بمناسبة عيد تحرير سيناء.. الرئيس السيسي يلقي كلمة هامة للمصريين    احتجاجات طلابية في مدارس وجامعات أمريكا تندد بالعدوان الإسرائيلي على غزة    أسعار العملات اليوم الخميس 25 أبريل.. الريال السعودي وصل لكام؟    طريقة تغيير الساعة بنظام التوقيت الصيفي (بعد إلغاء الشتوي خلال ساعات)    قائمة السلع الأساسية اليوم 25 أبريل.. ما بين ارتفاع وانخفاض    وزير النقل يشهد توقيع عقد تنفيذ البنية الفوقية لمحطة الحاويات «تحيا مصر 1» بميناء دمياط    قطع المياه عن سكان هذه المناطق بالقاهرة لمدة 6 ساعات.. اعرف المواعيد    عيد تحرير سيناء.. جهود إقامة التنمية العمرانية لأهالي أرض الفيروز ومدن القناة    مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى في ثالث أيام عيد الفصح    خبير في الشؤون الأمريكية: واشنطن غاضبة من تأييد طلاب الجامعات للقضية الفلسطينية    لأول مرة .. أمريكا تعلن عن إرسالها صواريخ بعيدة المدى لأوكرانيا    في حماية الاحتلال.. مستوطنون يقتحمون باحات المسجد الأقصى    تفاصيل اجتماع أمين صندوق الزمالك مع جوميز قبل السفر إلى غانا    متى تنتهي الموجة الحارة؟.. الأرصاد تكشف حالة الطقس ودرجة الحرارة اليوم وغدًا (الأمطار ستعود)    بينهم 3 أشقاء.. إصابة 9 أشخاص في حادث تصادم ميكروباص مع ربع نقل في أسيوط    بسبب ماس كهربائي.. السيطرة على حريق بحوش في سوهاج    شاب يُنهي حياته شنقًا على جذع نخلة بسوهاج    معلق بالسقف.. دفن جثة عامل عثر عليه مشنوقا داخل شقته بأوسيم    6 كلمات توقفك عن المعصية فورا .. علي جمعة يوضحها    حكم الحج بدون تصريح بعد أن تخلف من العمرة.. أمين الفتوى يجيب    وزير الصحة يهنئ الرئيس السيسي بالذكرى ال42 لتحرير سيناء    «الاتحاد الدولي للمستشفيات» يستقبل رئيس هيئة الرعاية الصحية في زيارة لأكبر مستشفيات سويسرا.. صور    علماء بريطانيون: أكثر من نصف سكان العالم قد يكونون عرضة لخطر الإصابة بالأمراض التي ينقلها البعوض    إزالة 7 حالات بناء مخالف على أرض زراعية بمدينة أرمنت في الأقصر    اليوم، الأهلي يختتم استعداداته لمواجهة مازيمبي    مستشار سابق بالخارجية الأمريكية: هناك موافقة أمريكية على دخول القوات الإسرائيلية لرفح    «الأهرام»: سيناء تستعد لتصبح واحدة من أكبر قلاع التنمية في مصر    «الجمهورية»: الرئيس السيسي عبر بسيناء عبورا جديدا    إعلام فلسطيني: شهيد في غارة لجيش الاحتلال غرب رفح الفلسطينية    عائشة بن أحمد تتالق في أحدث ظهور عبر إنستجرام    هل ترك جنش مودرن فيوتشر غضبًا من قرار استبعاده؟.. هيثم عرابي يوضح    أحمد جمال سعيد حديث السوشيال ميديا بعد انفصاله عن سارة قمر    الأكثر مشاهدة على WATCH IT    الشرطة الأمريكية تعتقل عددًا من الطلاب المؤيدين لفلسطين بجامعة كاليفورنيا.. فيديو    بسبب روسيا والصين.. الأمم المتحدة تفشل في منع سباق التسلح النووي    ميدو يطالب بالتصدي لتزوير أعمار لاعبي قطاع الناشئين    بالصور.. نجوم الفن يشاركون في تكريم «القومي للمسرح» للراحل أشرف عبد الغفور    الفندق عاوز يقولكم حاجة.. أبرز لقطات الحلقة الثانية من مسلسل البيت بيتي الجزء الثاني    تطور مثير في جريمة الطفلة جانيت بمدينة نصر والطب الشرعي كلمة السر    الاحتفال بأعياد تحرير سيناء.. نهضة في قطاع التعليم بجنوب سيناء    أبو رجيلة: فوجئت بتكريم الأهلي.. ومتفائل بقدرة الزمالك على تخطي عقبة دريمز    لتفانيه في العمل.. تكريم مأمور مركز سمالوط بالمنيا    