لم ألتقط ملامحه، قسمات وجهه، لون شعره، لم يتبق في ذاكرتي إلا هيئته العامة، شاب، مجرد شاب، ربما في العشرين، أو الثانية والعشرين، من يدري؟ ربما يقارب الثلاثين، ما اسمه؟ لم يهتم أحد، لم يذكره أحد، لم يحاول أي إعلامي التقصي، عومل من الكل بلا مبالاة وإهمال تماماً كما عومل من جندي الشرطة، هذا مجرد مشهد، لحظة عابرة، لولا يقظة مجهول آخر، إلتقط ما جري وحفظه لنا. لم أنتبه إلي معالم وجهه، إنه مجرد شاب لقي حتفه، لم أعرف السبب الذي أفضي به إلي الأبدية، أهو الغاز الجديد المستحدث؟ أهي رصاصة قناص محترف تلقي دراسة طويلة وتدريباً أطول ليسدد الطلقة القاتلة الي شاب كان يمكن أن يكون زميله في الدراسة، أو جاره في الاقامة، أو أحد أقاربه، من يصوب علي البعد لا يدقق، لا يتحقق من شخصية المستهدف، ذلك الأعزل، الذي يقف في الميدان غير مدرك لما يترصده. لما يتربص به. أعزل. أعزل تماماً. لا قبل له بمواجهة من تدربوا جيداً. وتلقوا الدورات في دول اجنبية، وربما قضوا ساعات طويلة في التمرين علي التسديد إلي الهدف، الهدف هنا ليس عدوا أجنبيا يحتل أرضاً مصرية، ليس مجرماً هارباً في الجبال، إنما شاب، شاب يفيض حيوية، كلاهما مصري، القاتل الخفي والمقتول، القاتل المدرب، حامل الرتبة، وصاحب المكانة، الحاصل علي شهادات في دقة التصويب المميت إلي.. إلي من؟ إلي شاب مصري مثله، شاب من ملايين الشباب الذين خرجوا إلي مقابلة الخطر ومواجهة الموت. جاءوا إلي المكان الرمز، الميدان، ينشدون الحرية والكرامة الانسانية، لينقذوا بلادهم من العصابة التي أحكمت قبضتها ونهبت وضيقت الفرص. تري.. هل كان يعرف أن الخطر الكامن يدقق ويصوب إليه، الرصاصة تباغت، وتنفذ، ما من مدة زمنية، ما من فاصل بين إطلاقها واستقرارها في الوضع المنهي لحياة نضرة،سعت بصاحبها، وأتت به إلي اللحظة التي يقتل فيها بمهارة قناص من بني وطنه، مصري يقتل مصرياً، تماماً كما يصطاد الصياد فريسته، في الأدغال في الصحراء. صياد ماهر يسدد الطلقة القاتلة إلي الفريسة، إلي الصيد، القنص هنا لا يستهدف قطاً وحشياً، ولا ضبعاً فتاكاً، إنما يتجه إلي مقتل الشاب، الذي يقف آمناً، فهو في بلده، في مدينته، يتظاهر مع أمثاله، ربما خطر لهم أن عنفاً سيجري، لكنه مماثل لما يجري في البلاد الأخري، شرطة العالم، قوات مكافحة الشغب، تتدرب علي فض المظاهرات بدون أن تسيل قطرة دم واحدة من أي شاب أو رجل أو امرأة، لكن في مصر جري تدريب وتمتين من أجل قتل مصريين، وربما منحوا مكافآت علي دقة التصويب. دقة التصويب! في استانبول، في معرض الكتاب كانت مصر ضيف الشرف، حوي معرض الصور لقطات مؤثرة من أيام الثورة، غير أنني لمحت أحدهم، يبدو أنه رتبة، فاره الطول، ملابسه سوداء، زي الأمن المركزي، يضع كمامة علي وجهه، ربما اتقاء للغاز، وربما لإخفاء ملامحه، يقف الي جواره شرطي سري ممتليء، هيئته مثل الذين يمارسون التعذيب، في يدي القاتل صاحب الرتبة بندقية حديثة جداً، يصوب الي شخص ما في الميدان، شخص لا يعرفه ويعرفه، لا يعرفه شخصياً، لكنه مصري مثله، ربما اسمه أحمد أو عيسي، من يدري؟ ربما جاره، ربما أبن جاره، مصري يقتل أخاه بدم بارد أو يقتلع عينيه وسط هتاف جنوده »جبت عينه يا باشا« الاستعمار كان أرحم، هذه الدموية المفرطة ثمار النظام السابق، وما كان لها أن تستمر بعد ثورة يتعلم بها ومنها العالم. البندقية الحديثة في يد الضابط ذي الرتبة، في شرفة ضيقة مطلة علي الميدان، بندقية القنص لابد أن تكون حديثة، أحدث صيحة، رصاصة القناص القاتل يجب ألا تتبعها أخري، يتبعها تغيير مكانه بسرعة، لكن الشرفة الضيقة تقول إنه ليس بحاجة الي ذلك، فمن يواجه، وإلي من يسدد؟ إنهم مصريون عزل، لا حول لهم ولا قبل ولا سلاح في ايديهم، بالنسبة للقاتل هؤلاء مجرد قطيع. عيونهم تشبه الدوائر الصماء علي لوحات التنشين، يعرف إنه لن يعاقب، وإذا افتضح أمره بسبب التنشين فسوف يتم التحفظ عليه في جهة سيادية.. الجهات السيادية في بلادنا أمرها معروف، وأماكنها أيضاً، التحفظ هنا ليس للعقاب، فقد تدرب من أجل هذه المهمة وأنفقت عليه الأموال، وصدرت إليه الأوامر من المستوي الأعلي، التحفظ للحماية والصون، وربما يعود يوماً لتسديد بندقيته إذا استمرت الآلية وظل نفس المنطق. تعاودني ملامح الشاب، لأنني لم أرها جيداً، لأنني شغلت بالمشهد يسحل الشاب الذي لم يعد تصدر منه حركة، لم يعد ممكنا رصد أي اشارة بفضل كفاءة ومهارة أعضاء فرق الموت في أجهزة القمع، أستعيد القاتل الذي رأيته في استانبول، هل يمكن أن يكون مصرع الشاب برصاصة من تلك البندقية؟ هذه البندقية بالتحديد؟ من أنت من؟ ليس لي إلا أن أتساءل، هذا الشاب الذي لم أخاطبه يوماً يشغلني، تنمو علاقتي به وربما يكون قد تفرق في ذرات الكون، لم يتبق من وجوده المادي شيء، غير أن روحه تهيمن عليّ بقوة، تطوف بي، تداهمني في إغفائي، وتتسلل إلي ما أقرأه من أفكار، ما أصغي إليه من مشاهد. من أنغام. تري، ما اسمك يا بني؟ نعم يا بني، ابني يقاربك عمرا، وكان ممكناً أن يكون في موضعك، كل من هو في سنك كان ممكناً أن يمثل مكانك، تري ما اسمك يا بني؟، لماذا لم يهتم إعلامنا المقروء والمسموع بالبحث عنك، يتقصي أحوالك، إن مشهد جر جثتك عبر الطريق، فوق الأسفلت، جسدك الذي لم تفارقه حرارة الحياة بعد، بكل ما حوي من آمال ورغبات وتطلعات وأشواق، هذا الجسد انتهك مرتين، مرة برصاصة القاتل المسددة من خلال نظام بأكمله فيه رتب ومشاريع تدريب وبعثات وترقيات وطاعة وتدريب. فقط للوصول إلي هذه اللحظة، تسديد الرصاصة إلي قلبك، إلي رئتك، إلي عنقك، سقط جسدك في الميدان، جاء رجل الشرطة ليتم المهمة، سحبك بعيداً عن عرض الطريق، لم يحترم الموت الذي صرت تجسده، سحبك، سحلك، جر الجسد الميت في العرف سحل. وكنا نظن أن السحل بمنأي عنا. لكننا شهدناه عبر آلات التصوير، في الفضائيات، محفوظ الآن في ذاكرة التويتر ، جندي الشرطة يتقدم، ليس للإطمئنان علي ما يمكن أن يكون متبقياً من أنفاس الحياة في الصدر الشاب الذي استلقي صاحبه علي الأرض، إنما ليسحب ساحلاً جسده، لم يترحم علي حياة بشرية كانت، لم يطل في وجهه لعله أحد معارفه، لعله ابن لجار له أو صاحب، أليس مصرياً مثله؟ لم يتوقف الشرطي لحظة، سحبه مثل كيس مخلفات، مثل جثة كلب، جره بدون أن ينظر إليه، سحل أكثر من عشرين عاماً من السعي، والاجتهاد، والبراءة، والعلم، والأمل واحتمال الضيم ، وإنسداد الطرق إلي المستقبل، ومحاولة تلمس الأمل في التحرير، في الجموع القريبة منه عمراً، المتشابهة أيضاً، منذ عشرات السنين لم يعد أحد يهتم بهم، لم يعد أحد يخطط لهم، في الماضي كان ثمة أمل في عمل ما، الآن كل الطرق مسدودة، هذا ما صار إليه الحال في العقود الأخيرة الماضية. قمامة ها هو فوق الرصيف بعد أن سحله الشرطي الذي لم يره إلا مجرد عائق في الطريق، مثله كأي قطعة متخلفة من البقايا، أي إعداد، أي تربية أدت بهذا الشرطي إلي سحب شاب كان نضراً، مستقيماً، تماماً مثل زميله الذي راح يصيح مهللاً: جبت عينه يا باشا، يا سلام يا باشا، كأن العين التي كانت تبصر من الزجاج أو الورق، كأنها ليست عيناً إنسانية تسمع وتري، تبصر وتحكم، تهدي وتميز بين الأشياء، بين الموجودات وبعضها، تهدي صاحبها النجدين، غير أن هذا الضابط صغير السن، المختال بنجمتيه البائستين علي كتفه يقتلع بصر الشاب الذي يماثله عمراً، ويلقي التهليل من جنوده، فعل خارج الإنسانية، بل إن الوحوش لا تصل الي هذه الوحشية، إلي هذه الدرجة من البلادة المطلقة، والتعامل مع الحيوات الإنسانية كأنها أكياس قمامة، هؤلاء الجلادون نتاج نظام كامل من القهر والعسف، هذه الفصائل من الشرطة تذكرني بضباط النازي الذين كانوا يصنعون من جلود البشر أغطية للأباجورات، من العار علي مصر أن يكون في شرطتها أو أي من مؤسساتها الأخري من له هذه الصفات، هذا الضابط الشاب الذي استدار بفخر وهدوء صقيعي يجب أن يلقي عقاباً، إذا لم يكن من منظومة القضاء والقانون فليكن من الثوار أنفسهم، يجب إعداد قائمة بكل من صوب رصاصة إلي صدور وعيون الثوار، المشكلة ليست في هذا الشاب المختال بنجمتيه، ولكن فيمن دربه، ومن أمره، ومن خطط لكي تضم الأجهزة الأمنية مثل هذه الفرق التي يعتبر وجودها عاراً علي مصر، وعلي الإنسانية، فليكن هذا من أوائل واجبات وزير الداخلية الجديد. الأمن يمكن الوصول إليه بطرق أخري ليس من بينها هذه الوسائل الخسيسة، إن تصويب البنادق المتطورة إلي عيون الشباب وإلي صدورهم الاسبوع الماضي في الموجة الثانية للثورة يعني أن شيئاً لم يحدث، وأن النظام الذي ارتكب التعذيب علي أوسع نطاق، واختطف المعارضين، ليعجن بعضهم في الخرسانة وهذا ما يتردد عن مصير رضا هلال، وليلقي بآخرين في الصحراء بعد تجريدهم من ملابسهم »عبدالحليم قنديل« والاعتداء بالضرب »جمال بدوي وعبدالوهاب المسيري«.. هذا النظام مازال مستمراً، مازال قائماً، إعادة صياغة أجهزة الأمن ضرورة وطنية، انسانية، حتي لو أدي الامر الي انشاء غيرها، الاسبوع الماضي مضيت إلي نقابة الصحفيين للمشاركة في مسيرة اتجهت إلي مكتب النائب العام للإبلاغ عن وقائع استهداف الصحفيين. واقتلاع عيون بعضهم، كان بيننا أحد الزملاء والضمادة تغطي عينه اليمني، معظم من اقتلعت عيونهم فقدوا اليمني، هنيئاً للوحوش التي دربت، وتلك التي نفذت، عندما تصبح الدولة مصدراً للقتل فهذا أول فتح لباب الإرهاب علي مصراعيه. يحرص الجلادون علي