«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حسن داوود الناس محكومون بقتال بعضهم البعض!
نشر في أخبار الأدب يوم 29 - 05 - 2010

حسن داوود كاتب يجيد الإنصات لشخصياته، كما يجيد تقمصها والحلول فيها. نقرأ »أيام زائدة« فنظنه ذلك العجوز المشاكس، وننتهي من »لعب حي البياض« فنعتقد أن من كتبتها هي تلك الأم التي ذكرت الكثيرين بأمهاتهم. يقرأ نقاد كثيرون »أيام زائدة« باعتبارها رواية عن الشيخوخة، فيعترض كاتبها مؤكدا أنه كتب عن شيخه الفرد الذي لا يشبه الشيوخ في شيء، كأنما يلوم هؤلاء علي تقاعسهم وولعهم بالقوالب والتصنيفات، غير أن هذا الالتباس، ربما ينبع من قدرة صاحب »بناية ماتيلد«، إذ يرسم شخصياته، علي التقاط ذلك الخيط الدقيق الفاصل بين الفرد والنموذج. فأبطاله من فرط اهتمامه برسم تفاصيلهم، وإنصاته حتي لصمتهم، يشعرون قارئهم كأنه يعرفهم عن قرب.
من الصمت تحديدا بدأت أسئلتي:
يبدو الصمت مفتاحاً لعالمك الروائي، شخصياتك علي اختلافها، هي في الأغلب شخصيات صامتة ومتأملة، ثمة ندرة في الحوار، وإن وُجِد نري كل شخصية تميل إلي تكرار ما تقوله الشخصية الأخري، كأنها تتأمل كلامها، أكثر منها ترد عليها أو تتحاور معها. ما السبب وراء هذا؟
- في أحيان أجدني مرجعا ذلك إلي ضيق الحدود المكانيّة التي تقيم فيها شخصيات الرواية. في "غناء البطريق" لم يكن هناك، علي مدار الفصول، إلا المنزل الذي أقامت فيه العائلة من دون أن تغادره. ألعيش في أمكنة ضيّقة لا تتبدّل تجعل الساكنين، القليلين أصلا ( أب وأم وإبنهما الشاب في "غناء البطريق")، غارقين في الصمت الذي، إن قطعته جملة عابرة تقال من أحدهم بين الحين والحين، فإنما تبدو هذه الجملة طالعة من التداعي الداخلي لقائلها، أو تكون فلتة من فلتات سهوه. لكن بمقابل هذا الصمت الذي يُغرق القاريء أيضا، هناك الإنتباه المحفّز لتأويل أيّ حركة قد تصدر عن أيّ من هؤلاء الثلاثة. وإن انعدمت هذه الحركة سيكون علي التأويل أن يذهب إلي عمق أبعد إذ سيروح يسأل سؤالاته بنفسه.
ثم أنّ هؤلاء الثلاثة لا يبدون ذاهبين إلي أيّ مقصد يتطلّب منهم أن يبذلوا له جهدا أو حماسة. الأب الذي أجبر علي إخلاء دكّانه في المدينة القديمة لا يفعل شيئا غير الإنتظار والتذكّر؛ الابن يكفيه التهويم والتخيّل في علاقته بالفتاة الصغيرة التي يراها من مربّع النافذة تحت بيته؛ والأم، التي وحدها تسعي إلي الخروج، تبدو، حين بدأت به، كأنّها ذهبت إلي المجهول وغير المفهوم. إنّها العزلة القصوي في "غناء البطريق"، أما في "أيام زائدة" فهناك العزل. كأنّ الرجل الشيخ يعاقَب علي العمر الفائض الذي بلغه، فانكفأ في بيته لا يغادره. لكنّني أري مع ذلك أنّ هذه الرواية، علي الرغم من خلوّها من الحوار علي نحو شبه تام، وعلي الرغم من عزلة بطلها وانفراده، صاخبة عالية النبرة، بخلاف "غناء البطريق". ذاك لأن الشيخ لا يتوقّف عن الإحتجاج وكره العالم من حوله. في قلب الصمت الذي فّرض عليه لم يتوقّف إستنفاره العصبي عن إثارة دوّامات من الضجيج والصخب. هذا لكي أقول أن الربط بين العزلة والصمت لا يكون صحيحا علي الدوام.
