موقع «نيوز لوك» يسلط الضوء على دور إبراهيم العرجاني وأبناء سيناء في دحر الإرهاب    فوز توجيه الصحافة بقنا بالمركز الرابع جمهورياً في "معرض صحف التربية الخاصة"    رئيس جامعة الإسكندرية يشهد الندوة التثقيفية عن الأمن القومي    مصر تستعد لوظائف المستقبل    تتراجع الآن أسعار الذهب اليوم فى السودان وعيار 21 الآن بمستهل تعاملات الأربعاء 8 مايو 2024    اعرف تحديث أسعار الحديد والأسمنت اليوم الأربعاء 8 مايو 2024    عاجل - "بين استقرار وتراجع" تحديث أسعار الدواجن.. بكم الفراخ والبيض اليوم؟    برلماني: الحوار الوطني وضع خريطة استثمارية في مصر للجميع    تراجع سعر السبيكة الذهب اليوم وعيار 21 الآن بمستهل تعاملات الأربعاء 8 مايو 2024    قبل بداية الصيف.. طرق لخفض استهلاك الأجهزة الكهربائية    «الألماني للسياحة»: توقعات بزيادة الليالي السياحية خلال بطولة يورو لكرة القدم يوليو المقبل    تأجيل محاكمة ترامب بقضية احتفاظه بوثائق سرية لأجل غير مسمى    غارات إسرائيلية على عدة بلدات جنوب لبنان    العاهل الأردني: سيطرة إسرائيل على معبر رفح ستفاقم الكارثة الإنسانية في غزة    الأونروا: مصممون على البقاء في غزة رغم الأوضاع الكارثية    أبطال فيديو إنقاذ جرحى مجمع ناصر الطبي تحت نيران الاحتلال يروون تفاصيل الواقعة    كيف صنعت إسرائيل أسطورتها بعد تحطيمها في حرب 73؟.. عزت إبراهيم يوضح    المصري يتمسك بالمشاركة الأفريقية حال اعتماد ترتيب الدور الأول    رئيس إنبي: نحن الأحق بالمشاركة في الكونفدرالية من المصري البورسعيدي    تفاصيل زيادة الحضور الجماهيري بالمباريات المحلية والأفريقية    جريشة: ركلتي جزاء الأهلي ضد الاتحاد صحيحتين    الحديدي: كولر «كلمة السر» في فوز الأهلي برباعية أمام الاتحاد السكندري    آنسات الأهلي يهزم الزمالك في بطولة الجمهورية للكرة الطائرة    هل نقترب من فجر عيد الأضحى في العراق؟ تحليل موعد أول أيام العيد لعام 2024    مصدر أمني يكشف تفاصيل إطلاق النار على رجل أعمال كندي بالإسكندرية    ارتفاع درجات الحرارة.. والأرصاد تحذر من ظاهرة جوية تؤثر على حالة الطقس الساعات المقبلة (تفاصيل)    ضبط تاجر مخدرات ونجله وبحوزتهما 2000 جرام حشيش في قنا    زاهي حواس: عبد الناصر والسادات أهديا قطعًا أثرية إلى بعض الرؤساء حول العالم    الأبراج التي تتوافق مع برج العذراء في الصداقة    ياسمين عبد العزيز: فيلم "الدادة دودي" لما نزل كسر الدنيا    معجبة بتفاصيله.. سلمى الشماع تشيد بمسلسل "الحشاشين"    ياسمين عبدالعزيز تكشف حادثًا خطيرًا تعرضت له لأول مرة.. ما القصة؟    «خيمة رفيدة».. أول مستشفى ميداني في الإسلام    بعد تصريح ياسمين عبد العزيز عن أكياس الرحم.. تعرف على أسبابها وأعراضها    صدمه قطار.. إصابة شخص ونقله للمستشفى بالدقهلية    دار الإفتاء تستطلع اليوم هلال شهر ذى القعدة لعام 1445 هجريًا    الكرخ: نرفض عقوبة صالح جمعة القاسية.. وسلكنا الطرق القانونية لاسترداد حقوقنا    طبيب الأهلي يكشف تفاصيل إصابة الثنائي ربيعة وكوكا    سليمان جودة: بن غفير وسموتريتش