أول تعليق من رئيس نادي المنصورة بعد الصعود لدوري المحترفين    هل يجوز قضاء صلاة الفجر مع الظهر؟.. «الإفتاء» تحسم الجدل    رئيس «الطب النفسي» بجامعة الإسكندرية: المريض يضع شروطا قبل بدء العلاج    بعد نوى البلح.. توجهات أمريكية لإنتاج القهوة من بذور الجوافة    تجربة بكين .. تعبئة السوق بالسيارات الكهربائية الرخيصة وإنهاء الاستيراد    دعاء في جوف الليل: اللهم أخرجنا من الظلمات إلى النور واهدنا سواء السبيل    عماد النحاس يكشف توقعه لمباراة الأهلي ومازيمبي    تيك توك تتعهد بالطعن في قانون أمريكي يُهدد بحظرها    مش بيصرف عليه ورفض يعالجه.. محامي طليقة مطرب مهرجانات شهير يكشف مفاجأة    اسكواش - ثلاثي مصري جديد إلى نصف نهائي الجونة الدولية    توجيهات الرئيس.. محافظ شمال سيناء: أولوية الإقامة في رفح الجديدة لأهالي المدينة    غادة البدوي: تحرير سيناء يمثل نموذجًا حقيقيًا للشجاعة والتضحية والتفاني في سبيل الوطن    من أرض الفيروز.. رسالة وزير العمل بمناسبة ذكرى تحرير سيناء    فريد زهران: نسعى لوضع الكتاب المصري في مكانة أفضل بكثير |فيديو    حظك اليوم برج الميزان الخميس 25-4-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    الزكاة على أموال وثائق التأمين.. الإفتاء توضح أحكامها ومتى تجب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحانوتى .. تطوير خدمات ما بعد الموت
نشر في الشروق الجديد يوم 27 - 05 - 2010

أن يقضى رجل عمره فى العمل بين صوان العزاء والمدافن فهذا يعنى أنه «حانوتى»، ومهما أثارت مهنته فى قلبك الانقباض ربما تجد نفسك يوما تلجأ إليه لإعداد جنازة أحد معارفك، فهو مقدم خدمات ما بعد الموت!
فى حى شبرا العريق ارتفعت لافتة «جورج عزيز لنقل الموتى»، وهو الاسم الذى ظهر فى بداية القرن العشرين لتصنيع التوابيت للموتى، ثم قدم خدمة نقلها للمدافن وتوفير البرنس (الكفن) لمن يرغب.
فى المكتب الذى امتلأ بصناديق مختلفة الألوان والزخارف جلس الأستاذ جورج عزيز يتلقى مع معاونيه مكالمات العملاء. ويقول: «كثيرا ما يمر شخص أمام المكتب فيرى التوابيت ويسرع الخطى مرددا أعوذ بالله!»، لكن الرجل الذى قضى عشرات السنين فى المهنة يدرك وجود مثل هذه النظرة لدى الناس.
ويتصل الأستاذ جورج بالمعلم شحاتة صاحب مكتب «صلاح نصر» لنقل الموتى، وصاحب أول مكتب حانوتى فى مصر موجود منذ نحو 120 عاما كما يذكر المعلم الذى جلس باسما أنيقا فى مكتبه بالفجالة، يتبادل مع صديقه التحية عبر الهاتف وحديث قصير حول مهنتهما المشتركة. وفيما يزال الأستاذ جورج يستشعر بعض الضيق إذا ألقى أحدهم نكتة على مهنته، يقابل المعلم شحاتة ذلك بنكتة مضادة وإبداء الفخر بمهنة الحانوتى.
يبدو المعلم شحاتة متحمسا لمهنته وفخورا بها، ربما لأنه دخلها فى سن مبكرة كما يقول: «كنت أقف مع والدى وأنا عمرى ست سنوات، كانوا يعطوننى المال فى البداية حتى أستمر وأتعلم المهنة، بعدها أحببت التفاصيل الجمالية التى نضفيها على عملنا». لكن الأستاذ جورج بدأ العمل فى مجاله شابا كما يروى «دخلت المهنة بالوراثة، توفى والدى وكان رأسماله ومصدر دخلنا هو المصنع والمكتب فكان علىّ متابعتهما.
لكننى فى الأصل كنت أرغب فى إتمام دراستى والعمل فى مجال آخر، ولو عاد بى الزمن وتغيرت الظروف ربما كنت فعلت ذلك». وبينما أدخل صاحب حانوت «شحاتة نصر» أولاده فى المهنة صغارا واشتغل معظمهم بها كبارا رغم إتمامهم دراستهم، لايزال الأستاذ جورج يحاول اجتذاب أبنائه للمجال.