لكنّني، في هاتين الروايتين كما في رواياتي الأخري، أراني عازفا عن إمداد المشاهد بالحركة. هذا صحيح. في أحيان أردّ ذلك إلي ميل فيّ لاستخلاص المعني من تأليف المشاهد كما تؤلّف، أو تركّبّ، علي خشبة المسرح، لكن لأبقي حركة الممثلين متوقّفة بعد ذلك، جاعلا إيّاهم مستعدّين لأن يوصفوا ويُتأمّلوا. ذلك عائد ربما إلي أنّ ما أكتبه قائم أساسا علي التذكّر. وكما هو معلوم لا تعمل الذاكرة مثلما تعمل السينما، كأن تستعيد الأحداث متّصلة ومتحرّكة، بل هي تأتيك بالماضي محمولا علي ما يشبه
الصور الفوتوغرافيّة.
في "مئة وثمانون غروبا" تتقمص شخصيات أبطالك بمهارة، وتدخل إلي عقلهم لتنطق برؤيتهم للأحداث من وجهة نظرهم، إلا أنك لا تتقمص لغتهم. اللغة والأسلوب لا يختلفان من راوٍ لآخر، علي رغم اختلاف زاوية نظر كل راوٍ عن الآخر واختلاف موقعهم وخلفياتهم. لماذا؟
- حتي الثور الذي تقمّصه أرنست همنغواي وأنطقه في قصّة فرانسيس موكامبير تكلّم بلغة الصيّاد الذي قتله ، أي بلغة همنغواي نفسه. ألبشر الكثيرون الذين أنطقهم، ومعهم أولئك الذين من غير البشر (السمكة مثلا في رواية " بينما ترقد محتضرة") بدوا عاجزين عن أن يتميّزوا عن بعضهم البعض باللغة وحدها، وذلك لكون "لغاتهم" صادرة عن نسق تعبيري و"قولي" واحد. في مسرحيّات شكسبير مثلا، هل انفرد ماكبيث في لغته عن هاملت، علي الرغم من هذيان هذا الأخير وتشوّش عقله؟
بل إنّني أحسب أنّ لغة الكاتب ليست مادّة قابلة للتشكّل وإعادة التشكّل مرّة بعد مرّة. إنها، فيما هي تضيف إليها كلمات أو تعابير جديدة، تبدي من الرفض لتلك الجدّة بأكثر مما تبديه من القبول. في أحيان أروح أفكّر أنّني مللت من لغتي إذ أراها تأتيني مثل قوالب مستهلكة. أفكّر أنّ عليّ أن أغيّرها أو أكسرها، لكنّني أكون مدركا أن ذلك سيحتاج إلي زمن طويل، عشرين سنة ربما إن جاز لي التخمين. لغة الكاتب هي من الثقل والهيمنة إلي حدّ أنّنا كلّنا، نعرف كم أنّنا نتراجع إزاء مواجهتنا لكلمة معاندة تصرّ علي أن تكون هي، وليس كلمة أخري سواها، في نهاية الجملة.
إذ نجعل الكتابة مرويّة بألسنة أبطال الروايات أري أنّ ما يهمّ هو أن يبدو هؤلاء حقيقيين، وأن لا يعارضوا ويخالفوا ما سبق من تشكّلهم في فصول الرواية. وأنا، علي أيّ حال، دائم التساؤل عن التماسك البنائي لهؤلاء. وطبعا سرّني كثيرا، بعد صدور روايتي " أيّام زائدة"، كيف فوجيء الطلاب الذين دُعيت إلي نقاش الكتاب معهم، بأنّي رجل في الأربعين وليس في الرابعة والتسعين كما هو عمر العجوز بطل الرواية.