طالبا نتنياهو باجتياح رفح ويهددانه بإسقاطه    عزت إبراهيم: الجماعات اليهودية وسعت نفوذها قبل قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي    أسامة كمال يشيد بدور الشيخ إبراهيم العرجاني ويترحم على نجله الشهيد وسيم    ياسمين عبد العزيز: النية الكويسة هي اللي بتخلي الشغل ينجح    اليوم.. ذكرى رحيل فارس السينما الفنان أحمد مظهر    اليوم، تطبيق المواعيد الجديدة لتخفيف الأحمال بجميع المحافظات    اليوم.. دار الإفتاء تستطلع هلال شهر ذي القعدة لعام 1445 هجرية    أختار أمي ولا زوجي؟.. أسامة الحديدي: المقارنات تفسد العلاقات    ما هي كفارة اليمين الغموس؟.. دار الإفتاء تكشف    دعاء في جوف الليل: اللهم امنحني من سَعة القلب وإشراق الروح وقوة النفس    انتداب المعمل الجنائي لمعاينة حريق شقة سكنية بالعمرانية    طريقة عمل تشيز كيك البنجر والشوكولاتة في البيت.. خلي أولادك يفرحوا    في يوم الربو العالمي.. هل تشكل الحيوانات الأليفة خطرا على المصابين به؟    الابتزاز الإلكتروني.. جريمة منفرة مجتمعيًا وعقوبتها المؤبد .. بعد تهديد دكتورة جامعية لزميلتها بصورة خاصة.. مطالبات بتغليظ العقوبة    إجازة عيد الأضحى| رسائل تهنئة بمناسبة عيد الأضحى المبارك 2024    القيادة المركزية الأمريكية والمارينز ينضمان إلى قوات خليجية في المناورات العسكرية البحرية "الغضب العارم 24"    الشعب الجمهوري بالشرقية يكرم النماذج المتميزة في صناعة وزراعة البردي    مراقبة الأغذية بالدقهلية تكثف حملاتها بالمرور على 174 منشأة خلال أسبوع    محافظ أسوان: تقديم الرعاية العلاجية ل 1140 مواطنا بنصر النوبة    الجدول الزمني لانتخابات مجالس إدارات وعموميات الصحف القومية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أورهان باموق في رواية إسمي أحمر هل ينبغي أن يعترف الغرب بكاتب ما حتي نسارع الي قراءته؟!
نشر في نقطة ضوء يوم 31 - 08 - 2009

قبل البدء بكتابة هذه المقالة قمتُ ببحث مطوّل للاطلاع علي المقابلات والمقالات التي تناولت روايات الكاتب التركي أورهان باموق، لكنني فوجئتُ بأنّ معظم المقالات التي كتبت باللغة العربية لم تتم إلا بعد حصول الكاتب علي جائزة نوبل، هذا من جهة أما من جهة أخري فإنني لاحظتُ بأنّ إعلاميي ومثقفي الغرب كانوا قد اكتشفوا روايات الكاتب وقرأوها وترجموها واستضافوا صاحبها قبل حيازته علي الجائزة، فتساءلتُ عن سرّ اعتراف العالم العربي بأهمية كاتب معين مباشرة بعد اهتمام الغرب به. ألا يعني هذا بالتحديد أننا لا نتعرف علي الأعمال المهمة إلا من خلال عيون الآخرين وبأننا لا نقرأ بحيادية؟، أوَلا يسمي هذا بالعمي الأدبي المجازي؟.
أرجو بأن لا أفهم خطأ بأنني أدعو إلي الإحجام عن الكتابة لمن يستحق التطرق إلي أدبه، فهذه المقالة ما هي بحدّ ذاتها إلا مديح لرواية ضخمة ومهمة تحت عنوان إسمي أحمر . لكنني أريد أن أستغل ملاحظتي لأتوجه إلي الأدباء والنقاد العرب وأدعوهم إلي تبني كل عمل جيد بعيداً عن شهرة وإسم صاحبه: ليس كل عمل أول بالضرورة أن يُرفض وليس كل اسم معروف بالضرورة أن يقدم عملاً مهماً!.
