كانت لقطة الشوارعيزم -فيما قبل ثورة 52 يناير- دلالة تشير إلي مثلث الاستقواء علي الناس بأضلاعه: »الطابور الخامس في الحكومة الذي يعني الوزراء والحزبيين من رجال الأعمال والفاسدين وخدم الاحتكارات الدولية . بالاضافة إلي بعض المتمولين من رجال الأعمال الذين عاثوا في الساحة الاقتصادية ظلما وجورا وافقدوا الناس الشعور بالعدل وبالحماية، فضلا عن بعض الاعلاميين في الوسائل القومية الحكومية أو الخاصة المستقلة الذين عملوا في خدمة ذلك التحالف المشبوه بين المال والسياسة. أما الشوارعيزم بعد 52 يناير فهي تومئ إلي حالات العشوائية والفوضي الإدارية والسياسية والفئوية التي توشك إطاحة فرص وطننا في وضع أكثر استقرارا وبما يؤمم قدرته علي التحرك إلي الأمام علي نحو رشيق ومتوازن ليس فيه تعثر أو اعاقة. واليوم أريد ان أحدثكم عن حالة شوارعيزم لاحظتها في أداء وزارة الثقافة علي الرغم من ان الوزير الجديد الدكتور عماد بدر الدين أبوغازي لم يدفئ حشية مقعدة بعد، إذا أمضي حفنة قليلة من أيام استوزاره، ولم يأخذ فرصته في استعدال أوضاع، أو استحداث توجهات، ولكننا -حقيقة- في مرحلة لا تعطي فرصة لأحد، ولا ينبغي لنا ان نعطي فيها فرصا لأحد.. فالمفترض ان رئيس مجلس الوزراء اختار تشكيلته الوزارية بناء علي معايير دقيقة تلائم الظرف الاستثنائي الذي نعيش، وأي من وزرائه -بقول واحد- ينبغي ان تظهر ملكاته في الإدارة منذ اللحظة الأولي، لان مصر كلها ليس لديها وقت ولا مهل.. ثم ان الدكتور عماد أبوغازي هو أحد أبناء وزارة الثقافة، عمل فيها كرئيس للمجلس الأعلي للثقافة لشهور، ونائبا للدكتور جابر عصفور في ذات المجلس لسنوات، يعني هو ليس غريبا عن الوزارة، لا بل -بعبارة واضحة- هو أحد الأبناء البررة لنظام فاروق حسني الذي ظل يقود العمل الثقافي لما يقرب من ربع قرن.. اذن الدكتور عماد اما انه كان متسقا مع نظام ثقافي رفضه المثقفون والناس لأعوام، واما انه كان معارضا أو مخالفا لذلك النظام وظل يحتل منصبه ولم يغادره أو يستقيل أبدا، أو انه مقتنع -مازال- بذلك النظام الثقافي حتي انه لم يبد ما يفيد رغباته أو نواياه في تغييره. والدكتور عماد أبوغازي رجل خلوق ومثقف ومحترم، وكل تلك صفات -مع كامل تقديرنا وعظيم احترامنا- لا تخلق كادرا سياسيا قادرا علي التفاعل الصحيح مع الناس ومع اللحظة. الناس -بالنسبة لوزير الثقافة- هم: »الكوادر المثقفة.. يعني المبدعون وصائغو الرسالة الثقافية« و»الكوادر المستثقفة.. يعني الجمهور المقصود بالرسالة بغية احداث أثر في سلوكاته أو نمط تفكيره«.. ولقد لاحظنا أمرين في الأيام القليلة التي تولي فيها الدكتور عماد أبوغازي أمر حقيبة الثقافة في مصر. الأول هو استعجابه تحتاج إلي التمهل والمناقشة لجموع من المثقفين الغاضبين الذين رأوا ان تكون لجان المجلس الأعلي للثقافة هي صاحبة الرؤية الثقافية التي تمليها علي الوزارة »بمعني الالزام الكامل بتنفيذ تلك الرؤية، ويدعم ذلك التصور طرح ان يكون المجلس الأعلي كيانا مستقلا عن الوزارة.. وهذا كلام يحتاج إلي حوار مجتمعي »لانه ليس احد المطالب الفئوية الخاصة بظروف عمل داخل وزارة أو قطاع ولكنه أمر يتعلق بالشعب المصري كله الذي ينبغي ان يكون له دور ورأي في تشكيل الرؤية الثقافية لتلك الوزارة وهو يصنع -مع كثير تبجيلي- لم ينتخب أعضاء لجان المجلس الأعلي للثقافة لينوبوا عنه في وضع تلك الرؤية الثقافية. الشعب سوف ينتخب برلمانه، والفائز في تلك الانتخابات سيشكل الوزارة »بما فيها وزير الثقافة«، وتكليف وزير الثقافة سيكون وضع تلك الرؤية الثقافية، أو تنفيذ رؤية حزبه أو جماعته السياسية، وعلي جميع أجهزة الوزارة بما فيها المجلس الأعلي للثقافة تنفيذها.. الدكتور عماد أبوغازي -بغرابة شديدة- تراجع أمام الغاضبين من أعضاء المجلس وافق علي ان يصبح المجلس كيانا مستقلا يملي عليه وهو ينفذ، ويهيمن علي