ثمة عين أنثوية ترصد العالم في "بناية ماتيلد" حيث النسج المتأني للتفاصيل الدقيقة، والاهتمام بدواخل البيوت، وفي "لُعب حي البياض" العالم مقدم عبر عيون امرأة بدرجة تجعل القارئ يشعر كأن الكاتب هو بالفعل تلك الأم بطلة العمل، هل للأمر علاقة بفكرة تقمص الشخصيات والحلول فيها، أم أنه يعود بالأساس إلي القول الشهير لكولريدج أن الكاتب الجيد هو صاحب العقل الإندروجيني؟
- فيما كنت أستعيد بالتذكّر بناية ماتيلد، بعد نحو15 عاما علي انتقالي
منها صبيّا، وجدت أنني لا أتذكّر إلا نساءها. كأنّهن كنّ كثيرات في البناية، أكثر من الرجال بكثير. وكنّ يثرن ألوانا متضاربة من الفضول والرغبة، حيث كان بينهنّ، إضافة إلي عمّتيّ، مدام جاديجيان المتعالية، ونبيهة الشيباني كثيرة الكلام عن التحسينات التي تفكّر بإجرائها علي الأثاث، والجارتان في شقّتي الطابق الثالث اللتين كنت أروح أمعن في تخيّلهما، كلّما عبرت من أمام بابيهما المقفلين، بانيا صوري علي ما ترتديانه من ثياب وما تزيّنان به وجهيهما ، كيف هو أثاث كلّ من البيتين في الداخل. ثمّ هناك بنات الرغبة، في الطابق الخامس والطابقين الثالث والثاني، المختلفات المثيرات أنواعا من التهويم البكر والرغبة المتخبّطة.
كنت أري الرجال قليلي الوجود إذ كان يصعب عليّ أن أتذكّر عمّي مثلا إلّا وهو يلقي عليّ نظرته المؤنّبة الزاجرة. أبي كان يأتي مرهقا من شغله وقلّما يتاح له الوقت لكي يربينا، أي لكي لا يرينا ذلك الوجه الرجولي من شخصيّته. الآخرون في الطوابق كانوا كأنّهم أسري نسائهم، يعتنين بهم كما يُعتني بالأولاد الصغار. مجيبا علي سؤالِك أري أن هؤلاء كانوا إندروجينيين، يمسكون الأشياء برفق كأنما من أجل ألّا يؤذوها ويتكلّمون بأصوات منخفضة ويلقون التحية مبتسمين وينتظرون أمام أبواب بيوتهم غير متذمّرين إن تأخّرت نساؤهم بفتح الأبواب. كانوا ملحقين بالنساء تابعين لهنّ. أمّا أكثر ما يمكن تخيّله منهم، أو كتابته، فهو ذلك الجانب المكمّل لنسويّة البناية أو أنثويّتها.
كتابي الثاني "تحت شرفة آنجي" كان أقرب إلي أن يكون احتفالا بقدرتي علي تحقيق ذلك القرب التخيّلي، أو الرؤيوي، من النساء. ولا أعتقد أنّ ذلك القرب بلغ حدّ تقمّصهنّ، إذ كنت مفتونا بدور المتلقّي الذي يشاهد ويتخيّل من مسافة. أما التقمّص والحلول محلّ الشخصيّات فأتي في ما بعد، ولم يقتصر علي النساء وحدهنّ.