ويكاد يكون توريث المهنة هو السبيل الوحيد لبقائها فى رأى المعلم شحاتة الذى يعدد مكاتب أقدم أصحاب الحوانيت «الحاج محمد حسن فى عابدين، ومصطفى النادى فى مصر الجديدة، وصبحى المرشدى فى النزهة، وحسن العريف فى السيدة». ويقول فى أسف إن بعضها لم يعد يعمل تقريبا، فالمهنة «على وشك الانقراض». أما العاملون فى المجال نفسه من المسيحيين فكان الخواجة «طواف» أشهرهم ومن بعده ابنه «انطون» ثم الجيل الذى يليه و«جورج عزيز».
ويتأثر الرجلان بقصص الموت وأحوال الأسر بعد وفاة أحد أبنائها. وبعد الحكايات الكثيرة والسنوات الطوال التى قضاها كل منهما فى مجال الموت بطله صار المعلم شحاتة «لا يهاب شخصا، لأننى أعرف أنه فى النهاية سيصير لحما نحمله على أكتافنا» أما الأستاذ جورج فصار ذاكرا للموت، وهو حتى الآن لم ير جثة متوفى «لأنه لم تأت فرصة لذلك، فأنا عملى فى توفير البرنس والصندوق وعربة النقل فقط».
طرحة عروسة لصناديق الموتى.. وتصوير الجنازات بالفيديو
«بالطبع تغير شكل الصناديق بمرور الزمن، تماما كما تتغير الأزياء والأثاث وكل الأشياء» يقول الأستاذ جورج ذلك متحدثا عن تغيرات حدثت طوال 45 عاما قضاها فى مجاله، ويشير إلى أحد التوابيت «هذا مثلا فيه زجاج وورد.. لم يكن ذلك موجودا زمان، ولا الاكسسوارات الموجودة فى غالبية التوابيت»، وصاحب أشهر شركات نقل الموتى لديه الحرية فى تطوير شكل التابوت وإبداعه، خاصة أن ذلك يلقى قبولا لدى عملائه، تحديدا من النساء.
ولم تكن مراسم الجنازة ببعيدة عن التطور كما يقول الأستاذ جورج «قديما كانت هناك فرقة موسيقية وكان لدى شركتنا بالفعل فرقة، كانت الخيول تحمل الصندوق لكنه طقس اختفى منذ السبعينيات». وفى الجنازات التى نظمها والد المعلم شحاتة، كان فى بعضها يرتدى الرجال حاملى «الخشبة» طرابيش وملابس رسمية، بينما تحول الطقس الآن إلى ارتداء ملابس بلون موحد وأن يكون الحمالون جميعهم فى نفس الطول».
وحتى الأدوات التى يستخدمونها تغيرت، فأصبحت الخشبة من الألوميتال أحيانا ومنجدة، والسيارات أصبحت مكيفة وهى ميزة تطلبها الكثير من العائلات، كما يقول المعلم شحاتة.
لكن بعض التطوير الذى لحق الجنازات بدا مناقضا لموقف العظة من الموت، ففى قاعة أحد مساجد القاهرة دخلت «الشيشة» إلى عدد من الحاضرين وسبقتها عادة تقديم السجائر، والتفت أهل المتوفى إلى بعض التفاصيل الشكلية فصاروا يحددون ألوانا وشكلا، زى الشماشرجية أو الأشخاص المسئولين عن تقديم المشروبات والدخان.
وحتى الصندوق ذاته الذى يحمل جسد المتوفى صار له «زواق» مخصوص، كما يشرح المعلم شحاتة: «الفتاة المتوفاة نضع على صندوقها ما يشبه الرقبة وفوقها تاج وطرحة عروسة، والشاب له قماش بشكل معين وفوقه طربوش، فضلا عن أن مقاس خشبة الرجل الكبير يختلف عن الشاب وعن المرأة وعن الطفل». ولدى الأستاذ جورج عزيز أيضا مقاسات للتوابيت، وإن كان لا يصنع صناديق لجثث الأطفال.
وعلى طريقة تصوير الأفراح صارت بعض المآتم يتم تصويرها بالفيديو، لتوثيق الحضور بحيث تظهر الكاميرا وجوههم والتعبيرات المرسومة عليها، وبعض الأسر تصوّر حتى عملية الدفن! واستعان المعلم شحاتة بأحد مصورى الأفراح لتصوير جنازة والده ويبرر ذلك قائلا: «فعلت ذلك للمباهاة بحجم الصوان وأناقته والمقرئين المميزين الذين حضروا ليلة العزاء». ويتوقع الأستاذ جورج أن تنتشر عادة تصوير المآتم «لأن الشعب المصرى يحب تقليد بعضه».
