العالم يعيش مخاضا حقيقيا سينتهي بالتهام النمور الاقتصادية الآسيوية لبنية النفوذ الاقتصادي العالمي التقليدية لا غرابة في القول إن العالم خضع خلال العقد الأخير إلي تحولات عميقة في بنية انشغالاته، ونجح الاقتصاد في إزاحة السياسة عن صدارة اهتمام المجتمعات الدولية. وأضحي العالم يتحدث لغة الاقتصاد بدل لغة السياسة، بل والأدهي من ذلك أن الاقتصاد أصبح يحكم السياسة وهذا يعني أن القرارات السياسية عادت رهينة حسابات المصالح الاقتصادية للدول والجماعات والأفراد، بل ولم يعد غريبا القول بأن الشركات متعددة الجنسيات والعابرة للقارات هي التي أضحت تصوغ أهم القرارات السياسية التي تهم حياة الأفراد والمجتمعات في العالم. وأن السياسيين والمؤسسات التشريعية والتنفيذية إنما ينوبون جميعا عن أصحاب رءوس الأموال والشركات العظمي في اتخاذ تلك القرارات. لذلك خضع العالم لفترة طويلة من الزمن لحروب طاحنة تتعلق بموازين النفوذ الاقتصادي في العالم. ولسنا هنا في حاجة لاستعراض اللائحة الطويلة لهذه الحروب الضروس التي أزهقت أرواح الملايين من المدنيين ودمرت أمما وشعوبا، وأبادت حضارات بأكملها حفاظا علي مصالح اقتصادية ومالية معينة تهم أشخاصا وأوساطا اقتصادية معينة. لكن هل لا تزال بنية موازين القوي التقليدية في إطارها التقليدي المعلوم حيث تقبض الدول الصناعية الكبري عبر دروعها الاقتصادية خصوصا في أوروبا الغربيةوالولاياتالمتحدةالأمريكية برقبة الأوضاع الاقتصادية في العالم، تتحكم في رقاب الشعوب وفي المصالح الاقتصادية بما يخدم أجنداتها، أم أن هناك متغيرات جذرية وعميقة في هذا الصدد أدخلت تعديلات جوهرية علي بنية وهرم النفوذ الاقتصادي في العالم؟ هذا السؤال صار محوريا في النقاش العام السائد في مختلف الأوساط والمنابر في مختلف أصقاع المعمورة، وأضحي هاجسا موقظا لقوي النفوذ الاقتصادي والمالي التقليدية في العالم، والتي تملكها الخوف والقلق علي مصيرها. وهذا ما تحول إلي موضوع بالغ الأهمية لدي مراكز الأبحاث والدراسات في العالم التي استعرضت في أبحاث ودراسات هامة نشرتها للعموم التفاصيل الكثيرة والمثيرة المتعلقة بهذا التحول، وأجمعت علي أن مؤشر التغيير ينتقل من المواقع التقليدية في أوروبا والولاياتالمتحدة ويتجه بسرعة كبيرة إلي منطقة آسيا، وأن المؤشرات الماكرو اقتصادية العالمية تهاجر من المناطق التي جثمت خلالها علي الصدور لعصور طويلة نحو مناطق جديدة ليست هذه المرة غير منطقة آسيا الآخذة في التغول، معلنة عن دخول العالم في زمن اقتصادي عالمي جديد، وكاشفة عن أن القرن الحالي سيكون قرنا آسيويا بامتياز. في هذا الصدد لم يختلف ما حفل به التصنيف الجديد الصادر قبل أيام عن المركز البريطاني الشهير »ENTEک FOک E»ONOMI»S AND BUSINESS کEA»H عما كان قد أكده تقرير آخر صدر عن شركة PW» البريطانية المتخصصة في الأبحاث والدراسات الاقتصادية فيما يتعلق بموازين القوي الاقتصادية في العالم خلال السنوات المقبلة. وعما كان صندوق النقد الدولي قد أكده أيضا في تقرير سابق له. بل كان مهماً للمهتمين ولأصحاب القرار الاقتصادي والسياسي في العالم ملاحظة أن النتائج كانت متطابقة والخلاصات متوافقة بين كل هذه المراجع. لقد صدر التصنيف الثاني الذي نشر في 26 ديسمبر الماضي بيد أن التقرير الأول نشر قبله بحوالي عشرة أشهر من نفس السنة الماضية (فبراير 2017) والوثيقتان