"التنظيم والإدارة" يعلن ترتيب امتحانات مسابقات التوظيف حتى نهاية العام    تنسيقية شباب الأحزاب تحتفل بمرور 7 سنوات على تأسيسها.. وتؤكد: مستمرين كركيزة سياسية في الجمهورية الجديدة    التعليم: تدريب مجاني لمعلمي الإنجليزية بالتنسيق مع السفارة الأمريكية -(مستند)    مدبولي يترأس مائدة بعنوان الإصلاحات الهيكلية لتعزيز تنافسية القطاع الخاص    بعدما حددت الثلاثاء المقبل.. إيران ترجئ تشييع جنازات قادتها العسكريين    قصة الصراع في مضيق هرمز منذ الاحتلال البرتغالي وحتى الحرس الثوري الإيراني    إيران تمتلك ورقة خطيرة.. مصطفى بكري: إسرائيل في حالة انهيار والملايين ينتظرون الموت بالملاجئ    تشكيل بايرن ميونخ وأوكلاند سيتي في افتتاح مبارياتهما بكأس العالم للأندية 2025    طلاب الأدبي بالشهادة الثانوية يستأنفون امتحاناتهم بمادة اللغة الإنجليزية    قتل أسرة كاملة حرقًا.. الإعدام شنقًا لعامل في الإسكندرية -صور    العثور على جثة سوداني أمام "المفوضية" بأكتوبر    25 صورة من جنازة نجل الموسيقار صلاح الشرنوبي    حالة طوارئ، روتانا تطرح أحدث ألبومات نجوى كرم    رامي جمال يوجه رسالة لجمهور جدة بعد حفله الأخير    10 سلوكيات خاطئة ابتعدى عنهم مع أطفالك حفاظا على صحتهم    التنظيم والإدارة يعلن ترتيب امتحانات مسابقات التوظيف بالجهاز الإداري للدولة    لقب وحيد و9 محطات تدريبية.. ماذا قدم جاتوزو قبل تولي تدريب إيطاليا؟    رابطة الدوري الإنجليزي تعلن موعد الكشف عن جدول مباريات موسم 2025-2026    محافظ المنيا يؤكد: خطة ترشيد الكهرباء مسئولية وطنية تتطلب تعاون الجميع    إعلام إسرائيلى: صفارات الإنذار تدوى فى الجولان والجليل ومنطقة حيفا    دعاء دخول امتحان الثانوية العامة لراحة القلب وتيسير الإجابة    رئيس جامعة المنوفية يرأس لجنة مقابلات لتجديد مناصب مديري العموم وأمناء الكليات    محافظ الشرقية يستقبل أسقف ميت غمر ودقادوس وبلاد الشرقية والوفد الكنسي المرافق    مدبولى: مخطط طرح أول المطارات المصرية للإدارة والتشغيل قبل نهاية العام الجاري    الجريدة الرسمية تنشر قرارا جديدا ل رئيس الوزراء (تفاصيل)    ليس لأبراج تل أبيب.. مقطع مزيف للقصف الصاروخي في إسرائيل ينتشر على مواقع التواصل    استمرار أعمال توريد القمح بتوريد 508 آلاف طن قمح منذ بدء موسم 2025 بالمنيا    إيران تنفي إرسال أيّ طلب إلى قبرص لنقل «رسائل» إلى إسرائيل    رئيس الوزراء العراقي: العدوان الإسرائيلي على إيران يمثل تهديدا للمنطقة    رئيس مجلس الدولة يفتتح فرع توثيق مجمع المحاكم بالأقصر    احذر عند التعامل معهم.. أكثر 3 أبراج غضبًا    لطيفة تؤجل طرح ألبومها الجديد بعد صدمة وفاة شقيقها نور الدين    مكتبة الإسكندرية تطلق أحدث جوائزها للمبدعين الشباب    محافظ الغربية يجرى جولة مفاجئة داخل مبنى الوحدة المحلية بسبرباى بمركز طنطا    مانشستر يونايتد يواجه ضربة بسبب تفضيل جيوكرس لأرسنال    طب قصر العيني تُحقق انجازًا في الكشف المبكر عن مضاعفات فقر الدم المنجلي لدى الأطفال    قوافل الأحوال المدنية تواصل تقديم خدماتها للمواطنين بالمحافظات    في عيد ميلاده ال33.. محمد صلاح يخلد اسمه في سجلات المجد    5 جوائز ل قرية قرب الجنة بمسابقة الفيلم النمساوي بڤيينا    قرارات إزالة لمخالفات بناء وتعديات بالقاهرة وبورسعيد والساحل الشمالي    "لا للملوك": شعار الاحتجاجات الرافضة لترامب بالتزامن مع احتفال ذكرى تأسيس الجيش الأمريكي    النواب يحذر من تنظيم مسيرات أو التوجه للمناطق الحدودية المصرية دون التنسيق المسبق    يسري جبر يوضح تفسير الرؤيا في تعذيب العصاة    حسين لبيب يعود إلى نادي الزمالك لأول مرة بعد الوعكة الصحية    "برغوث بلا أنياب".. ميسي يفشل في فك عقدة الأهلي.. ما القصة؟    جامعة القاهرة تنظم أول ورشة عمل لمنسقي الذكاء الاصطناعى بكليات الجامعة ومعاهدها    محافظ أسيوط يشهد فعاليات اليوم العلمي الأول للتوعية بمرض الديمنشيا    تحرير 146 مخالفة للمحلات لعدم الالتزام بقرار ترشيد استهلاك الكهرباء    «خلافات أسرية».. «الداخلية» تكشف ملابسات مشاجرة بالأسلحة البيضاء في البحيرة    أخر موعد للتقديم لرياض الأطفال بمحافظة القاهرة.. تفاصيل    التعليم العالى: المؤتمر ال17 لمعهد البحوث الطبية يناقش أحدث القضايا لدعم صحة المجتمع    أولياء أمور طلاب الثانوية العامة يرافقون أبنائهم.. وتشديد أمنى لتأمين اللجان بالجيزة    متى تبدأ السنة الهجرية؟ هذا موعد أول أيام شهر محرم 1447 هجريًا    الغارات الإسرائيلية على طهران تستهدف مستودعا للنفط    أصل التقويم الهجري.. لماذا بدأ من الهجرة النبوية؟    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاحد 15-6-2025 في محافظة قنا    هاني رمزي: خبرات لاعبي الأهلي كلمة السر أمام إنتر ميامي    موعد مباراة الأهلي وإنتر ميامي والقنوات الناقلة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هوامش جديدة علي كتاب الموتي