لأنتقل الآن مباشرة إلي صلب الموضوع وإلي رواية إسمي أحمر للكاتب أورهان باموق الحائز علي جائزة نوبل عام 2006. إسمي أحمر هي رواية تنقل أحداثها علي لسان أبطالها علي طريقة الحكواتيين. كل شخص في الرواية يتقدم الفصل المخصص له ويستعرض الأحداث المختلفة من وجهة نظره، مع هذا يحتفظ كل شخص في الفصل المخصص له بطريقته في السرد والتعبير عن مشاعره تجاه ذات الحدث فينقل للقارئ أسراره وقد يستحلفه أحياناً بعدم إفشائها. انطلاقاً من صدق هذه الخصوصية يتعاطف القارئ مع كل أبطال الرواية ويحاول حمايتهم بعد الاقتناع ببراءتهم من تهمة قتل أحد النقاشين التي ابتدأت بها الرواية. هذه الثنائية في العلاقة ما بين القارئ والأبطال جعلت الكاتب بذكائه ودهائه الأدبيين ينصب القارئ وحده قاضياً أمام دفاعات الأبطال، ويعرض الكاتب الأدلة الجنائية لحظة بلحظة مع السؤال الضمني المستمر طوال الرواية: من هو القاتل من بين هذا الكم من الشخصيات؟، هل اكتشفته أيها القارئ؟، شغّل عينيك وأذنيك، وقدرتك التحليلية مع كل حواسك في تتبع الأحداث لمعرفة هوية القاتل.
بينما كنتُ أطلع علي المقالات العربية والأجنبية المتعلقة بهذه الرواية، شدّ إنتباهي بقوة اتفاق النقاد جميعاً علي تطرق الرواية بإسهاب إلي موضوع صراع الحضارات. أتفق بالتأكيد مع النقاد بأنّ الرواية تطرقت إلي هذا الصراع ، لكنني أضيف أيضاً ملاحظتي الخاصة وهي أنّ هذا الصراع لم يكن إلا أحاديّ الجانب ولم يكن مستفزاً إلا من قبل طرف واحد (هو الحضارة العثمانية) ضد طرف آخر (الحضارة الغربية) التي لم تكن معنية حقيقة بهذا الصراع لأنها كانت خارج موقع المنافسة!.
تناولت الرواية حقبة تاريخية معينة من حياة الإمبراطورية العثمانية حين كان الرسم محرماً إلا بشروط معينة تخضع المرسوم إلي عدم المطابقة مع الواقع وإلا اعتبر تحدياً للقدرة الإلهية علي الخلق. بسبب هذا التحريم اقتصر اهتمام الرسامين في ذاك الوقت علي النقش والزخرفة لدرجة أنهم كانوا يسمون أنفسهم نقاشين بدل رسامين ، وكانوا يبتعدون عن رسم المخلوقات بشكل حقيقي أو قريب خوفاً من اتهامهم بالكفر. أظهرت لنا الرواية الكثير من الصراع النفسي الداخلي للنقاشين حول موضوع تحريم الرسم المطابق للحقيقة، فالكثير من النقاشين كانوا يبدون، ضمنياً، الكثير من الإعجاب بالفن الإفرنجي لدرجة أنّ بعضهم تماهوا مع هذا الفن الغربي وحاولوا الوصول إلي أسلوب خاص مماثل بعيداً عن التقليد القديم لكنهم في الوقت نفسه مارسوا هذا التماهي سراً خائفين من تكفيرهم. يقول البطل قرة في صفحات الرواية الأخيرة معترفاً: (كل شخص يريد سرياً أن يكون له أسلوب، وكل شخص يريد أن يكون له رسم شخصي) ص 581.
أكرر مرة أخري بأنّ الكاتب لم يقترب من الفن الغربي ولم يتحدث عن صراعه مع الفن الشرقي، بل تناولت الرواية المفهوم الديني آنذاك للفن الإفرنجي كما يفهمه الأتراك أنفسهم. النقاشون معجبون بالفن الإفرنجي ويتماهون به ويقلدونه سراً لكنهم يخافون من الإفصاح عن ذلك لأنّ ذلك برأيهم ابتعاد عن الدين: (إنّ الرسم الذي تعملونه حرام عظيم. أتعرفون هذا؟ إنه كفر لا يجرؤ عليه أحد. إنه زندقة. ستحرقون في قعر جهنم. لن يهدأ عذابكم، ولن تخف آلامكم. وقد أشركتموني في هذا) ص 30 . هذه العبارة هي لأحد النقاشين في الرواية وقد عملَ سراً في أحد الأعمال المهمة مقلداً أسلوب أساتذة الإفرنج لكنّ الشكوك والصراعات والمخاوف جعلته يغير رأيه ويفكر بالانسحاب، لكنّ حياته انتهت بالقتل من قبل أحد زملائه النقاشين.