أدائه وهو يطيع، الأمر الذي جعل ألف فزر يعكرتون في صدور من تابعوا تلك العملية.. الاستاذ منصور حسن -وهو من أكثر المسئولين المصريين اقناعا لي علي امتداد سني عملي العام- لما أصبح وزيرا للثقافة وتأمل حال المجلس الأعلي لرعاية الفنون والآداب رأي ان يحل مكانه المجلس الأعلي للثقافة مكونا من لجان مختلفة تمد وزير الثقافة بالرأي والمشورة.. أي لا تقوم »بصناعة القرار الوزاري« وانما تقوم »بتشكيل القرار الوزاري بالرأي«. ولكن الدكتور عماد أبوغازي وزير الثقافة يبدو وكأنه اعتاد وأدمن دور الرجل الثاني المطيع المتفاني في تنفيذ تعليمات رئاسته، وانه لم يستطع التواؤم مع منحة دور الرجل الأول حين اتاه، أو مع عطية التكليف التنفيذي يوم تسلمها. هو يريد مجلس أعلي للثقافة مستقل عن الوزارة يتلقي منه رؤية واجبة التنفيذ من سعته وتاريخه.. وحتي لو كان لنا في مثقفي المجلس الغاضبين أصدقاء أعزاء ومبدعين نعترف بهم ونحبهم، فإننا لا نري لهم حقا في اختراع وزارة موازية تفضي اليها موافقات عماد أبوغازي التي جاءت بلا قيود، وبلا شروط.. ونحن نعرف ان ما يجري في وزارة الثقافة -الآن- هو رد فعل متأخر جدا لتجاهل فاروق حسني الكثير مما نادي به أعضاء لجان المجلس في كل مكان »أذكر -مثلا- ان الأديب الكبير محمود الورداني أحد المحتجين الآن واجه فاروق حسني في برنامجي التليفزيوني »حالة حوار« منذ سنوات بانتقادات لاذعة ومطالب ملحة، ولكن الوزير كان حساسا جدا للنقد وميالا إلي اعتباره تحركا يستهدفه شخصيا، لم يعر التفاتا لغضب الورداني أو أفكاره ونظر إليه بوصفه »مزقوق«. الآن.. لا ينبغي ان يأخذنا الغضب بعيدا، ولا يجب ان تشجعنا موافقات عماد أبوغازي »وفيها من التسليم أكثر من الاستجابة«، الان.. لا ينبغي لنا تقبل منطق »الرجل الثاني« الذي يتعامل به عماد مع وزارة الثقافة لاننا إذا ابتلعنا هذه الصيغة فسوف تؤدي بنا إلي تقبل ان يعود الدكتور جابر عصفور رئيسا للمجلس الأعلي للثقافة، ولكنه -في الصيغة المقترحة- سوف يكون رئيس وزير الثقافة!! ان النسق الثاني الذي يستحق التأمل والمناقشة في أداء الدكتور عماد أبوغازي -والذي لم يجعلنا سعداء به في أيام استوزاره القليلة- فكان المتعلق باختياره قيادة جديدة لهيئة الكتاب.. إذ تعجل الوزير طرح اسم أحمد مجاهد »رئيس هيئة قصور الثقافة ليحتل مقعد رئيس هيئة الكتاب« الذي كان يشغله الدكتور صابر عرب بالاضافة إلي عمله رئيسا لدار الكتب.. وقد صار معروفا ان الوزير الأسبق فاروق حسني كان يريد تعيين احد خلصائه من مصممي وقائدي حملته غير الناجحة لتولي رئاسة منظمة اليونسكو، ولكن الأجهزة الرقابية رفضت ترشيح الوزير باعتبار ان المرشح ليس لائقا لتلك المهمة، فقام فاروق بتعيين رجله في منصب قيادي آخر في الوزارة، وجمد الأمر كله في انتظار ان يعيد ترشيح رجله -كما يفعل دائما- في الحاح اداري يؤدي إلي قبوله، والاذعان لتلك الغي هذه السياسية في نهاية المطاف.. ولما جاء عماد أبوغازي بدا متعجلا جدا في تعيين أحمد مجاهد وكأن تلك هي الأولوية الأولي التي لا تسبقها أولويات في اللحظة الراهنة، الأمر الذي استشاط له العاملون بالهيئة غضبا وبخاصة ان هناك انتقادات صاخبة متداولة في الوزارة حول أداء الدكتور أحمد مجاهد منذ فترة طويلة. استفز عماد أبوغازي العاملين في الهيئة بذلك القرار من دون مبرر، وحاول ازاحة رجل محترم جدا هو الدكتور محمد صابر عرب من رئاسة الهيئة، ثم ان للدكتور صابر نائبا يشهد له الجميع هو الاستاذ حلمي النمنم، فلماذا اندفع الوزير الجديد إلي اطاحة صابر عرب والاتيان بأحمد مجاهد بالذات، وكأنها مهمة مقدسة لا ينبغي ان تسبقها مهمات. الحادثان لا يدفعان إلي الارتياح، ونحن -فقط- نود بهذه السطور ايضاح أننا لن نسكت علي استشراء الشوارعيزم الاداري والسياسي في أي من مرافق الدولة، فقد علمتنا ثورة 52 يناير ان نخاصم السكوت!!