قد يتصور البعض أنني أكتب هذه القصة لتسجيل أمجاد عائلية خاصة ورغم أن هذا صحيح جزئيا إلا أن القصة أكبر من ذلك‏.‏ علي أية حال هناك بالتأكيد رجال كثيرون مثل أبي استشعروا اقتراب الأزمة بحكم السن والانتظام في الجنازات
وربما صرخ بعضهم محذرا‏,‏ لكن يبقي لأبي الحاج محمود الباز أنه في الثمانين من عمره كان يسرع إلي ميكروفون الجامع عقب انتهاء الصلوات ليصرخ أن المقابر امتلأت ويجب زيادتها وأن بناء الجبانات أهم من شراء الموبايلات‏.‏
لنبدأ من البداية‏,‏ البداية المبكرة كانت مع وفاة عمي محمد الذي صلي الفجر في المسجد واشتري الأهرام ثم أيقظ زوجته‏,‏ لا لتعد الشاي بالحليب مثل كل صباح ولكن ليخبرها أنه سيموت الآن‏.‏ وهي بعد أن ظنته يمزح ونهضت لتصنع الشاي وجدته قد أخرج لفة قماشية كبيرة من الدولاب تحتوي الكفن وبقية متطلبات الغسل‏,‏ ثم شهق شهقة طويلة ومال برأسه ميتا‏.‏
انتشرت القصة قبل أن نصلي عليه وتدعمت بنشاط النعش الملحوظ في اتجاه المقبرة وهي حقيقة أشهد عليها شخصيا رغم أن المرحوم كان ثقيل الوزن‏.‏ وهكذا بدأت أسطورة محلية صغيرة رفعته إلي مصاف أولياء الله الصالحين‏.‏ المهم في الموضوع هو مسألة الاستعداد بالكفن في الدولاب‏,‏ فقد أصبحت منذ اليوم التالي موضة عائلية لكبار السن‏.‏ وكأن وجود الكفن يطمئنهم علي لحظاتهم الأخيرة ويقربهم من الله‏.‏
لم يحتل الكفن مكانا في الدواليب فقط‏,‏ بل أصبح أحد موضوعات الحديث المفضلة‏.‏ ليس فقط بعرض الأكفان‏'‏ المبهجة بشكل يرد الروح‏'‏ علي الضيوف المقربين‏(‏ خاصة بين السيدات‏),‏ ولكن لتهدئة المشاجرات العائلية والزوجية علي أمور الدنيا التافهة الزائلة‏'‏ وما دايم إلا وجه الله‏'.‏ وتدريجيا أصبح آباء الجيل القديم يتكلمون عن أبنائهم بوصفهم‏'‏ الورثة‏',‏ رغم أنه لا يوجد عادة ميراث يذكر‏.‏
تزعم أبي بتلقائية هذا الاتجاه الجنائزي‏,‏ خاصة أنه علي المعاش منذ سنين طويلة ومنتظم في صلاة الجماعة بالمسجد منذ سنين أطول‏.‏ ثم لعبت المصادفة دورا دراميا في تطور الموضوع‏.‏ ذات يوم جمعة بعيد حين توفي أحد رفقاء المسجد في الصباح‏.‏ فقد كانت جميع محلات الأقمشة مغلقة في المنصورة وهكذا حمل أبي الكفن المستقر في الدولاب منذ بضعة أعوام إلي منزل رفيقه‏,‏ مراهنا علي أن عزرائيل سيمهله علي الأقل حتي أول الشهر لحين شراء كفن جديد‏.‏
ورغم الارتفاع المتوالي للأسعار‏,‏ فإن مشهد حمله للكفن أصبح متكررا كل بضعة شهور سواء لظروف الأجازات والأعياد أو لفقر الفقيد وأحيانا كمجرد قربان للصداقة والقرابة‏.‏ وفي المقابل كان عزرائيل كريما فقد تجاهل أبي رغم كل الأمراض التي يعاني منها ويرفض أي علاج لها بغير الوصفات الشعبية‏.‏
قد يتصور البعض أنني أكتب هذه القصة لرغبتي الفاشلة في كتابة رواية ولهذا أستطرد في التفاصيل بشكل يجعل القصة غير مطابقة للمواصفات‏,‏ ورغم أن هذا صحيح جزئيا إلا أن القصة أكبر من ذلك‏.‏ عموما فالحبكة ستبدأ فورا في السطر التالي حين توجه أبي في جنازة أحد أصدقائه القدامي‏,‏ وفوجئ حاملو النعش أن المقبرة ممتلئة تماما‏.‏ فقد فشلت المحاولات الخجولة ثم الحريصة ثم العنيفة في حشر الجثمان في المكان المخصص للرجال‏.‏ وبعد مداولات وسؤال المعزين عمن لديه مفتاح لمقبرة أخري تم تشغيل الموبايلات واستدعاء بعض المفاتيح وتبين ساعتها أن معظم المقابر إما ممتلئة أو علي وشك الامتلاء‏.‏ في النهاية تم دفن الجثة وأضيفت هذه الخاتمة العبثية إلي سيرة الراحل المليئة بالمفارقات المضحكة‏.‏
يومها بالتحديد انتبه أبي لخطورة الموقف‏,‏ فمقبرتنا كانت تنقصها جثة واحدة متوسطة الحجم وتمتلئ‏.‏ ولم يستطع أبي المخاطرة بذلك المكان الأخير رغم أنه هو الذي تبرع بالكفن‏.‏
كانت فكرة مرعبة أن يضطر للدفن في مقابر غريبة وسط أموات لا يعرفهم‏(‏ الموت نفسه لم يكن مرعبا لأبي في تلك السن‏).‏ مقبرتنا لها قصة فرعية لابد من ذكرها‏,‏ فأبي الذي كان يعيش بنا في القاهرة وقتها‏,‏ بدأ مسيرة استبدال قرض بالمعاش في الستينيات اشتري به قطعة الأرض الخاصة بالمقبرة وببقية القرض بناها‏.‏ يحكي أبي فيقول أنه وقتها سئم من مناقشات‏'‏ الشركاء‏'‏ حول نسبة كل عائلة في تكاليف المقبرة وعدد موتي كل منهم فيها‏.‏ ثم أنه كان وقتها‏'‏ مستوظفا حكوميا‏'‏ له مرتب ثابت كل شهر أيام كان ذلك شيئا فخيما كامتلاك تليفزيون أبيض وأسود‏21‏ بوصة‏.‏ لكنه قبل أن يشتري التليفزيون لنا في يناير‏1971‏ اشتري أولا قطعة الأرض التي سيبني عليها بيتنا الحالي بطلخا‏,‏ بجنيه للمتر وبالتقسيط أيضا والله العظيم‏.‏
