لا يقتصر لفظ 'الثقافة' علي المفهوم الجماليّ وحده كما يظن الكثير من الناس حيث قراءة الكتب، واكتناز المعلومات، ومتابعة الندوات، وسماع الموسيقي الرفيعة، وحبّ التنقل والارتحال، وإنما هي أشمل من ذلك بكثير، وتحتوي مجالات نظرية وعملية عدة. وربما كان تعريف عالم الأنثروبولوجيا 'إدوارد تايلور' للثقافة هو أكمل تعريف حين عرفها علي أنها ذلك 'الكل المركب الذي يشتمل علي المعرفة، والعقيدة، والفن، والأخلاق، والقانون، والتقاليد، وأي نوع آخر من القدرات، والعادات التي اكتسبها المرء بوصفه عضوًا في المجتمع'. أو كما وصفها الدكتور شكري عياد رحمه الله بأنها 'أسلوب في الحياة، وطريقة في العيش'. ومن ثم فإن التجديد الثقافي ليس معركة سهلة، أو وحيدة البعد، بل هي مجموعة معارك في اتجاهات مختلفة، في وقت واحد.فتجديد أمر الدين، وعملية إصلاح العقيدة مثلا تكون بالرجوع إلي أصل الدين ونبعه الصافي قبل أن تنمو علي جوانبه طحالب الانحراف في التفكير والاستدلال والتطبيق. وهو ما نلمس تجلياته هذه الأيام من جنوح نحو العنف والإرهاب وفرض الرؤية الواحدة بالقوة وإراقة الدماء تحت زعم حماية الدين واستعادة مجده الغابر وهو ما يدعو بإلحاح إلي ضرورة تفكيك هذا الخطاب الديني الجانح ونزع القداسة عنه وتعريته، فهو لا يعدو أن يكون في التحليل الأخير سوي حزمة اجتهادات بشرية تحتمل الخطأ والصواب، وغالبا ما تكون ملغومة بالهوي والغرض والمنفعة الذاتية أو الفئوية أو الطائفية. وفي مثل تلك الظروف الصعبة التي شهدها المجتمع المصري في السنوات الأربع التي تلت ثورة 25 يناير، باتت الحاجة ملحة إلي تجديد وإصلاح النظام القانوني والتشريعي، بعد أن انكشفت تلك القوانين والتشريعات وبان عوارها لكل ذي عينين، فقد ضاعت الحقوق وأهدرت كثير من الدماء الزكية، ونال البراءة كثير من القتلة والمجرمين، وأفلتوا من العقاب الدنيوي الرادع الذي يشفي الصدور التي لم تزل مكلومة، ليس لفساد النظام القضائي أو طعن في نزاهته، وإنما لقصور القوانين والتشريعات. أما علي الصعيد العلمي والفكري والمعرفي، حيث تنوير العقول وإثراء الأفكار وبناء مجتمع العلم والمعرفة والحداثة، فهو يحتاج إلي ثورة حقيقية، تأخذ بمعارف العصر الحديث، ويحتاج كذلك إلي تحديد الموقف من التراث بمجالاته المختلفة: الديني والفقهي والعلمي والأدبي، فلا يليق بنا أن نكون مجرد حراس فقط لهذا التراث، ولا ننتفع بما نحرس، ولا يكفي كذلك أن نعمل 'منادين' علي التراث ونغرقه في نزعة تبجيلية تؤدي به إلي نوع من التقديس الزائف الذي يصل به إلي تعطيله وعدم الانتفاع به، وإنما لابد من الاشتباك معه وقراءته قراءة واعية في ضوء معارف العصر الحديث، وما اتاحته من إجراءات علمية صارمة، لاستصفاء القيم الحية الخالدة فيه، الصالحة للعيش، القابلة للنمو والتلاقح والامتداد والبقاء، والإعراض عن القيم التي كانت رهينة عصرها فقط وجمدت بانقضائه، ومات بموته. وتاريخ مصر الحديث يزخر بالرجال العظماء الذين حملوا لواء الثورة التجديدية الإصلاحية