في كثير من أعمالك يبدو المكان بطلا رئيسيا. الزهرانية في "مئة وثمانون غروبا" هي أساس العمل، وجغرافيتها تعد، بشكل أو بآخر، أحد المحركات الأساسية للأحداث والشخصيات. وفي "لُعَب حي البياض" و"أيام زائدة" و"بناية ماتيلد" علي سبيل المثال نجد أن الرواية هي نتاج لعلاقة الشخصيات بالمكان وتفاعلهم معه، لكن رغم هذا ألاحظ حرصاً منك علي عدم الاستسلام لغواية المكان وعدم الإغراق في وصفه وتأكيد "محليته"، المكان لديك، وكذلك الشخصيات يمكن أن تنتمي لأي بقعة في العالم دون أن ينفي هذا "لبنانيتها". هل ينبع هذا من تصور معين لدور المكان بحيث يبدو كفكرة الشخصية عنه أكثر منه كمكان واقعي؟
- حين أصل، فيما أنا أكتب،إلي وصف المكان، تكون تلك أقصي أوقات الكتابة حرّية ومتعة. ذاك أنّي أشعر حينها بسهولة أن تأتي الصور إلي الورقة. أكون عندها إزاء حشد من الصور عليّ، مسرعا، أن أكتبها، أن آخذها كلّها مثلما فعل صديقي حمزة حين انهمرت النقود من فتحة الآلة أمامه لتفرغ له صندوقها كلّه. في كتابتي للأمكنة لا يصيبني ذلك الإستعصاء الذي يوقفني فأقوم لأريح نفسي من ضيقه.
يخيّل إليّ أحيانا أنّ الشعراء العرب كانوا مأخوذين بالكتابة عن الأمكنة علي رغم علاماتها القليلة. في المدرسة، وفي الجامعة أيضا، كان الأساتذة يقولون أنّ الوقوف علي الأطلال غرض من أغراض الشعر، وأنّ الشاعر، إذ يبدأ قصيدته به، يكون كأنّه يؤدّي وصلته في تلك المباراة التي علي الجميع أن ينخرط فيها. وقد تأخّرت ربما لأصل إلي أن أعرف أنّ ذلك الحيّز من القصيدة لم يستمّر إلا لأنه كان مجال الحريّة للشعراء المنهمكين بنظم الأغراض الأخري للقصيدة. كانت تكفيهم علامات قليلة باقية مما سبق أن كان مضاربهم ومحلّ إقامتهم المؤقّتة حتي يلبوا دعاء حنينهم بالشعر. وربّما أستطيع أن أفهم كيف كان استدعاء ما بقي من أشياء علي الرمل مشعّ الحضور ، علي رغم قلّة شأنه، وكيف كان جلبه إلي الشعر أشبه
بالإحتفاء.
في أكثر كتبي كان المكان هو البطل الرئيسي كما تقولين. حتّي أنّني أجعل سقوطه تراجيديا الرواية. هكذا كانت "بناية ماتيلد" وكذلك كان المكان في رواية" سنة الأوتوماتيك" حيث بدا أن تداعي زمن ذاك الفرن يشهد علي زوال تاريخ كامل. وكذا أيضا "غناء البطريق" حيث لا يتحقّق وعد قيام المدينة بعد أن هدمتها الحرب إلخ ...
هذه الأمكنة، المحليّة، بل المغرقة في محليّتها، تتحوّل في الكتابة إلي أن تكون أشبه بعوالم غير منطبقة علي هويّة مكانيّة محدّدة. تصير رمزيّة ومجرّدة كمثل ما تكون في الكتابة الشعريّة.