مرت تحت الجسور مياه كثيرة وحكومات أكثر نجحت بفضل سياساتها الاقتصادية الرشيدة وإخلاص المسئولين وتفانيهم‏..‏ في جعل سعر متر الأرض في منطقة المقابر يتجاوز الألف جنيه وهكذا أصبح إنشاء مقبرة جديدة يكلف حوالي ستة وثلاثين ألف جنيه كما تبين لأبي في الأسابيع التالية لظهور الأزمة‏.‏ وهو مبلغ يبدو للوهلة الأولي كبيرا بالنسبة للمرتبات في مصر لكن يمكن تقسيمه علي بضعة عائلات وجمعه ببعض الجمعيات الشهرية والمعونات الخارجية من العاملين بالخليج وحتي من نقود الزكاة والصدقات‏.‏ وتفتق ذهن أبي المهموم بالموضوع عن عدة أفكار تعاونية ممكنة عرضها في الاجتماعات العائلية‏(‏ التي أصبحت تقتصر علي مواسم التهنئة بالأعياد والأفراح والخلاص من كابوس الثانوية العامة‏)‏ دون جدوي‏,‏ كان الأقارب جميعا مشغولين بشراء الموبايلات وأجهزة الكومبيوتر ودفع ثمن الدروس الخصوصية‏.‏ وكانوا جميعا أيضا سيحضرون لبيتنا صارخين باكين طالبين من أبي مفتاح مقبرتنا لو توفي أحدهم فجأة وطبعا ساعتها لا يليق بأي شكل الكلام عن النقود‏.‏ وحتي الجمعيات الخيرية التي زارها كانت تري أن‏'‏ الحي أبقي من الميت‏'‏ لأن هناك عائلات كثيرة لا تجد ثمن الطعام أو الدواء‏.‏ وهو ما أوصل أبي إلي مرحلة خطف الميكروفونات في المساجد لتحذير الناس من مغبة نسيان المقر الأخير لأجسادهم ولأحبائهم‏.‏ في البداية كان الشيوخ يكتفون بتوبيخه مع اعترافهم بأهمية ما يقوله وعجزهم عن قوله في خطبة الجمعة‏(‏ لأنها ترد مكتوبة من وزارة الأوقاف‏).‏ لكن الأحداث تطورت بسرعة ذات جمعة حيث كان مخبرو أمن الدولة مترصدين لأحد زعماء الإخوان المسلمين في المسجد‏.‏ ويبدو أنه لم يحضر فرأوا أن يظهروا نشاطهم لمكتب الجماعات الإسلامية‏,‏ بالقبض علي أبي بعد أول صرختين عن المقابر الممتلئة‏,‏ وسط دهشة المصلين الذين يعرفون أبي‏,‏ وتعودوا علي صرخاته المتفرقة بصوته المبحوح‏.‏
اتضح لنا وقتها أن استعمال ميكروفون المسجد بواسطة شخص غير الخطيب والمؤذن‏,‏ ضمن التهم الخاصة بأمن الدولة‏,‏ رغم أن الناس تستعمله طوال الوقت للإعلان عن الأشياء المفقودة والمتوفين الجدد وطلب التبرع العاجل بالدم لمصابي الحوادث‏.‏ وهو ما استند إليه صديقي الأستاذ أحمد أبو الفتح المحامي‏,‏ باعتبار أن أبي كان بالمثل يتكلم عن أماكن‏'‏ مفقودة‏'‏ في المقابر وأن الموت وما بعد الموت جزء أساسي من صلب الفقه الديني وبالتالي فإن الحديث عن المقابر في ميكروفون الجامع ليس له شأن بالدولة وأمنها‏.‏
لدهشتنا تم الإفراج عن أبي بعد ساعات قليلة دون عرضه علي النيابة‏,‏ بعد أن وقع التعهد التقليدي بعدم العودة لمثل هذه الأنشطة المعادية للحكومة في المستقبل‏.‏ عرفنا في اليوم التالي أن السبب خبر صغير ظهر في شريط الأخبار علي قناة الجزيرة‏'‏ مباحث أمن الدولة في مصر تقبض علي مواطن في الثمانين من عمره لأنه يحذر من امتلاء المقابر‏'.‏ ويبدو أن مراسل الجزيرة كان في المسجد لينشر خبرا عن القيادي الإخواني الذي لم يحضر وهكذا حقق سبقه الصحفي السريع‏.‏
قد يتصور البعض أنني أكتب هذه القصة لأسجل أمام رواد نوادي الأدب وعموم أدباء الأقاليم في مصر أنني ظهرت علي شاشة قناة الجزيرة لمدة سبع وثلاثين ثانية بصفتي المتحدث الرسمي باسم أبي‏(‏ بعد أن منعت وسائل الإعلام من الكلام المباشر معه بحجة الحفاظ علي صحته من التوتر العصبي الإعلامي‏).‏ ورغم أن هذا صحيح جزئيا إلا أن القصة أكبر من ذلك‏.‏ صحيح أنني طبعت أربعا وعشرين صورة لأبي علي منبر المسجد المجاور وهو يمسك الميكروفون بيساره بينما يرفع سبابته اليمني محذرا‏.‏ وصحيح أنني طبعت مائتين وأربعين صورة لشخصي المتواضع أمام مقبرتنا العامرة وقد علقت خلفي لافتة قماشية مكتوبا عليها بالخط الكوفي‏'‏ المقبرة كاملة العدد والمكان الأخير محجوز لصاحبها‏'.‏ إلا أنني كنت داخلي أشعر بغيظ شديد لأن الصحف اليومية والحزبية كانت تتحدث إلي مضطرة‏(‏ بعد عشرين عاما في إتحاد الكتاب وستة كتب قصصية وكتابين مترجمين وعشرات المؤتمرات والندوات‏)‏ فقط بصفتي ابن ذلك العجوز الذي لا يعرف شيئا عن الحداثة أو قصيدة النثر‏.‏ خاصة أن محرري صفحات الحوادث الذين توافدوا في بداية الأمر يعتبرون أنفسهم الكتاب الواقعيين للقصة القصيرة وهكذا بدأت أمتنع عن الحديث إليهم شارحا البعد السياسي والاجتماعي للموضوع لأن‏'‏ الحق في الموت الكريم من أهم حقوق الإنسان‏'‏ و‏'‏بصراحة أنا عاوز حد كبير أكلمه‏'‏ من صفحة السياسة مثلا‏..‏ أو الصفحة الثقافية‏.‏