الشاملة، وفي صدارة هؤلاء يأتي الإمام محمد عبده '1849 1905' الذي نستطيع أن نقول عنه دون تزيد إنه النموذج الفذ للثورة الثقافية الشاملة، ولذا اختاره معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته السادسة والأربعين شخصية العام الثقافية، ولعل هذا الاختيار يوافق اللحظة التي تمر بها مصر هذه الأيام، وهي لحظة مفعمة بالطموحات والآمال في التغيير والتجديد والانطلاق إلي آفاق حقبة جديدة. عمد الإمام محمد عبده، أول ما عمد، إلي إصلاح الحياة الفكرية المصرية، فأخذ علي عاتقه إصلاح التعليم في مصر وسوريا ولبنان. وخاض معركة إصلاح الأزهر الشريف والثورة علي طرق التعليم والتدريس فيه، ونقد طرائق تفكير بعض شيوخه المتزمتين الجامدين وانطلق من ذلك إلي محاربة الجمود في شتي صوره والمجالات التي ظهر فيها، فبحث 'جمود المسلمين' والأسباب التي أدت إلي ذلك الجمهود وبيّن 'مفاسد هذا الجمود ونتائجه' وعدّد جنايات هذا الجمود الذي فرد ظله الكئيب علي مجالات عديدة منها: 'جناية الجمود علي اللغة' و'جناية الجمود علي النظام والاجتماع' و'جناية الجمود علي الشريعة وأهلها' و'جناية الجمود علي العقيدة' و'الجمود ومتعلمو المدارس النظامية' و'جمود المدارس الأجنبية' وقد بشّر الإمام محمد عبده بعد كل ذلك بأن 'الجمود علة تزول'. ومن أبرز إسهامات الإمام محمد عبده في الحياة الفكرية 'رسالة التوحيد' وتحقيق وشرح 'دلائل الإعجاز' و'أسرار البلاغة' للإمام عبد القاهر الجرجاني والتصدي لبعض المستشرقين الذين طعنوا في الإسلام وانتقصوا من قدر المسلمين ومن هؤلاء المستشرقين 'هانوتو' و'رينان'. كما شارك بفصول في كتاب 'تحرير المرأة' لقاسم أمين، وكتب 'تقرير إصلاح المحاكم الشرعية؟' و'الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية' ومقالات عن 'المستبد العادل' و'الرجل الكبير في الشرق' و'آثار محمد علي في مصر'، وجملة آرائه وملاحظاته وتوجيهاته حول الثورة العرابية. وفوق كل ذلك كان الإمام محمد عبده مفسرًا للقرآن الكريم مستفيدًا في تفسيره بكل ما أتاحه له عصره من معارف، وقد كان الإمام ذا بصيرة مستنيرة وعقلية مستقلة وكثيرا ما خالف المفسرين القدماء متحليا بالعلم والشجاعة والتواضع. وأما عن جانب الإصلاح الاجتماعي، فقد كان الإمام محمد عبده بحق رائد مدرسة الخطاب الإصلاحي الاجتماعي، يلمس ذلك كل من يطالع اهتمامه بالحياة الاجتماعية في عصره وما يعتمل فيها من ظواهر سلبية تستوجب التصدي والإصلاح، وفي هذا الصدد كتب عن 'حكومتنا والجمعيات الخيرية' وانتقد 'حب الفقر أو سفه الفلاح' وبيّن 'وخامة الرشوة' وأشاد ب'العفة ولوازمها' وسخر من كسالي عصره فصاح فيهم قائلا: 'ما أكثر القول وما أقل العمل' وكشف عن مضار 'الحشيش' و'التملق' و'الخرافات'.. رحم الله الإمام محمد عبده، وما أحوجنا إلي أن نستلهم روحه الإصلاحيّ الشجاع إذا كنا جادين في بعث النهضة التي تحتاجها البلاد في هذه الفترة التي تحتاج كل الجهد المخلص للعمل والانطلاق نحو آفاق الحرية والتقدم.