره من متابعتى لبرامج الشيخ الشعراوى، بسبب غيرته، وأذكر أنه دخل البيت مرة وأنا على وشك قص سلك مدلى من النجفة بالمقص، فأطاح بى من على الكرسى إلى الأرض، وعندما لمته، قال لى «كنت هتموتى» وأمرنى ألا أمس الكهرباء مجددا. ■ هل صحيح أنك من وضعت أختك الفنانة محسنة توفيق على طريق التمثيل؟ - هى كانت تمثل بالفعل فى مسرح الجامعة، وتحب هذا الفن، وحاولت الأسرة أن تبعدها عن السياسة وتلهيها بعد خروجها من السجن، فتوسطت لها لتعمل بالتمثيليات الإذاعية، ثم شقت هى طريقها بنفسها إلى السينما والتليفزيون، ودائماً ما شعرت تجاهها بالأمومة دون إخوتى جميعاً، حيث أكبرها بست سنوات. ■ هل مازالت للراديو أهميته فى بيت أبلة فضيلة.. أم سرقها التليفزيون؟ - لا أشاهد التليفزيون إلا نادرا، وفى بيتى أربعة «راديوهات»، كل منها مضبوط على إذاعة معينة، صوت العرب والقرآن الكريم والبرنامج العام والشرق الأوسط، وأحب الراديو جدا، ولكن لا أحب سماع برنامجى به لأن ذلك يجعلنى ألوم نفسى كثيرا، وأشعر أنه كان يجب تجويد عملى أكثر مما فعلت. ■ وماذا عن أثاث بيتك هل جددته منذ زواجك؟ - لا لم أفعل، حيث أعتز به كثيرا ولا أريد أن أفقده، أقوم ببعض الصيانة والتنجيد له، ولكن دون استبدال، أما مخدتى التى أنام عليها فأرفض تماما تنجيدها، أو أن تمسها يد أحد غيرى، وهنالك أيضا بعض فساتينى التى أظل أحتفظ بها محبة فيها، حيث أعقد مع بعضها صداقات حقيقية ولا أفرط فيها، وأرتديها بالتحديد عندما أكون حزينة أو متضايقة، فالمفترض بالأصدقاء أن يخففوا من عناء بعضهم البعض. ■ أعرف أنك فقدت نظرك بعض الوقت.. احكى لنا عن هذه التجربة؟ - حدث ذلك فى مطلع شبابى نتيجة خيانة شخص قريب منى، ولن أذكر التفاصيل لأنها تمس سمعته، كل ما أستطيع قوله أننى تألمت لدرجة لم أرد أن أراه فيها مرة ثانية فأصبت بعمى مؤقت، ورغم عدم تأكد الأطباء من استردادى لنظرى فإننى كنت واثقة من أن الله لن يضيرنى وأنا المظلومة. ■ هل يسعدك أن يناديك الجميع بلقب أبلة على اختلاف أعمارهم؟ - بالتأكيد، جميع معارفى ينادوننى بهذا اللقب الذى كان من اختيارى، عندما قدمت برنامج الأطفال للمرة الأولى، رفضت تسميتى بماما لأن كل طفل له أم واحدة فقط، وفضلت عليه أبلة وهى كلمة تركية تعنى الأخت الكبرى، حتى إننى رفضت مناداة حماتى بماما احتراما لأمى، ولم تغضب حماتى منى وكانت مقدرة، أما أمى فكانت لا مثيل لها فى حنانها وطيبتها وحكمتها، كانت سيدة متعلمة، لفت بلاد العالم، وكانت إحدى وصيفات السلطانة ملك. ■ وما مدى النجاح الذى حققه البرنامج فى نظرك؟ - مرة قابلت الرئيس مبارك وقال لى «عندك نشيد قومى، معنديش زيه» وكان يقصد تتر البرنامج، وجملة الرئيس تدل على مدى انتشار البرنامج وشعبيته لدى الجميع، كما صرح لى البعض بأننى من أحب الشخصيات الإذاعية إليه بسبب هذا البرنامج. ■ لقاؤك وجهاً لوجه عكس صلابة لم أظنها فى شخصيتك الناعمة!! - أجمع بين متناقضات عدة، كأى إنسان، الغريب أننى رهيفة للغاية ودموعى قريبة، وأيضا قوية وصلبة، ولا أخشى فى الحق لومة لائم، فى بداية رئاستى لإذاعة البرنامج العام، فرح مرؤسيى، على اعتبار أننى سهلة المراس ولكنهم فوجئوا برئيسة صلبة وحاسمة، وفى المقابل أنا غير مؤذية ولا أرضى الضرر للغير، ولكن لا أحب التهاون أو الاستسهال، كما أن أبى ربانى على الاعتزاز بنفسى وآرائى، خاصة لو كنت على صواب، وأذكر أننى فى المدرسة كثيرا ما تصديت لعنت وظلم المدرسين وكان جزائى عادة الطرد خارج الفصل، أيضا لا أرى الخطأ وأسكت عليه، فى الشارع أو الحياة العامة لدرجة أن زوجى قال لى ذات مرة، «مصيرك هتاخدى علقة سخنة بسبب تصديك للأشرار الدائم، وهتحرمى بعدها».