هذا الصراع عند معظم النقاشين لم يخفِ قدرتهم ومواهبهم في الرسم والنقش، لكن ما حفظوه من دروس المعلمين القدامي نهاهم عن الابتكار والإبداع وواظب علي إخافتهم من فكرة احتمال التكفير، فكانوا يعودون مضطرين إلي الأسلوب القديم في نقشهم وهو الأسلوب المستنسخ في رسم الأشياء بحفظ وليس كحقيقة. تقول شكورة إحدي الشخصيات الأساسية في الرواية: ( أردتُ أن ترسم شخصيتي، ولكنني أعرف أنهم مهما بذلوا لن يستطيعوا) ثم تكمل: (ليس ثمة نقاش في نقش خانة السلطان يؤمن أنه يمكن رسم فتاة جميلة دون ان يرسم عينيها وشفتيها مثل الصينيين) ص 603.
وهناك مسألة أخري أعجبتني جداً في الرواية ولم أقرأ أية إشارة إليها في أيّ من المقالات التي قرأتها وهي مسألة التبعية الدينية المتناقضة ما بين من يمثل الدين وعامة الناس، أي الشعب. فبينما تشرح لنا الرواية بالتفصيل خوف النقاشين من التطرق إلي المحرمات في ميدان الرسم إذا بنا نفاجأ بالسلطان الكبير، خليفة المسلمين، يطلب بنفسه، إنما سراً، بإنجاز رسم له يناقض كل الأساليب التقليدية القديمة وأن يتبع فيه أساليب الإفرنج الحديثة من تركيز عليه وعلي صورته بدل الاهتمام بالمظاهر الثانوية، وقد وصف هذا الرسم أحد النقاشين كالتالي: (رسم بحجم كبير وبكل تفاصيله كما يفعل عبدة الأوثان) ص 575.
هذا الرسم الذي حلّله السلطان لنفسه أخاف أحد النقاشين فاستمات للدفاع عن دينه لأنّ الرسم كما يراه: (استخدم المنظور بشكل سافر) ص574، ولأن الأشياء لم ترسم حسب أهميتها بالنسبة إلي الله، بل رسمت: (كما تري لأعيننا، وكما يرسم الإفرنج) ص574، وأيضاً لأنّ رسم السطان جاء: ( بحجم واحد مع كلب) ص 575.
لعبة الحبكة في الرواية لم تكن في التحايل علي الزمن، بالعكس جاءت أحداث الرواية بطريقة منطقية متسلسلة في استنطاق كل بطل باعترافات مخصصة في الفصل المحدد له. يقف الشخص أمامنا ويتحدث عن نفسه ومخاوفه وشكوكه وقد يحدث أن يكذب أحياناً كما فعلت شكورة في أحد فصولها عندما اعتذرت للقارئ عن كذبها: (حسن، قبل قليل قلتُ لكم أنني لم اقرأ الرسالتين اللتين جلبتهما إستر ولكنني كذبتُ عليكم) ص 128. وأحياناً أخري تنقل الشخصية مجرد فكرة عابرة كما قال قرّة حبيب شكورة وهو يحاول لفت انتباهها شاعراً بأنها تتلصص عليه من ثقب الباب :( أتصرف تصرفات متنوعة معطياً لنفسي انطباعاً يوحي بالعمق والقوة والسيطرة من أجل التأُثير علي الفتاة التي أحب) ص169، أو قد يكون سراً ندمت شكورة علي إفشائه: (أنا نادمة لما قلته لكم وأنا غضبانة قبل قليل عن أبي وخيرية، ما قلته ليس كذباً ولكنني اخجل مما قلت) ص132، أو حتي نقل التردد: ( لا أريد أن احكي لكم هذا خشية أن لا تحبونا أبي وأنا) ص 61. هذه الطريقة الحميمة في السرد والتي تأتي بطريق الهمس السري من قبل البطل، تجعل من القارئ طرفاً في النزاع وفي اكتشاف لغز اكتشاف القاتل من بين النقاشين الأربعة.