معا تؤكدان حقائق مذهلة جديرة بالاهتمام بالنظر إلي تأثيراتها في موازين القوي الاقتصادية والسياسية في العالم خلال العقد المقبل. وهي توضح بجلاء التراجع المهول للاقتصادات القوية حاليا لصالح قوة اقتصادية صاعدة تقوم اليوم بالإزاحة التدريجية للاقتصادات القوية التقليدية وتأخذ مواقعها بينما تتواري الأخري إلي الخلف. فالتصنيف الحديث لمركز البحث في الاقتصاد والأعمال يؤكد أن سرعة الاقتصاد الآسيوي ستزداد خلال الخمس عشرة سنة المقبلة بوتيرة أسرع من نظيرتها في الدول الصناعية الكبري حاليا. وهكذا، فبحلول سنة 2032 ستتقدم كل من كوريا وأندونيسيا إلي مواقع متقدمة جدا وتصبحان ضمن أحسن وأقوي عشرة اقتصادات في العالم، بيد أن دولا من قبيل التايوان والتايلاند والفلبين والباكستان ستلتحق خلال نفس السنة بأحسن وأقوي 25 اقتصادا في العالم. وأن أقوي أربعة اقتصادات من أصل خمسة في العالم ستكون من قارة آسيا ويتعلق الأمر بكل من الصين واليابان والهند وإندونيسيا. وأن الصين وبحلول سنة 2030 ستزيح اقتصاد الولاياتالمتحدةالأمريكية من المرتبة الأولي بشكل نهائي لتتربع عليه بكل ثقة واطمئنان. موضحا في هذا الصدد أن الناتج الإجمالي الخام في الصين يضاعف حاليا مثيله في الولاياتالمتحدةالأمريكية. ويتوقف التصنيف الجديد عند المؤشرات الدقيقة التي ترجح فرضية التحولات البنيوية في هرم الاقتصاد العالمي، ويستدل في هذا الصدد بالتأكيد علي أن اقتصادات الدول المتقدمة كانت إلي وقت قريب تمثل 76 بالمائة من حجم الاقتصاد العالمي، لكن هذه النسبة ستتراجع في سنة 2032 لتنزل إلي 44 بالمائة فقط. تقرير شركة (PW») البريطانية الصادر في شهر فبراير من السنة الفارطة يزكي مجمل هذه الحقائق، إذ يستخلص في هذا الصدد أنه »ثمة تحول في ميزان القوي الاقتصادية العالمية لصالح الدول الصاعدة اقتصاديا، وتحديدا قارة آسيا، ليصبح هذا القرن آسيويا بامتياز في ظل ما ستحققه اقتصادات دولها من معدلات نمو وطفرات تنموية عالية» وأكد واضعوه في هذا الاتجاه أنه من المتوقع أن تتحول القوة الاقتصادية العالمية بعيدا عن الاقتصادات المتقدمة حاليا في أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية واليابان، وسيستمر هذا التحول علي مدار الخمسة والثلاثين سنة المقبلة. ويؤكدون في هذا الشأن أن ما أصبح يصطلح عليه باقتصادات الدول السبع الكبري الصاعدة وهي الصينوالهند والبرازيل وروسيا وإندونيسيا والمكسيك وتركيا تمكنت بالفعل من تجاوز الدول الصناعية السبع فيما يتعلق بقياس معدل القدرة الشرائية. ولذلك لا ريب ولا عجب في تقدير الخبراء الذين أعدوا هذا التقرير في أن تصير الدول السبع الكبري الصاعدة القوي الفعلية الدافعة للاقتصاد العالمي خلال الفترة الممتدة إلي 2050. ويتوقعون أن يتفوق الاقتصاد الصيني مثلا علي نظيره الأمريكي وفقا لمعدل القوة الشرائية ومعدل صرف السوق بشكل كامل ونهائي بحلول سنة 2028. بيد أن الاقتصاد الهندي الذي يحتل حاليا الرتبة الخامسة في ترتيب الاقتصادات القوية متفوقا بذلك علي اقتصادات كل من فرنسا والمملكة المتحدة اللذين يحتلان بالتتابع الرتبتين السادسة والسابعة، مرشح ليصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم بحلول عام 2050 وفقا لمعدل القدرة الشرائية، وأن يحتل المركز الثالث وفقا لمعدل سعر صرف السوق. ولا تختلف تقديرات صندوق النقد