يحكي ان احد التجار اليهود توفي والده فأعلن في الصحف عن الوفاة علي النحو التالي »تنعي فابريقه كوهين عن وفاة مؤسسها وتبيع وتشتري بأحسن الاسعار..« -أي ان التاجر استغل واقعة موت والده واعلن معها عن بضاعته وتجارته!!.. تذكرت ذلك لدي متابعة صحيفة الوفيات بالصحف اليومية السيارة.. تلك الصفحة التي طالما اشتهر عنها بانها الوحيدة التي تحمل الانباء والأخبار الصحيحة المؤكدة: فاذا بها اصبحت كغيرها »كلام جرايد« بما تحمله وتنشره من اكاذيب -حتي علي الموتي- فضلا عن النفاق والرياء من البشر الاحياء!! فاعلانات الوفيات كثيرا ما تسهب في الخصال الحميدة للمتوفي ومدي حسبه ونسبه وما ناله من القاب رفيعة وأوسمة ونياشين فضلا عن اصوله العريقة في الشرف والنزاهة مع ان الموتي لا يجوز عليهم سوي الرحمة ولا ينفعهم سوي الدعاء لهم بالمغفرة.. اما مشاطرات العزاء التي تخصص لها مساحات كبيرة في صورة »براويز« ومواقع الصدارة فهي تعلن اولا عن اصحابها ومكانة كل منهم أو نشاطه قبل ان تبدي مدي الحسرة واللوعة والحزن والاسي الذي يعتصر القلوب علي فراق الفقيد الذي لا يجود الزمان بمثله أبد الدهر.. نوع من البشر يهوي التلميع الاعلامي، ونوع آخر يباهي بالنفاق والرياء والوصولية -لا ألوم الصحف علي الاعلان، ولكن اللوم علي من يدفع قيمة الاعلان ويسدده علي حساب الهيئات العامة والمؤسسات الاعتبارية أو علي حساب الزبائن والعملاء خصما من الضرائب المستحقة!! ولما كان الموت هو الحقيقة الوحيدة في الوجود، وهو النهاية الحتمية يجري علي جميع الكائنات الحية في هذا الكون.. وكانت مصيبة الموت تهون دونها الكوارث والشدائد والملمات علي ما يوجب التفكر والتدبر في فلسفة الحياة وان تتعظ من حكمة الموت، والعمل للدار الآخرة.. فان مواساة أهل الفقير في مصابهم، والوقوف بجانبهم، والشد من أزرهم وتقديم العون والمساعدة اليهم لهي مما تدعو اليه الاديان السماوية، غير ان الناس في غفلة لاهون بزينة الحياة الدنيا، وفي تفاخر فيما بينهم حتي في سرادق العزاء ومراسم ليلة المآتم، وتشييع جثمان وروح ذهبت الي بارئها العظيم!! فمن البدع والمحدثات التي تثير الدهشة، والعجب ما يدور ويحدث ببعض من دور المناسبات وسرادقات العزاء من وجود كاميرات فيديو لتصوير اعلام القوم وكبار الشخصيات وغيرهم ممن يحضرون لتقديم واجب العزاء، وربما كان ذلك لتسجيل الحضور والغياب للتعامل معهم بالمثل ورد المجاملة، أو كان ذلك للمنظرة والتفاخر في غير موضعه!! أما داخل سرادق العزاء فهو اقرب لمقهي أو كافية.. فلم تعد القهوة السادة هي المشروب الوحيد الذي كان يعبر عن حالة الحزن والسلوي.. ولكن مشروبات اخري ابتداء من المياه المعدنية المثلجة مرورا بالشاي والقرفة والينسون والبرداقوش وغيرها.. ولا ننسي المطبوعات التي توزع كهدايا علي روح الفقيد فضلا عن علب »الكلينكس« للمناديل الورقية والسجائر!! وعن الترحم علي روح المتوفي ومواساة اهله وذويه، فان احاديث النميمة والمكالمات الجانبية ورنات الموبايل علي اختلاف انغامها تعلو علي صوت من يقرأ القرآن الكريم.. فلا استماع أو انصات لكتاب الله ما دام هناك لقاءات تعارف ومقابلات الاصدقاء ومعاملات البزنس وطلبات المصالح والمنافع ليختلط الحابل بالنابل ويتحول سرادق العزاء -للاسف- الي ما يقرب من كرنفال لا يخلو من »قفشات« وابتسامات!! ان الاستهانة بالموت وما طرأ من تحول عكسي سالب للهدف والحكمة من اقامة ليلة المأتم، والعزاء، والتأبين للمتوفي لامر يدعو للتفكير واعادة النظر بتوجيه النفقات الي اعمال البر والصدقات والوقف للخيرات »رحمة ونور« للأموات، وقصر العزاء علي صلاة الجنازة فقط -ولسوف أبدا بنفسي لتكون هذه الدعوة هي وصيتي لأهلي من بعدي- لا أراكم الله مكروه في عزيز لديكم- ومقدما اقول لكم عظم الله أجركم.. وشكر الله سعيكم!!