لاشك أن صدور قرار المجلس الأعلي للقضاء بالاجماع بمنع بث وإذاعة وقائع جلسات المحاكمات في القضايا المختلفة يتفق مع احترام حق اساسي من حقوق الإنسان وهو حق الانسان في التقاضي لعدة اسباب من أهمها ان الفضائيات والإعلام المرئي والمسموع يدخل بمعدات تصويرية ومكروفونات لم يتعود المتهم عليها أوالمدعي أوالمدعي عليه أو حتي القضاة والمحامون، علاوة علي أن جلسات القضاء تحتاج الي تركيز القاضي لسماع المتهم والمرافعة ووجهة نظر النيابة العامة وكافة اطراف النزاع وهذا يستدعي تركيزاً لا يتحقق لاي طرف من خلال تحرك الاجهزة ومعرفة ان هناك تصويراً ومونتاجاً يركز ويقطع وفقاً للقناة الإعلامية وتوجهاتها السياسية والعقائدية. في نفس الوقت فإنه قد يدعو الي أن يعتقد اي طرف في المحكمة وخاصة الزملاء المحامين التركيز علي الالقاء أمام الكاميرات الإعلام لها الاولوية علي التركيز علي الدفاع القانوني المركز عن المتهم أوعن القضية من الناحية القانونية مما يقلل من حقوق المتقاضين في هذا الشأن. ولذلك فإن قرارالمجلس الأعلي للقضاء لم يكن موجهاً للقضاة بقدر ما كان موجهاً إلي حماية حق التقاضي بمعني ليس فقط الحق في التوجه الي القضاه بل لابد أن يتاح للانسان المصري قضاءا عادلاً بعيداً عن المؤثرات التي يمكن أن تثير كثيراً من الغيوم علي مداولات وحكم القضاء. وحيث أنني استاذ وعميد سابق لكلية الحقوق فإن القضاة والنيابةوالمحامين معظمهم من اساتذتي وزملائي وتلاميذي، وإنني أعلم مدي حرصهم علي العمل القضائي الموضوعي العادل لكافة القضايا المطروحة، وفي نفس الوقت وبالنسبة للبث الإعلامي فإنني أعلم بأن معظمهم يتحرجون لاسباب كثيرة من بينها: أولا: وجود هذه الالات الحديثة للتصوير والإذاعة اثناء تناول القضية من مرحلة التحقيق الي مرحلة الحكم البات. ثانيا: ان وسائل الإعلام في كثير من القضايا قد تعرض اراء متعددة امام الرأي العام وتؤثر فيها قبل صدور الحكم النهائي البات ممن يستهويها من الشهود وكذلك أحد أطراف الدفاع دون غيرهم عن رأيهم في القضية وتوقعاتهم ومبرراتهم مما يسبب حرجاً كبيراً وتشكيكاً في أحكام القضاء التي تصدر وفقا للقانون وقد تكون معارضة لما استقر - خطأ - لدي الرأي العام من خلال وسائل الإعلام. وإنني أري أن هذا القرار يجب ان يطبق داخل كل حرم القضاء وليس فقط داخل قاعة المحكمة بل لكي يتمتع الانسان بحقه الاساسي في التقاضي يجب أن يمنع النشر من المحطات المرئية والإذاعات المسموعة وإلا وجدنا انفسنا امام جهتين قضائيتين الأولي القضاء العادل الذي يطبق القانون والثانية القضاء الإعلامي الذي يذيع ما يراه مناسباً لسياسة إدارته . وعلي سبيل المثال إذا كان هناك شخص من الشخصيات العامة وقدم للمحاكمة، فإن اجهزة الإعلام تتنافس علي تصويره في أثناء المحاكمة وداخل القفص والتشهير بسمعته وسمعة اسرته وعمله، وإذا وصل القضاء الي حكم ببراءته ويكون هذا الحكم مؤسسا علي صحيح القانون وموضوعي، فإنه يواجه بقضاء مضاد غير رسمي وهو تساؤل لرأي عام قد تم رسمه خطأ وفقاً لسياسة الجهة الإعلامية، وهذا يدعو الي التجريح في الهيئة القضائية وفي قضاء مصر بالرغم من وجود ضمانات كثيرة للاحكام ومن أهمها الطعون المتعددة التي تضمن الوصول الي حكم بات عادل لاي قضية. ولذلك فمن اساس حق الانسان في التقاضي هو عدم جواز التعرض للقضايا المنظورة أمام المحاكم مادام التحقيق والمحاكمة والاحكام مازالت مفتوحة أو محل طعن ولم يصدر فيها حكم نهائي بزت لان هذا سيؤدي الي التأثير علي القضاء أو حتي علي الرأي العام الذي يكون مستعداً لموقف واحد محدد. ولا شك ان مجلس القضاء الأعلي قد تصدي بحق لظاهرة انتشرت مع تكاثر الفضائيات والإعلام الفضائي، وجاء قراره مقرراً ومفعلاً لنص قانون العقوبات وخاصة المادة 187 من القانون التي نصت علي معاقبة كل من ينشر بأي طرق من طرق العلانية أمور من شأنها التأثير في القضاة الذين يناط لهم الفصل في دعوي مطروحة أمام أي جهة من جهات القضاء في البلاد، أو في رجال القضاء والنيابة أو غيرهم من الموظفين المكلفين بالتحقيق أو التأثير علي الشهود الذين يطلبون لأداء الشهادة في تلك الدعوي أو في هذا التحقيق أو أمور من شأنها منع شخص من الافضاء بمعلومات إلي ولي الامر أوالتأثير علي الرأي العام لمصلحة في الدعوي اوالتحقيق ضده. ومن ناحية أخري فإن حق الانسان في المعرفة والعلانية ايضاً لا يتعارض مع حق الانسان في قضاء عادل وخاصة أن احد اركان القضاء المصري هو النص علي علانية المحاكمات مالم تقرر المحكمة غير ذلك وهذه العلانية يجب ان تكون مقصورةعلي نقل ما يتم في الجلسة بل الأكثر من ذلك ووفقاً لمباديء العدالة الا يذكر أسم القضاة او رجال النيابة أو المحامون. وفي بعض المراحل لا يجوز ان يشار إلي اسماء المتهمين لأن المتهم بريء حتي تثبت ادانته لان السبب الاساسي للعلانية هو الحضور داخل قاعة المحاكمة وليس التشهير بالاشخاص الذين قد يقضي ببراءتهم بعد ذلك. وأخيراً تحية خاصة للقاضي الدكتور سري صيام والسادة اعضاء مجلس القضاء الأعلي لبعد نظرهم ولتأكيد هيبة القضاء المصري وتأكيد احترام القانون وحقوق الانسان المصري الاساسية وخاصة في حق التقاضي وحق المعرفة. وإنني هنا أدعو السادة القضاة بمجلس الدولة بأخذ هذا المسار ايضاً تحقيقا لاحترام حقوق الانسان المصري وتأكيدا لهيبة قضائه واحكامه.