في الصفحة الأولي من "مئة وثمانون غروبا" ينتبه الراوي الأول إلي عدم وجود مقبرة في الزهرانية كأن الزهرانية هي الأرض في لحظتها البكر، وقرب نهاية الرواية يقتل تيسير ميخا بالحجر كأننا أمام محاكاة ما لجريمة القتل الأولي حين قتل قابيل أخاه هابيل وقت أن كان الإنسان في حاجة للغراب كي يتعلم منه طقس الدفن. إلي أي مدي تأثر حسن داوود بالتراث الديني؟
- التراث الديني وما ماثله من ميثولوجيّات حاضرٌ فينا علي رغم بلوغنا القدرة علي نقده، أو الحيد عنه. غير أنّ واحدنا لا يعرف إلي أيّ مدي تغلغلت الميثولوجيّات فيه وكيف تعمل في أثناء ما نطرح علي أنفسنا أسئلة تتعلّق بمصائرنا، كأفراد، أو كجماعات حين يتبدّي لنا أن لا شيء يمكن ردّه إلي أيّ منطق أو فهم حين تبدأ هذه الجماعات بمحاربة بعضها بعضا. في الحرب تتّخذ الصفات ، مثل الشجاعة مثلا، أو الدفاع عن النفس، معاني دينيّة وأسطوريّة. الحرب شيء قديم، والمحاربون أيضا قديمون، وكذلك غضبهم وعنفهم، وأجسادهم حين تكون مستعدّة لتلقّي الموت أو لإماتة الجسم المقابل، جسم العدوّ.
هناك الكثير من الديني في تلك الفكرة التي راودتني كهاجس: لا مقبرة هنا في الزهرانيّة، علي الرغم من بشرها الكثيرين. من المقطع الأوّل في الصفحة الأولي من الرواية بدا أنّ هؤلاء الناس يعيشون في زمن غير متعيّن، إضافة إلي كون المكان لغزا. هنا أعود إلي سؤالك الذي سبق حول المحلّية والإنتماء إلي أيّ بقعة من العالم، لأقول إنّ الأمكنة الواقعيّة، بل الأكثر واقعيّة، تتيح لنا أن نحملها علي سياق مرتفع عن سياق الوجود الواقعي. هكذا أري الآن شخصيّات "مئة وثمانون غروبا"، غريبين وغرباء، كأنّني لم أصفهم بتفاصيلهم ولم أجعلهم يروون كيف عاشوا حياتهم بين آخرين.
يراقب أبو عاطف العالم من شرفته ويتلصص عليه، والراوي الثخين يراقب زوجة "أبو" عاطف بدوره ويشتهيها اشتهاءً صامتاً،
تيسير يراقب سلمي الواقفة في نافذتها كاشفةً صدرها له فيما تراقبهما معاً شلة الأصدقاء المختبئين، سلمي وكوثر تراقبان مروان العابر علي الطريق.. الجميع هنا يتفرج علي الجميع، وحياة الأبطال تبدو كفرجة أكثر منها حياة معاشة. هل يمكن اعتبار هذه الفرجة والهوس بالمراقبة نتيجة لعدم الإندماج بين الجماعات التي تكوّن الزهرانية، والتي قررت منذ البداية أن تعيش كل منها في منطقة خاصة بها أم ماذا؟
- هناك في الأصل إنفصال الجماعات بعضها عن بعض. بين كلّ جماعة وأخري ينبغي أن تترك مسافة خالية اتّقاء للإختلاط. بين الشبّان المسيحيين وبيت "أبو عاطف" الطريق تقوم بهذا الفصل. بين أصحاب المحلّات وأولئك الذين وفدوا إلي الزهرانيّة من بعدهم كانت المسافة الفاصلة وهميّة غير متعيّنة، ما أدّي إلي اختراقها من قبل هؤلاء وأولئك لتبدأ من ثمّ أولي المواجهات. أبو تيسير كان الأكثر حكمة تحويل أرض الزهرانيّة إلي ما يشبه مستعمرات مستنفرة، قبل أن يدرك الأفراد، بالغريزة أيضا، أنّ اختراق الحدود سبيل إلي المواجهة والحرب. وكما في سؤالك الملاحِظ لذلك الإنفصال الذي يجعل فضول الآخرين تجاه الآخرين مقتصرا علي النظر المتلصّص، كان كلّ تجاوز لخطوط التماس تلك أن يؤدّي إلي ما أدّي إليه اقتراب تيسير من نافذة سلمي، أو انخراط وليد في علاقة مع الشبّان المسيحيين ظلّت حذرة ومحكومة بعزلهم له واستحالة أن يكون واحدا منهم.