أبطال هذه الرواية ليسوا فقط أشخاصاً عاديين لديهم صراعاتهم ومشاكلهم الخاصة والعامة، بل تتضمن الرواية أبطالاً غير متوقعين قد يكونوا غير آدميين قدموا إلي الرواية من خلال أصواتهم. خصصت لهذه الأصوات فصول كثيرة تقاطعت مع فصول الشخصيات العادية فأضفت علي الرواية طابع الفلسفة والتحليل. هذه الأصوات قد تكون صوت جثة تفتش عن هوية قاتلها وتريد من القارئ البحث عنه: (لن اهدأ في قبري حتي لو دفنوني..جدوا ابن القحبة قاتلي) ص 10، وقد يكون صوت كلب مسكين يدافع عن ضرورة إعادة النظر في الحكم علي نجاسته: (الظرافة التي عوملت بها القطة لم نعامل بها نحن) ص21، وقد يكون صوت أحد الألوان التي تحاول الوصول إلي أنّ: (اللون هو لمس النظر) ص 274، و قد يكون صوت شيطان يحاول جاهداً تبرئة نفسه من إغضاب الله بعدم سجوده لآدم فيخاطب ربه: (ألست أنت الذي علم الإنسان الغرور بجعل ملائكته تسجد له؟ والآن يعملون لنفسهم ما تعلموه من ملائكتك فيسجدون لبعضهم البعض،ويضعون انفسهم في مركز الكون؟.) ص 429، وقد يكون الصوت صوت النقود فنتابع اللحظات الأولي لصكها ثمّ تفاصيل تحركاتها: (قبل أن آتي إلي هنا قضيت عشرة ايام في جورب صانع حذاء فقير وسخ.... أنا نقد مزور. صنعوني من ذهب عياره قليل في البندقية، وجلبوني إلي هنا، ودفعوني إلي التداول علي أساس أنني ذهب. أشكركم علي تفهمكم وضعي) ص 150، أو صوت حصان يشرح أسباب الخطأ الذي يقع فيه الرسامون ويعلن صراحة عن تفضيله لأسلوب الإفرنج : ( أساليب الإفرنج الجديدية ليست مروقا، بل علي العكس، هي الأنسب لديننا، لكنني سئمت من إظهاري بشكل خاطئ علي يد النقاشين الذين يجلسون في البيت ولا يخرجون إلي الحرب مثل النساء) ص323، وقد يكون صوت شجرة تحكي عن نفسها: (لا أريد ان اكون الشجرة ذاتها، بل معناه) ص 76.
وكانت لي ملاحظة أخري أثناء قراءتي للرواية، وهي تتعلق بروح الدعابة التي تنتشر بشكل رائع في كل الرواية علي الرغم من سوداوية الأحداث التي تعاقبت فيها. هذه الدعابة قد تكشف عن جانب من شخصية الكاتب الذي يجد راحة فعلية أثناء إنجازه عمله الأدبي، فانعكس الارتياح بهذا الأسلوب المبهج بالرغم من سرد وقائع الألم والصراع. في إحدي المقابلات التي أجريت مع الكاتب من قبل الصحافي الأميركي كلفين سينس، نيويورك تايمز، قبل ستة أشهر من نيل باموق جائزة نوبل، اعترف أورهان عند سؤاله عن دافعه إلي الكتابة بأنه يكتب ليبحث عن الوحدة داخل غرفته حيث يجد سعادته، قال: (أظن بأن نيتي ليست في إيصال أية رسالة معينة أو إخبار قصة في البداية، بل الهدف من كتابتي هو الجلوس وحيداً في غرفتي، إنه نوع من العلاج).