في النهاية أفلحت الحملة الإعلامية في‏...‏ إخراج كتابي المنسي في أدراج الهيئة العامة للكتاب ووضعه في خطة النشر القادمة وفي نشر بعض قصصي المنذورة دائما‏'‏ لعدد المجلة بعد القادم إن شاء الله‏'.‏ لكنها لخيبة أمل أبي أدت إلي نتيجة عكسية علي مستوي المقابر التي تضاعف سعر الأرض فيها علي مستوي الجمهورية عدة مرات بحيث جاوز أحيانا سعر الشوارع التجارية لأن سماسرة الأراضي استشعروا اتجاه البورصة الجديد‏.‏ وكان لابد من تدخل حكومي حقيقي بعد أن بدأت الأزمة تشتعل أو بالأصح ينتبه لها الرأي العام‏.‏
فقد سجلت محاضر البوليس وصفحات الحوادث في مناطق متفرقة بلاغات عن جثث مكفنة ومتروكة وسط المقابر وملصق بالكفن تصريح الدفن ومكتوب عليه بخط اليد‏:'‏ أين؟‏'‏ أو‏'‏اشمعني‏'‏ أو‏'‏ فين؟‏'‏ أو كلمات بذيئة لا أستطيع كتابتها هنا‏.‏ وبلاغات أخري باقتحام مقابر خاصة وترك جثث مكفنة مجهولة بها‏.‏ وفي حالات نادرة لكنها كانت شديدة الدلالة الاجتماعية تم إلقاء جثث مكفنة في النيل في مشهد ذكر الكثيرين بما فعله الفلاحون بجثث البهائم التي نفقت بالحمي القلاعية في التسعينيات أو بجثث الدواجن إبان أنفلونزا الطيور‏.‏
وبغض النظر عن مشاكل التوصيف القانوني للاتهامات التي انتهت عادة ضد مجهول أو ضد المتوفي نفسه‏,‏ فإن السؤال الأساسي لوكلاء النيابة كان عن المصير القانوني لهذه الجثث‏,‏ لأن مقابر الصدقة والمقابر العامة امتلأت تماما وكأن طلبة الطب كفوا عن أخذ دروس خصوصية في التشريح‏.‏ والمشكلة كانت في التوسع العمراني الذي لا يحيط المقابر فقط ولكن يتداخل معها بالسكن داخلها بشكل يمنع أي تخطيط عام جديد لها يزيد عمق المقابر مثلا‏.‏
وبدأت شعارات سياسية جديدة تظهر في صحف المعارضة وعلي جدران المقابر وأسوار المدارس والمستشفيات مثل‏'‏ إكرام الحكومة دفنها‏'‏ و‏'‏متر مربع لكل مواطن‏'‏ و‏'‏يا حكومة قتلتينا يبقي عليكي تدفنينا‏'‏ و‏'‏ مش عارفين نعيش طب خلونا نموت عدل‏'.‏ وأصبح كتاب المعارضة يتكلمون عن الأتوبيسات باعتبارها‏'‏ مقابر متحركة‏'‏ والعشوائيات باعتبارها‏'‏ مقابر المهمشين الأحياء‏'‏ وعن الحكومة باعتبارها‏'‏ ميتة إكلينيكيا‏'‏ منذ سنوات‏.‏ وعاد كتاب اليسار الذين غمرتهم الموجة الليبرالية في السنوات السابقة ليكتبوا عن طبقية الموت في مصر منذ عهد الفراعنة الذين بنوا الأهرامات وعشرات المقابر الملكية في مقابل ملايين الفلاحين الذين ماتوا بلا تماثيل أو توابيت أو مجرد أسماء يعرفها التاريخ‏.‏ بل أن مقابر الفراعنة لم تقتصر علي المومياوات والتماثيل والأغذية اللازمة للجسد بعد عودة الروح ولكن أيضا كان يخصص لرعايتها أوقاف من ممتلكات الميت كي تمتد في الرعاية لبعد وفاته بأجيال متتابعة‏.‏ وفي الدولة الحديثة‏,‏ كان يتم وضع تماثيل صغيرة في القبر‏,‏ يصل عددها إلي أربعمائة وواحد تمثال‏,‏ وطبقا للتعويذة السادسة في كتاب الموتي‏,‏ كان يطلب منهما القيام بأعمال إجبارية في الحياة الآخرة‏,‏ نيابة عن المتوفي وهي ما تعرف ب‏'‏تماثيل الشوابتي‏'.‏ بل لقد سجلت عادة دفن الأتباع مع الملوك والحكام والأمراء في زمن الأسرة الأولي من ملوك مصر في حدود‏(3100-3000‏ ق‏.‏ م‏)‏ وقد جرت هذه العادة عند بعض شعوب العالم المختلفة‏,‏ أما في العراق فقد سجلت هذه العادة في أور بشكل واضح والأسوأ من ذلك أنه حتي تعاويذ كتاب الموتي ظلت محصورة في الطبقة الوسطي للمجتمع الفرعوني‏.‏
وأشار مقال ساخن إلي مقابر أسرة محمد علي في مسجد الرفاعي بالقلعة‏(‏ وكيف انضم لهم شاه ايران فيما بعد‏)‏ ومقبرة جمال عبد الناصر ومقبرة أنور السادات ثم تساءل‏:‏ هل يعرف أحد مكان مقبرة شهداء حرب أكتوبر ؟ بل وتجرأ الكاتب المجنون علي المقارنة بين معاشات الرؤساء الراحلين ومعاشات أسر الشهداء‏.‏ قبل أن ينهي المقال بتعديدة صعيدية قديمة تقول‏:'‏ بيتي كبير وتربتي فدان ليه اتوعدنا بدفنة الإحسان ؟
بيتي كبير وتربتي ملقي ليه اتوعدنا بدفنة الصدقة ؟‏'‏
هكذا تشكلت لجنة سرية علي المستوي الوزاري للبحث عن حلول وتم تسريب هذه الحلول للصحافة كبالونات اختبار لقياس رد الفعل الشعبي الذي كان من الصعب تجاهله هنا‏(‏ كما تم من قبل في التعديلات الدستورية والانتخابات المزورة وتهريب أصحاب العبارة الغارقة ومعظم الأمور الأخري‏).‏
قد يتصور البعض أنني أكتب هذه القصة لأنني معارض قديم للحكومة منذ أيام الجامعة أو لأن الحكومة لم تكلف خاطرها باستدعائي‏,‏ أقصد استدعاء أبي وأخذ رأيه باعتباره المواطن الذي استشعر ونبه مبكرا لخطورة الموضوع‏.‏ ورغم أن هذا صحيح جزئيا إلا أن القصة أكبر من ذلك‏,‏ فالحلول التي اقترحتها الحكومة كانت كالعادة تفقع المرارة‏.‏
الحل الأول وطرحه طبعا مجموعة الوزراء من رجال الأعمال بإنشاء‏'‏ الشركة القابضة للمقابر‏'‏ وطرح أسهمها في البورصة بحيث تنشأ مقبرة مركزية كبيرة في عواصم المحافظات ثم يتم إنشاء مقبرة جماعية كبيرة في كل المدن والمراكز ثم القري‏,‏ بحيث يكون الدفن مجانيا للمساهمين وأسرهم‏(4)‏ وبالنسبة لغير المساهمين يكون بمقابل لا يتجاوز مائة جنيه للدفن‏.‏