مراتب الإنعزال المتدرّجة، ابتداء من تسوير الجماعات أمكنة إقامتها، نعرفها جميعا ونحسّها، عندك يا منصورة في مصر وعندنا في لبنان، كما عند الجميع في مواطن الجميع. في الرواية لم أكن محتاجا إلي وعي خاص أو إلي وعي نبوئي لأعرف أنّ الناس محكومون بقتال بعضهم البعض، فالأمثلة عندي كثيرة ولم تبعد كثيرا عن أن تكون راهنة. لكن، مع كلّ ما عشناه وما يعيشه سوانا، يظلّ من المخيف أن نقرّ بأنّ قدر المتجاورين هو الحرب، أو، في أحسن الأحوال، السعي إلي اتّقائها.
يشحذ شقيق وليد رغبته في زوجة "أبو عاطف" عبر تخيلها تخون زوجها مع شخص آخر، ووليد، في علاقته الجسدية بسلمي، يفكر في ما سمعه عنها لا فيها هي كما قالت، وزوجها في الدنمارك يقوي شهوته لها عبر دفعها للحكي عن علاقتها بوليد وبآخرين تضطر لاختلاقهم. لماذا هذا التشابه رغم اختلاف الأشخاص؟
- ذلك "التثليث" بحسب ما كتب أحمد بيضون معلّقا علي العلاقات التي ذكرتِها، أراه وجها من وجوه التنازع وقدّ حلّ في داخل الرغبة الجنسيّة. دائما تمثل الحاجة إلي ثالث، إمّا لقهره،
كما في حالة وليد مع سلمي حيث يبدو فيما هو يمارس معها فحشه المتعجّل، تحقيقا لانتصاره وفوزه علي من يشتهونها ولا يستطيعون تحقيق مأربهم منها؛ وإمّا لقهر الذات بإذلالها، وهذا كان حال زوج سلمي في الدنمارك، وكذا حال الثخين صاحب محلّ الألعاب الذي يشعل شهوته العاجزة بتخيّل المرأة التي يترصّدها بين يدي رجل آخر.
وفي مثول الآخرين في الجماع أو التهويم الجنسي، لقهرهم أو لقهر النفس بهم، يظهر المقيمون في ذلك المكان المسمّي "الزهرانيّة"، كأنّهم حافظون لغرائز في الجنس موازية لغرائز القتال والحرب. في " مئة وثمانون غروبا" ليس إلا الشهوات، تلك الضالة، في نظر قارئيها. ربما خالفت سلمي ذلك قليلا في علاقتها بكوثر، في الفترة التي ازورّت عنها هذه الأخيرة.
ثمة أصداء لوليم فوكنر في كتابتك، أيضا ألمح أثراً ما لهيمنجواي فيما يخص أن ما يُكتب هو قمة جبل الجليد، في حين تختفي تحت السطح طبقات متعددة تحتاج إلي من يفك شيفرتها. من الكتاب الذين تعتبرهم أسلافك؟
- كان أبو نواس قد أشار إلي الوجهات المتعدّدة التي يتّخذها الكلام: " آخذ نفسي بتأليف شيء/ واحد في اللفظ شتّي المعاني" رائيا أنّ ما يأتي به الكلام معاني مبعثرة وغير مرتّبة بالتدرّج العمودي، حتي قمّة الجبل، علي نحو ما وصف همنغواي. الكلام الواحد يحتمل معاني كثيرة لأنّ الأشياء التي نراها أمامنا تراوغ العين وتتبدّي لنا في أكثر من صورة.