تعصيب عيون ضحاياهم، هذا ما عرفته شخصياً أثناء اعتقالي، ورغم ذلك استطعت تحديد شخصية الضابط الذي قام بتعذيبي، وقد دونت هذه الخبرة في العديد مما كتبت، لكن لم تكن الأمور وقتئذ تصل إلي حد التصفيات المباشرة، إلي القتل العشوائي، إلي تعمد التسديد إلي عيون البشر، خاصة الشباب، السكوت عن هذا الفعل خيانة للإنسانية. استقر جثمان الشاب وسط القمامة، هيئته العامة في ذاكرتي، ماثلة عندي، شاب خرج لتحرير وطنه فينتهي إلي القمامة بأيدي باشا مدرب، وتم سحله بأيدي آخر، حياة إنسانية انتهت برصاص من يعملون لخدمة المافيا الحاكمة والتي ماتزال بقاياها ماثلة قوية بالمصالح، وليس لخدمة الشعب كما كانت طبيعة الشرطة المهنية عبر التاريخ كان ممكناً لهذا الشاب ان يستمر في الحياة، أن ينجب، أن يرعي ابناءه، أن يصبح أباً، أن يبدع، لكن القتلة الجدد قطعوا الطريق عليه. تري ما اسمك يا بني؟ ما اسم من سلبك منحة الخالق سبحانه لخلقه، السعي في الحياة الدنيا؟ متي جئت إلي الدنيا؟، رأينا خروجك منها لكننا لم نعرف عنك شيئاً، من أي والدين جئت؟ متي نطقت أول مرة؟ متي بدأت تتعرف علي الأبجدية؟ متي صبوت وكيف فرحت بك أمك. وكيف احتضنك أبوك؟ كيف كان أول أيامك في المدرسة؟ كيف انتقلت من طور الي طور؟ من عتبة إلي أخري. كيف تدرجت؟ كيف شببت؟ كيف تطلعت إلي المستقبل؟ هل حصلت علي عمل أم أنك كنت تنتظر مثل أقرانك؟ هل أملت في مساعدة ابيك وأمك؟، ليتني أعرف سعيك؟ ليتني ألم بمسارك ومسارات أمثالك الذين خرجوا لافتداء الوطن، جاءوا لا يعرفهم أحد، ومضوا بدون أن يعرفهم أحد، وأمثالك هم الذين يقتلون حقاً، هل خفق قلبك بالحب؟ كم بقي جسدك الطاهر ممدداً فوق القمامة؟ أين انتهي أمرك، هل ترقبنا من اللامكان؟ هل تأمل عبر الأبدية؟ ماذا أقول يا بني؟ يا من أنت بمنزلة ابني، ماذا بوسعي إلا أن أبكيك أصرخ واصفاً ما جري بأنه عار العصر. من ديوان الشعر العربي قال الأمير عبدالقادر الجزائري: لقد حرت في أمري وحرت في حيرتي فأي الأمور ثابت هولي أي فهل أنا موجود وهل أنا معدوم وهل أنا ثابت وهل أنا منفي وهل أنا ممكن وهل أنا واجب وهل أنا محجوب وهل انا مزي وهل أنا في قيد وهل أنا مطلق ولست سماوياً ولا أنا أرضي وهل أنا في حيز وهل عنه نازح وهل أنا ذا شيء وهل أنا لا شيء وهل أنا ذا حق وهل أنا ذا خلق وهل عالمي غيب أو أني شهادي وهل أنا جوهر وهل أنا ذا كيف وهل أنا جسماني أوأني روحاني وهل أنا مجبور وهل لي خيرة وهل أنا عالم وهل جاهل عي وهل فاعل أنا وهل غير فاعل وهل قدري يقال أو أنا كسبي وكنت أراني فاعلاً ثم بعد ذا رأيتني فاعلاً به وذا بادي ومن بعد ذا رأيته بي فاعلاً بعكس الذي قد كان والأمر ملوي ولم يبق ذا وذا ولا ذاك باقياً فلم يبق إلا الله ماله ثاني فإن شئت فاثبت لي النواقض كلها وان شئت فادفعها فنشرك لي طي وإني حال السحق والمحو والفنا رجعت لاطلاقي لا رشد ولا غي وصرت إلي حقي وربي وغيبتي فلا خلق لأعبر ولا شيء كوني تجردت من حسي ومن نفسي راقياً ومن روحي حتي قيل انني قدسي ومالي من مثل ومالي من ضد فلا تطلبوا مثلاً ولا تبغوا لي ضدا الأمير عبدالقادر