وطبعا أثار هذا الاقتراح ردود فعل غاضبة عن‏'‏ استثمار الموت‏'‏ وعن تخلي الحكومة عن واجبها نحو الشعب في الموت بعد أن تخلت عنه في أمور الحياة‏.‏ كما أثار الاقتراح مشاكل فرعية حول مقابر الأقباط التي تتطلب إعدادا خاصا وطقوسا خاصة وهل سيتم إنشاء مساجد وكنائس تابعة لهذه الشركة لإجراء الطقوس اللازمة وظهرت أصوات شيعية تعلن عن مطالب مشروعة بإنشاء مقابر خاصة بهم في مصر وأن تعترف الحكومة بأعدادهم الحقيقية‏.‏ وتساءل أحد البهائيين الذين تجبرهم الحكومة علي كتابة‏'‏ مسلم‏'‏ في خانة الديانة بالبطاقة عن كيفية دفنه في تلك الشركة‏.‏ ناهيك عن سؤال المساهمين المحتملين ماذا لو مات أحدهم قبل إنشاء مقبرة في مدينته أو قريته‏.‏ التساؤل الحقيقي في الغرف التجارية والبورصة كان‏'‏ ماذا لو امتنع الناس عن شراء الأسهم ؟أو كانت أسرة المتوفي عاجزة عن دفع رسوم الدفن ؟وهل سيتم تخصيص جزء مجاني كما هو الحال في‏'‏ بعض‏'‏ المستشفيات الحكومية ؟ وما ضمان عدم‏'‏ طمع‏'‏ الشعب في الحكومة إذا سمحت بذلك بادعاء الفقر وخلافه ؟ ثم ماذا إذا أفلست الشركة كيف سيتم توزيع ممتلكاتها علي المساهمين ؟
الاقتراح الثاني كان أبسط بكثير وبه كثير من الوجاهة العلمية والاقتصادية وهو إنشاء محرقة مركزية بكل مدينة أو حتي استخدام محارق المخلفات الملحقة بالمستشفيات الحكومية‏.‏ بحيث يتم إحراق جثة المتوفي خلال بضعة دقائق وتحويلها إلي حفنة من الرماد يتم تسليمها لأهله في قارورة أنيقة مدون عليها الاسم وتاريخ الوفاة وتاريخ الحرق‏.‏ والأهل بعد ذلك أحرار في مكان الاحتفاظ بالقارورة‏(‏ تحت صورة الفقيد في الصالون أو في السندرة أو في الدولاب‏)‏ أو نثر الرماد في الهواء ساعة العصاري‏.‏
لكن الاقتراح كان ثوريا أكثر من اللازم‏,‏ فقد أثار علي الفور خطباء المساجد وحتي المفتي الرسمي للدولة‏.‏ باعتبار أنه لا يخالف فقط الطقوس الشرعية للدفن ولكنه أيضا‏(‏ وربما هذا هو الأهم‏)‏ سيثير إشكاليات فكرية وفقهية لا داعي لها عن عذاب القبر في ظل غياب القبر نفسه من رحلة الموت إلي العالم الآخر‏.‏ فضلا عن إن زيارة القبور مستحبة لقول الرسول صلي الله عليه وسلم‏:((‏ كنت نهيتكم عن زيارة القبور‏,‏ فزوروها فإنها تذكركم الآخرة‏))‏ كما قال صلوات الله عليه‏:((‏ إن القبر أول منازل الآخرة فإن نجا منه صاحبه فما بعده أيسر وإن لم ينج منه فما بعد أشد‏))‏ و‏((‏القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار‏)).‏ وطالب بعض المتطرفين بحرق مومياوات الفراعنة أولا بدلا من عرضها والعياذ بالله علي السياح في المتاحف‏.‏ وأشار عالم أنثربولوجي لامع إلي أن العلاقة بين الأموات و الأحياء لا تقتصر علي‏'‏ أنتم السابقون ونحن اللاحقون‏'‏ وحين تحضر مثلا طقوس الدفن عندنا ستلاحظ الترديد الجماعي المعلن لما يجب علي الميت أن يجيب به ملائكة الحساب‏,‏ وكأنها‏'‏ المراجعة الأخيرة‏'‏ قبل‏'‏ الامتحان النهائي‏'.‏ لكن مشاركة جمهور المعزين في ترديد‏'‏ الإجابات الصحيحة‏'‏ تشير لأن هذا الطقس موجه بالأساس للأحياء وليس للموتي‏,‏ كي يعتصموا بثوابت المعتقد الجماعي التي توحدهم كجماعة مرجعية خاصة‏.‏ ودلل علي ذلك بحقيقة أن طقوس العزاء‏(‏ وطبعا الأفراح والتهنئة بالمناسبات السعيدة‏)‏ تكون عادة مفتوحة ومتاحة لحضور أفراد من جماعات مذهبية ودينية أخري لكن صلاة الجنازة والدفن عادة ما يكونا مقصورين علي أعضاء الطائفة الدينية للمتوفي‏.‏ فالقبر ممر واقعي وأيضا مجازي نحو العالم الآخر كما يتخيله كل منا‏.‏ ومن ثم فإن إلغاء القبر باقتراح الحرق سيسبب نوعا من الفراغ المفزع في رحلة الموت‏.‏ بل إن المعالم الأركيولوجية المميزة للحضارة الإنسانية ترتبط بطريقة تعاملها مع الموتي ومعظم ما تبقي لنا من الحضارات القديمة هو المعابد أو المقابر وذكر بحقيقة أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يدفن موتاه‏.‏
كما نبه علماء الاجتماع إلي أن هذا الاقتراح يهدد حياة عدد هائل من المتعاملين مع المقابر كطائفة المغسلين والحانوتية والمعددات والمتسولين حول المقابر وهو عدد يصعب حصره لكنه لا يقل بأي حال عن عدد العاملين في مزارع الدواجن مثلا‏.‏ والمشكلة أن معظم هؤلاء لا يجيد حرفة أخري تنقذه هو وأسرته من البطالة‏.‏ ثم ظهرت مشكلة التعامل مع جثث مشاهير الفنانين وطبعا كبار رجال الدولة