أحسب أنّ ميلي إلي الإفتتان بالكتابة في ذاتها أتاني من تعلّقي بالشعر، ذاك الذي كنت حفظت منه أبياتا وقصائد يصعب عدّها، حتي أن صديقي الشاعر حسن عبدالله سألني في أحد الأيّام، ممازحا، ماذا علينا أن نفعل بكلّ هذا الشعر الذي نحفظه.
وقد وجدت شعرا كثيرا في روايات عديدة قرأتها. روايات وليم فوكنر الذي ذكرته هي في تلك المنطقة المتراوحة بين الروية والنشيد. ولا شكّ عندي بأنّ فوكنر ترك تأثيرا غير هيّن عند كلّ من قرأه، فإضافة إلي حيوية كتابته و"صخبها" لم يترك تجديده التعبيري والتقني والتخيّلي شيئا كثيرا لمن أتوا من بعده. أجد شعرا كثيرا في روايات يوسيناري كاواباتا، حيث الكتاب مثل لحظة شعوريّة واحدة ممتدّة علي الصفحات كلّها. بطل هرمن ملفيل أيضا " آخاب" يبدو شخصية أسطورية لا تكفّ عن توليد الإحساس بالشعر. لن أعدّ هنا الروايات التي أجدني منتسبا إليها، وهي ليس كلّ ما يصنع وعينا الكتابي علي أي حال. فهناك، إلي أشياء كثيرة أخري، السينما مثلا، هذه التي، بعد تدخّلها الحاسم، لم تعد الكتب وحدها مراجع الكتّاب وملهمتهم.
الشعر يكتنف بعض القراءات أو ينبثّ فيها مثل نبضات تتتالي، مرّة بانبثاق معني خاصّ بالعبارة وحدها، موقظا فينا انتباها مفاجئا؛ مرّة بطريقة ما ينغلق المعني؛ مرّة ثالثة بذلك الحيّز الإضافي، المعطي لنا كهبة؛ ثم مرّة باللمح الذي عرّف به البحتريّ الشعر حين قال واصفا إيّاه بأنّه "لمح تكفي إشارته".
قرأت أن البطل في "أيام زائدة" هو جدك، والأم في "لعب حي البياض" هي أمك، كما أشرت أنت في أحد الحوارات معك إلي العمة في "بناية ماتيلد" بقولك "عمتي"، كيف تري العلاقة بين الكتابة والحياة الشخصية للكاتب انطلاقاً من تجربتك؟
- بين الكتّاب الروائيين، بحسب وليم بويد، هناك من يخترع وهناك من يتذكّر. أنا من النوع الثاني. عليّ دائما أن أبدأ من مكان أعرفه أو من شخصيّة سبق لها أن انطبعت في ذاكرتي، سواء كانت قد التصقت بي أو عرفتها معرفة قليلة أو عابرة. بطل رواية "غناء البطريق" لم يكن أكثر من هيئة وصورة. في المرّات التي رأيته فيها، وهي مرّات قليلة، كنت أظنّ أنّه لن يردّ التحيّة إن بادرت إليها. لكنّه بقي في الذاكرة طيلّة هذه السنوات، كأنّما مستعدّا لأن يحضر بطلا لرواية كاملة.
التذكّر هو مادّة الكتابة الأولي، وهو حافزها أيضا. لكنّ الكتابة لا تبقيه علي حاله. إنّه ليس أكثر من إشارات هادية للمخيّلة فيما هي تبني من تلك المادّة القليلة نسقا متطاولا. في أحيان أخري، وهذه كانت حالي في بداية الكتابة، كان ما أعرفه عن الشخصيّة، كما في "أيّام زائدة" وما أعرفه عن المكان، كما في "بناية ماتيلد" فائضا إلي حدّ أنّه كان علّي أن أعمل بما أتذكّره حذفا وإغفالا، إذ ليس كلّ شيء في حياة البشر تحسن كتابته.
لكن،في، في الحالين، أو في الحالات كلّها، أراني أتفنّن في كتابة ما عشته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.