الدولي عما توقعته التقارير موضوع هذه المعالجة، بل إنها تتفق تماما مع مضامينها ويثبتها من خلال التأكيد علي أن منطقة آسيا / المحيط الهادي ستتمكن من النمو خلال السنة الجارية (2018) بنسبة تصل إلي 5،4 بالمائة وهي بذلك ستحقق نسبة أعلي من متوسط نسبة نمو الاقتصاد العالمي المحددة في 7،3 بالمائة، بيد أن معدل نمو الاقتصاد الأمريكي لن يتجاوز خلال نفس السنة نسبة 2،2 بالمائة ولن يتعدي 2 بالمائة في أوروبا، في حين يصل في إفريقيا إلي 3،7 بالمائة. ويعزز صندوق النقد الدولي هذه الحقائق بالتذكير أن الأسواق الاستهلاكية في هذه المنطقة تمثل الأكبر والأقوي في العالم، وأن هذه القوة ستزداد مع زيادة عدد السكان هناك بما يناهز 410 ملايين نسمة وهي بذلك ستستحوذ علي نسبة 50 بالمائة من ساكني العالم بما يعني ذلك من استغلال موفق لأكبر الأسواق الاستهلاكية العالمية، ناهيك عن أن خبراء الاقتصاد في العالم يتحدثون في هذا الموضوع عن معطي مهم يمثل رافدا أساسيا ورافعا محوريا لمستقبل الاقتصاد في هذه المنطقة، ويخصون بالذكر الآفاق الكبيرة والرحبة المرتبطة بجهود التمدين. ذلك أن نسبة التمدين في منطقة آسيا لم تتجاوز حتي الآن 40 بالمائة، بيد أنها تتراوح في الدول الصناعية ما بين 80 و90 بالمائة. وإذا ذكرنا بأن جهود التمدين غالبا ما ترافق بثورة حقيقية في القطاع الصناعي والخدماتي بما يوفر مجالات واسعة أمام المقاولات وما يترتب علي ذلك من فرص شغل بالملايين، فإننا نستنتج أن الهامش في هذا الصدد يضيق بشكل كبير بالنسبة للدول الصناعية العظمي، التي كادت تنتهي من أشغال التمدين بينما يتسع بشكل لافت بالنسبة لدول القارة الآسيوية، التي مازالت تفصلها مساحات شاسعة علي تمدين مجتمعاتها. والأكيد، فإن الإشكاليات الاجتماعية والاقتصادية السائدة في الدول الآسيوية، التي تبدو من حيث الشكل أنها تمثل كوابح حقيقية أمام التطور والنمو الاقتصادي، لا تشكل في جوهرها عوائق أمام الصعود اللافت لهذه الدول في سلم الترتيب الاقتصادي العالمي، إذ يقلل الخبراء من خطورة تداعياتها. فإذا كانت وكالة (بلومبرغ Bloomber) المختصة في الاقتصاد تشير في تقرير لها إلي تدني الدخل الفردي في الدول الآسيوية، وتنبه إلي الخطورة البالغة التي يكتسيها التفاوت المهول بين الأجور في كثير من هذه الأقطار، وتوضح في هذا الشأن أن أرباب العمل في كثير من الدول الآسيوية يزيد دخلهم بشكل غير مقبول علي دخل العمال والموظفين، ويستدل بما هو سائد في الهند حيث يكسب ويربح أرباب العمل هناك 229 مرة أضعاف ما يربحه مواطن عادي براتب متوسط، فإن الخبراء الاقتصاديين مع ذلك يؤكدون أن هذا المعطي غير كاف وحده لإيقاف الصعود الاقتصادي هناك، وبعضهم يستدل بالقول بأن الولاياتالمتحدةالأمريكية تحتل المرتبة الأولي عالميا فيما يتعلق بالتفاوت في الأجور بين مواطنيها، لكن ذلك لم يمنعها من أن تتربع لمدة طويلة علي عرش أقوي الاقتصادات في العالم. إذن، العالم يعيش مخاضا حقيقيا سينتهي بالتهام النمور الاقتصادية الآسيوية لبنية النفوذ الاقتصادي العالمي التقليدية التي تتميز باختلالات عميقة، أفضت حتي الآن إلي احتكار مجموعات اقتصادية ومالية معينة لمصادر الثراء في العالم، ومكنت المحظوظين من التفرد بشروط العيش الكريم، بيد أن الغالبية الساحقة من المجتمعات البشرية تواجه خصاصا فظيعا وعجوزات كبيرة في العيش الكريم.