وتفرع عن هذا الاقتراح اقتراح آخر لم يعلن قط لكنه تسرب عبر المستشفيات الحكومية حين تم تعميم استبيان سري عن قدرة كل مستشفي علي إنشاء بنك للأعضاء البشرية الصالحة للنقل كالكبد والكلي وقرنية العين ومتطلبات ذلك في الميزانية القادمة‏.‏ وقد هاجت نقابة الأطباء معترضة فأعلن وزير الصحة في اجتماع نقابي مخصص لبحث الكادر الطبي المتأخر منذ سنوات أنه ليس صاحب هذا الاقتراح ولكنه‏'‏ مجرد فكرة‏'‏ لوزير التجارة بتصدير‏'‏ الفائض‏'‏ من هذه الأعضاء مع إعفاء المتبرعين من مصاريف الدفن أو الحرق‏.‏
الاقتراح الثالث وهو اشتراكي الطابع لهذا لم يعلن كاقتراح حكومي خوفا علي سمعة الحكومة لدي البنك الدولي‏,‏ وتم نفي صحته بعد أسبوع واحد فقط من تسربه‏.‏ رغم أنه طرح بسرعة في الاجتماعات المغلقة‏.‏ الاقتراح كان تأميم جميع المقابر وهدمها ثم إقامة مقبرة واحدة جماعية تضم أهل القرية أو الحي‏.‏ لكنه بالطبع كان سيثير مخاوف القطاع الخاص ويعرض جرافات الحكومة لغضب الأهالي الذين يدافعون عن عظام موتاهم أو الرافضين للتكدس الجماعي الأخير‏.‏
اقتراحات أحزاب المعارضة الخجولة بعمل اشتراك شهري بجنيه واحد يخصم من رواتب الموظفين أو تضاف علي ضرائب العاملين بالقطاع الخاص أثار غضب الموظفين الذين يعانون أصلا من أنيميا حادة في المرتبات‏.‏ فقد أعلنوا عبر بريد الصحف أن قانون العاملين بالدولة رقم‏47‏ لسنة‏1978‏ ينص في ماد ة‏101‏ بند‏(1)‏ علي أنه إذا توفي العامل وهو في الخدمة يصرف ما يعادل أجر شهرين كاملين لمواجهة نفقات الجنازة بحد أدني‏100‏ جنيه للأرمل أو لأرشد الأولاد أو لمن يثبت قيامه بصرف هذه النفقة‏.‏ وهو ما ينبغي أن يشمل بالضرورة مصاريف الدفن أيا كانت تكلفته والحل العملي هو زيادة الرواتب بحيث يكفي أجر شهرين لمصاريف الغسل والكفن والدفن لأنه حاليا لا يكاد يكفي لاستئجار معددة محترفة‏.‏ كما ظهرت مطالبات عمالية ونقابية بمقابر تتبع الوزارات أو النقابات خاصة لمن يموتون بعد المعاش والذين لا تغطيهم المادة‏101‏ أو لمن ليس لديهم مقابر وكذلك لزوجاتهم غير العاملات اللاتي يعتبرن عاملات بالتبعية في نفس الوزارة‏.‏ وقيل أن هذا أكثر أهمية من المصايف الجماعية التي تحرص عليها اللجان النقابية ولا يفوز بها في النهاية سوي المحظوظين‏.‏ وذكر موظف مخضرم علي المعاش أن الموظفين بالمعاش لهم في ذمة الحكومة رصيد أجازات غير مدفوع الأجر يقدر بعدة مليارات من الجنيهات وتأبي الحكومة الدفع لأي موظف إلا بقضية منفردة تستنزف السنين والنقود في القضاء الإداري‏.‏ وأن هذا المبلغ تكفي أرباحه لدفن الشعب المصري بأكمله‏,‏ كما يتحمل الموظفون ضريبة دمغة علي المرتبات وصلت إلي‏1.4‏ مليار جنيه عام‏2006/2005‏ بعد أن كانت حوالي‏627‏ مليون جنيه عام‏2002/2001,‏ كما يتحمل الموظفون إضافة لضريبة الدمغة ضرائب علي الدخل تنمو بمتوسط معدل نمو بلغ‏21.6%‏ خلال السنوات الماضية‏.‏ بينما انخفضت الضرائب علي النشاط التجاري والصناعي من حوالي‏3.3‏ مليار جنيه عام‏2002/2001‏ إلي‏3‏ مليارات جنيه في موازنة عام‏2006/2005‏ أي ما يعادل‏60%‏ فقط من الضرائب علي الدخول من الوظائف‏,‏ وهكذا تنمو ضرائب النشاط التجاري والصناعي بمعدل سالب بلغ‏2.3%‏ في ظل حكومة تدعي حماية محدودي الدخل‏.‏ فضلا عن حق الموظفين في تعويضهم ولو في لحظاتهم الأخيرة عن معاناة السنين مع رواتب الحكومة الهزيلة التي لا تكفي لتغطية مصاريف حمار واحد لزوم البرسيم والزريبة والبردعة والعلاج بيطري‏.‏
قد يتصور البعض أنني أكتب هذه القصة احتجاجا علي حمورية الوضع العام ورغم أن هذا صحيح جزئيا إلا أن القصة أكبر من ذلك‏.‏ فالحكومة رأت بذكائها المعهود أن تطلق حملة إعلامية مضادة قوية ثم تسكت تماما عن الموضوع بعد أن يمل الناس منه أو يتعودوا عليه أو يتم إلهاؤهم عنه بكارثة جماعية جديدة أو بطولة كروية أو موسم سينمائي كوميدي ناجح‏,‏ كما أن الأخبار الخارجية كانت مبشرة باشتعال التوتر في المنطقة مابين تهديد أمريكا لإيران وتهديد إسرائيل لحزب الله وتهديد حماس في غزة لفتح في الضفة مع تجدد الخصام القديم بين أصالة ونوال الزغبي‏.‏
هكذا تم سكب عشرات المقالات والتعليقات لكتاب حكوميين عن إساءة هذا الموضوع لمصر وإحراجه لملايين المصريين العاملين بالخارج وطبعا الطنطنة والطنين التقليدي عن مصر الحضارة والأهرامات ومترو الأنفاق‏.‏ وكتب رئيس تحرير الأهرام ببلاغة رصينة‏'‏ إن مصر التي كانت علي الدوام مقبرة للغزاة تستطيع بالتأكيد أن تكون مقبرة للمصريين‏'.‏ وتم شن هجوم تكتيكي مكثف علي المعارضين أصحاب‏'‏ ثقافة الموت‏'‏ و‏'‏أحزاب الموتي‏'‏ العاجزة عن الخوض في غمار‏'‏ الحياة‏'‏ السياسية لمجرد أنها مكبلة بقوانين الطوارئ ومحاصرة بجنود الأمن المركزي‏.‏ وطالبت المقالات المعارضين باقتراح حلول عملية لهذه المشكلة وغيرها ثم المشاركة في حلها مع مؤسسات المجتمع المدني وترك الحكومة في حالها ويكفيها مشاكلها مع الميزانية والبنك الدولي وجهودها المضنية في مقاومة الضغوط الأمريكية لفرض الديمقراطية المستوردة وفي المصالحة بين الدول العربية المتشاحنة وبين الإخوة اللبنانيين المختلفين والإخوة الفلسطينيين المتقاتلين‏.‏