هذه الراحة في الكتابة جعلت المزج ممكناً ما بين الكآبة والفرح، الخوف والسعادة طوال أحداث الرواية، وانعكس هذا المزج بصورة رائعة وبطريقة إبداعية و خلاقة في الفصل المتعلق بزواج شكورة وقرة في اليوم التالي لوفاة والد شكورة. نقل قرة أخبار هذا العرس السعيد والمأساوي في آن واحد، تحدث عن حلّ مسألة طلاق شكورة من زوجها الغائب أولاً، ثمّ تحدث عن الاستعداد السريع للزواج في حضرة جثة والد شكورة قبل دفنه. مددا جثة الوالد في سريره وتقدم الشيخ يتلو أمنياته ونصائحه أمام الجثة ظاناً بأنّ الوالد شديد المرض ولا يستطيع الحراك والكلام، فيخاف قرة من افتضاح الأمر وانكشاف أمر الجريمة فيركض ويمسك بذراع الجثة واعداً بأنه سيحسن من معاملة إبنته وولديها، ثم إذا به يتصرف وكأن الميت يتكلم فيقرب أذنه من فمه منصتاً إليه بانتباه و بالشكل الذي يستمع فيه شاب لشيخ من العيان بانتباه شديد ص 301.
بينما كان قرة يمثل دور المنصت باحترام إلي جثة عمه والناس حوله لا ينتبهون إلي رائحة تحلل الجثة، إذا بهم بالنهاية يثنون علي أخلاق قرة العالية: (تبادل الأفندي الإمام والشيخ ابن الحي نظرات تفيد معني الإعجاب بموقفي المستمع إلي نصائح حمي المتمدد علي فراش الموت وباحترامي وطاعتي له.
آمل بألا يفكر أحد بأن ثمة إصبعاً لي بمقتل خالتي) ص 301. أما الظرافة الأدبية برأيي فهي تظهر أيضاً في النهاية التي قلبت محور الرواية إلي ناحية الكاتب وناحية والدته، وذلك عندما صار الكاتب نفسه الحكواتي الأول وناقل أخبار أبطال الرواية استناداً إلي الرسائل التي قدمتها له أمه والرسم الذي حصلت عليه من أرملة المقتول. قالت لنا والدة أورهان، أي شكورة :(حكيت هذه الحكاية التي لا يمكن رسمها لابني أورهان لعله يكتبها...إنه عصبي ومزاجي وتعيس دائماً، ولا يخشي أبداً من أن يظلم من لا يحب..احذروا من تصديق أورهان، لأنه ليس من كذبة لا يقدم عليها لتكون حكايته جميلة ونصدقه) ص 604 605.
يبقي أن أشير في النهاية الي أنّ المزج ما بين التاريخ والسرد الروائي الذي اعتمده أورهان باموق هو عمل احتاج إلي عشر سنوات من الدراسة والمطالعة وهو اعتمد في دراسته علي كتب قديمة حصل عليها من جامعات متخصصة في أميركا مثل كتاب الشاهنامة للفردوسي، وأعمال النظامي، ومتاهات الحريري، كما ودرس تاريخ الفن الإسلامي ومزاياه وتأثراته وتطوره ورمزية الألوان فيه، واهتم بدراسة تقنيات وأدوات الرسم والنقش التي استخدمها الفنانون الإسلاميون في القرن السادس عشر، وهي الحقبة التي تمت فيها أحداث الرواية.
لا بدّ من الإشارة هنا إلي أنّ هذا التمازج التاريخي الأدبي الذي استخدمه باموق في روايته، كان جرجي زيدان قد اعتمده سابقاً في سلسلته الضخمة تاريخ الإسلام والتي بلغت اثنتين وعشرين رواية تناولت الفتوحات الإسلامية ودولة المماليك. وأذكر أيضاً الروائي الفرانكوفوني أمين معلوف الذي لا يزال مهتماً بكتابة الرواية التاريخية وكان قد ابتدأ بهذا النوع من الأعمال بروايتيه الرائعتين ليون الإفريقي و سمرقند . وحديثاُ لا أنسي ذكر الروائي رشيد الضعيف في روايته الحديثة نسبياً معبد في بغداد والتي تتناول ظروف أحداثها فترة الصراع علي الخلافة ما بين أبناء الخليفة هارون الرشيد، الأمين والمأمون.
أذكر هذه الأسماء وفي بالي سؤال أخير قبل أن أغلق مقالتي: لو أنّ أحداً من الإسمين الأخيرين اللذين ذكرتهما نال في يوم من الأيام جائزة نوبل للآداب، هل ساعتئذ فقط سيفتح العرب أقلامهم ويجندوها في مدح ودراسة أدبه؟، لماذا لا يستبق الأدباء العرب إذاً الجائزة واهتمام الغرب ويقدمون بعضهم البعض بكثير من التقدير والاحترام والتشجيع؟.
---
عن القدس العربي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.