إلي حد كبير نجحت الحملة الإعلامية المضادة‏,‏ لدرجة أن أسعار أراضي المقابر توقفت عن الارتفاع‏.‏ خاصة أن الناس استهلكوا كل النكت الممكنة عن الموضوع وبدأ الملل يعتريهم منه‏.‏ وقد تعرضت شخصيا لشائعات مغرضة من زملاء حاقدين بنادي الأدب بقصر ثقافة المنصورة‏(‏ معظمهم طبعا شعراء عموديون‏)‏ مفادها أنني الذي حركت أبي منذ البداية وربما أكون أنا الذي أبلغت عنه مباحث أمن الدولة واتصلت بعد ذلك بقناة الجزيرة بغرض البحث عن‏'‏ شهرة أدبية رخيصة‏'‏ والفوز أخيرا بعضوية مجلس إدارة نادي الأدب التي لا يحصل عليها عادة من تقل أعمارهم عن الخمسين‏.‏ ودللوا علي ذلك بقصة قصيرة قديمة لي منشورة في الثمانينيات بعنوان‏'‏ لقاء عاطفي في مقبرة قديمة‏'.‏ بل قاموا بطباعتها في منشور ثقافي سري تم لصقه في مكتبة مبارك والمقر الفرعي لاتحاد الكتاب وطبعا علي حوائط نادي الأدب‏.‏
لم تفلح المنشورات المضادة التي أصدرتها الجبهة المناصرة لي في تغيير الرأي العام داخل نادي الأدب والمكون بالأساس من هواة لا يجيدون اللغة أو النحو أو الوزن لكنهم يستشعرون كمية الشهرة التي حصدتها من أزمة المقابر والتي تضارع شهرة تامر بجاتو لاعب المنصورة الذي أحرز هدفين في مرمي الزمالك وأخرجه من الكأس‏.‏
دون جدوي بذلت كل المجهود البنيوي الكريه والضروري في دراسة نبشية إحصائية لقصائد الأعداء‏(‏ الذين اضطررت آسفا لشراء أعمالهم‏)‏ وأخرجت ما يقارب خمسة آلاف كلمة تنتمي جذورها اللغوية إلي مادة‏'‏ م و ت‏'‏ و‏'‏ ق ب ر‏'‏ و‏'‏ د ف ن‏'.‏ باعتبار أن قصتي القديمة لا تخرج عن الاستخدام الأدبي المجازي الشائع لهذه المفردات وأنها أصلا قصة رمزية ليس لها زمن محدد ومنشورة قبل صراخ أبي بعشرين عاما‏,‏ بينما مقبرتنا مقبرة حقيقية بها زحام حقيقي ولها صاحب حقيقي يخاف من الدفن في مقبرة غريبة‏.‏
كانت الحجة الدامغة البسيطة أن أصحاب هذه القصائد‏'‏ لم يتربحوا ثقافيا‏'‏ من الموت والقبور‏.‏ وتساءل المتسائلون‏:‏ كيف ولماذا أعيش الآن‏'‏ في جلباب أبي‏'‏ بينما كنت دائما من أنصار‏'‏ قتل الأب‏'‏؟‏.‏ ووصل الأمر للتشكيك في ثوريتي نفسها حيث لم يتم اعتقالي ولو مرة واحدة طوال حياتي‏.‏
قد يتصور البعض أنني أكتب هذه القصة لأدافع عن نفسي ضد هذه الاتهامات وللاعتراض علي عودة كتابي السابع إلي أدراج الهيئة العامة للكتاب وتأجيل قصصي مرة أخري للعدد بعد القادم بالمجلات الثقافية‏.‏ ورغم أن هذا صحيح جزئيا إلا أن القصة أكبر من ذلك‏.‏ إنها قصة الرجل الذي تزوج أمي حين كانت البيضة تباع ملونة ومسلوقة بمليم واحد‏,‏ قصة العجوز الذي عاصر الملك فؤاد والملك فاروق وناصر‏56‏ وناصر‏67‏ وسادات‏73‏ وسادات ومبارك‏81,‏ قصة ذلك الإنسان الذي كفر بي وبالثقافة والحكومة والصحف والفضائيات وراح يقضي يومه بين عمال المشارح والحانوتية ومحلات الفسيخ‏.‏
فقد أصبحت جثث الحيوانات النافقة الملقاة في الشوارع وعلي ضفاف الترع تستوقفه بل تجذبه‏,‏ ليس فقط للتأمل الطويل الواقف بل يعود إليها بعد ساعات ليسجل ملاحظات عن كل جثة ودرجة التعفن وعدد الديدان في المواضع المختلفة من الجثة وأطوالها المتنامية ومعدلات النمو والتكاثر في الصيف والشتاء وعلاقتها بدرجة القرب من مصدر مائي مكشوف أو ضجيج السيارات أو مصادر المبيدات الحشرية كعربات رش الدخان المضاد للباعوض‏.‏ وأصبحت أمي تصرخ من الروائح الكريهة المنبعثة من المنور الذي يحتفظ فيه أبي بجثث قطط وكلاب وأجزاء من حيوانات أكبر‏.‏ ويصر علي تركها في الهواء وعدم رش أي معطرات أو إطلاق أي بخور يفسد المناخ الطبيعي للتحلل‏.‏
توقف أبي إذن عن الصراخ وأعلن لي بهمس وبعد إلحاح من الجميع أنه لم يجن بعد لكنه يبحث عن حل عملي للمشكلة‏.‏ أحضرنا طبيبا نفسيا للمنزل باعتباره صديقا لي‏,‏ فشخص الحالة ب‏'‏اكتئاب مصحوب بضلالات عدمية‏'.‏ لكن أبي كما اتضح كان وجوديا أكثر من جان بول سارتر‏,‏ فقد تلقينا ذات صباح مكالمة تليفونية من شخص مجهول يطلب حضورنا إلي مقبرتنا فورا لأن أبي يطوف حولها صارخا‏.‏ كانت المقبرة مفتوحة وقد ظهر خلالها عدة أماكن متاحة لبضعة جثث‏.‏ وحول المقبرة كانت جثث القطط والكلاب التي أجبرته أمي علي إزالتها من المنزل‏.‏
كانت رائحة الموتي تفوح من ملابسه ولمحنا بعض الديدان بين أصابعه‏.‏ في عينيه كان فرح حزين متعب‏,‏ وكأنه أخيرا يستطيع البكاء والتنهد والأهم يستطيع أن يموت وهو مطمئن‏.‏
تأتي لحظة ثقيلة في حياة الإنسان يكتشف فيها أن عدد الأموات الذين أحبهم من قلبه وكرههم من قلبه أكثر من عدد الأحياء الذين يبالي بهم‏(‏ وأظن أن أبي مر بتلك اللحظة منذ سنوات‏,‏ ربما قبل أن يشتري الكفن الأول‏).‏ بعد تلك اللحظة يتحول الموت تدريجيا إلي بوابة للذكريات‏,‏ كأنك ستدخل مرة أخري وبعد غياب طويل حديقة حيوانات الجيزة‏.‏ لكن ستدخلها وحدك هذه المرة بدون رحلة مدرسية أو موعد عاطفي أو أبناء يعترضون علي الساندويتشات‏.‏ الأسد يبدو مسكينا رغم زئيره والقرد مضطر للتمثيل علي الجمهور وسيد قشطة حبيس بركة ضيقة قذرة‏.‏ يصبح الأسي جزءا من الرؤية والخلوة جزءا من الضجيج‏,‏ تنكمش ظلال الأشياء الكبيرة وتبهجك تفاصيل صغيرة كنت تغفل عنها من قبل‏.‏
تأتي لحظة تستطيع فيها أن تسامح أعداءك لأن الكراهية تتسرب مع رمال العمر من أصابعك الواهنة‏.‏ وتأتي لحظة أهم تستطيع فيها أن تنظر إلي ابنك أو تنظر إلي أبيك وإذا كل الغباء الذكوري بينكما بذكريات العنف والعناد والتهديد والمناطحة يتحول إلي تفاهم عميق صامت علي تسلم راية غامضة والدفاع عنها قبل الموت وبعده‏.‏
ولأول مرة في أحضاننا المتباعدة والتي لا تحدث إلا بعد خصام طويل‏,‏ أستشعر أبي يختبئ في صدري وأستشعر رغبتي الجارفة في هدهدته‏.‏ لا أدري‏..‏ ربما كانت هذه هي الطريقة الصحيحة لقتل الأب‏.‏ لم أكن بحاجة لهمسه عن أهمية الديدان وكيف أصبحنا جميعا مسمومين بالمبيدات الحشرية التي نبتلعها مع الخضر والفواكه ونستنشقها في الهواء لدرجة أن الديدان أصبحت تهرب من جثثنا أو تموت بسببها وهو ما يؤخر تحللها‏.‏
لأسباب خاصة تستطيعون استنتاجها لم نستطع وربما لم نرغب في إذاعة حل‏'‏ مزارع الديدان‏'‏ وضرورة تربيتها بعناية قرب فتحات المقابر‏(‏ التي يجب أصلا عدم إغلاقها بإحكام‏)‏ أو في الأماكن التي لا تصلها المبيدات الحشرية‏.‏ لكن عن نفسي لن أبخل بأي كمية من الديدان علي جميع المسئولين بالحكومة والهيئة العامة للكتاب والمجلات الثقافية‏.‏ وأنا أنشر هذه القصة فقط كي تعرفوا أن دعوي الخلع التي رفعتها زوجتي بحجة ادعاء الضرر من رائحة جثث الحيوانات الميتة المكدسة تحت السرير‏(18)‏ إنما هي دعوي كيدية‏(19).‏ وعلي أية حال فأنا علي استعداد لتطليقها فورا وعلي الهواء مباشرة بشرط أن تعترف أولا أمام الملأ أنها بعد ثلاثة عشر عاما من تداخل أشواكنا‏,‏ وثلاثة أطفال يخربون العالم وهم يضحكون‏,‏ وعشرات الدواوين التي اشتريتها من أجلها هي بالذات‏....‏ لا تزال تكتب الشعر العمودي‏.‏
‏2007/7/24‏
‏1-‏ كل ما في الأمر أن شخصيات مشاريعي الروائية تقع سريعا في الحب والمشاكل وتصل لنهايتها الدرامية في بضعة صفحات‏.‏
‏2-‏ لم أكن أعرف أن المونتاج سيكون بهذه القسوة
‏3-‏ طبعا تم هذا الساعة الثالثة صباحا ودون تشغيل الميكروفون وبعد أن راضينا عامل المسجد بالذي منه والأهم من ذلك بعد أن قضيت يومين أقنع أبي بضرورة ذلك من أجل الحفاظ علي المكان الأخير في المقبرة ونشر الوعي الجنائزي في الفضائيات بدلا من الكليبات العارية الملعونة‏.‏
‏4-‏ بمعدل سهم لكل مكان في المقبرة بشرط ألا يزيد وزن الفقيد عن‏120‏ كجم‏.‏
‏5-‏ فيما يعرف شعبيا ب‏'‏تلقين الميت‏'.‏
‏6-‏ متناسيا انه الكائن الوحيد القادر أصلا علي ذلك‏.‏
‏7-‏ الذين اقترح أحد الخبثاء أن يكونوا قدوة لبقية الشعب في التقدم للحرق‏?‏ عند الموت طبعا‏?‏ وأن تضاف إلي بيانات قارورة كل منهم قائمة بانجازاته الشعبية ودوره في رفع الأسعار إبان فترة مسئوليته‏.‏
‏8-‏ والعهدة علي الصحفيين مدعي معرفة الأسرار الحكومية وعلي عاملي البوفيه الذين يوصلون للشعب ما لا يرد في التصريحات الرسمية‏.‏
‏9-‏ الأرقام حقيقية وصحيحة وليست خيالا قصصيا‏.‏
‏10-‏ تم للأسف إرساله ونشره في صحيفة أخبار الأدب‏.‏
‏11-‏ والمؤلفة من كاتبي قصائد النثر وثلاثة كتاب قصة قصيرة مدينين لي بعزومتين عند المحمدي الكبابجي وفوق ذلك بتقريظات نقدية كتبتها عنهم دون مقابل‏.‏
‏12-‏ عن عاشقين تفرق الدنيا بينهما بعشرات المشاكل ولا يستطيعان تحقيق لقاء بينهما إلا عند الموت‏.‏
‏13-‏ وهي حقيقة مؤسفة غامضة السبب وأغلب الظن أنها جزء من مؤامرة أمنية لتشويه تاريخي السياسي والثقافي والأدبي‏.‏
‏14-‏ المليم عملة قديمة منقرضة قبل انقراض القرش والشلن ويحكي القدماء أنه كانت توجد عملات أصغر كالخردة والنصف مليم ويفترض نظريا أن الجنيه المصري يساوي ألف مليم‏.‏
‏15-‏ التكرار مجرد خطأ مطبعي وليس له مغزي سياسي‏.‏
‏16-‏ لم يعرف طبعا أن هذا قد أصبح ضمن السمات النموذجية للجنون في المجتمع المصري المعاصر‏.‏
‏17-‏ غالبا هو المخبر المكلف بمتابعة تحركات أبي‏.‏
‏18-‏ لم يزد الأمر أبدا عن كلب وقطتين وبضعة فئران‏.‏
‏19-‏ منذ عامنا الأول وهي تخشي الدفن في مقبرتنا بجوار أمي‏.‏


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.