وظهر حول مهنة الحانوتى عدد من خدمات الموت أو «الكماليات»، منها مثلا أن يصنع صاحب محل الورد صليبا مزينا بالورود للجنازات، ويخرج صاحب المطبعة كتيبات صغيرة تحمل بعض سور القرآن الكريم ليتم توزيعها خلال العزاء.
وبعض أصحاب محلات الفراشة يتدخل لتوسط فى أداء أكثر من خدمة بغرض الحصول على نسبة من هذا وذاك، وهم من يعتبرهم المعلم شحاتة «سماسرة ما بعد الموت» ولا يتدخل فى أكثر من عمله «بعض الناس من مقرئين أو أصحاب فراشة يترك لى كروتا لهم فإذا طلب منى عميل أن أدله على أحدهم، أرشح له الأرخص سعرا من بينهم».
ويوضح المعلم شحاتة: «مهنة الحانوتى تندرج تحتها أكثر من مهنة، فهناك رئيس حانوت ووكيل حانوت ومغسّل أو مغسّلة وحمّال، وكلهم محتاجين إلى تراخيص عمل»، وبينما تنحصر أسئلة اللجنة للمتقدم للحصول على ترخيص مغسّل فى الأسئلة الشرعية والصحية المرتبطة بالغسل، والتأكد من السلامة البدنية للمتقدم لمهنة الحمّال، يتم سؤال وكيل ورئيس الحانوت فى الأسئلة الشرعية والصحية والقانونية والإدارية. ومن يفشل فى اجتياز امتحان هذا الترخيص يمكنه إعادة المحاولة فى اللجنة التالية. لكن كثيرا من أصحاب الحوانيت يتحايلون على العمل دون ترخيص من خلال تسجيل عملهم كشركة لنقل الموتى، دون مزيد من الخدمات.
لكن بالنسبة للحانوتى المسيحى، فلا يتطلب عمله الحصول على ترخيص، فكما يشرح الأستاذ جورج «غسل الجثة يتم من خلال أهل المتوفى أنفسهم غالبية الأحيان أو الكنيسة وكذلك تلبيسه البرنس، وتصنيع الصناديق مثل تصنيع أى سلعة أخرى».
مهنة الأستاذ جورج والمعلم شحاتة هى الحانوتى أو تجهيز ونقل الموتى أو «مخرج الجنازة» كما يصفها الأستاذ جورج، ويضحك المعلم شحاتة قائلا «عندما كنت طفلا ويسألنى المدرس عن مهنة والدى كنت أرد بأنه عامل فى هيئة النقل العام لمدينة الأموات، وهو كذلك بالفعل!».
الفراشة.. ديكور العزاء
الكرسى الذى تجلس عليه فى المآتم هو نفسه ما قد تجده فى الفرح أو الإكليل، لكن مجال الفراشة أوسع من مجرد توفير مقاعد أو بناء صوان.
وسط مكتب مزدحم بقطع الديكور، يجلس الأستاذ عبدالله المقدم صاحب فراشة «المقدم» الشهيرة، يواصل مشوارا بدأه منذ أكثر من 30 سنة فى تقديم فراشات الاحتفالات والمآتم، وخلال عقود ثلاثة قضى الرجل ملايين الساعات فى مكتبه بحى الهرم، يستقبل عملاءه من الأفراد والفنادق والقرى السياحية والمنشآت الترفيهية والسفارات، يجهز فراشة الاحتفالات والمناسبات القومية ويخطط ديكور جنازات لآلاف من بينهم مشاهير.
«طبعا فراشة الأفراح كثيرا ما تكون هى فراشة المآتم»، يقول ذلك صاحب فراشة المقدم دون استغراب، ويضيف: «الكرسى الذى تجلسين عليه فى فرح صديقتك ربما يكون نفسه الذى تجلسين عليه فى عزاء والد الصديقة نفسها»، متسائلا «ألست أنت نفسك من يذهب للفرح ويحتفل ويذهب للمأتم ويبكى؟!».
ووسط أدوات مائدة ستانلس ستيل وخزف، وبياضات وآلات موسيقية قديمة واكسسوارات ديكورية توضع فى القصور وتفاصيل كثيرة لا تدركها العين فى زيارة واحدة، يقول الأستاذ عبدالله: «انطباع الناس عن الفراشة أنها بعض الكراسى التى ترص فى صوان من خلال رجل يملكها وربما يملك معها تريسكل!» ويواصل «الحقيقة أن هذا المجال أكبر من مجرد امتلاك كراسى توضع فى كل المناسبات، فالفراشة فى تصورى ووفقا لما أمارسه فنا وإحساسا بالموقف الذى ستوضع فيه، تستطيعين القول إنها أقرب إلى فن الديكور». ويقترب مكتب صاحب الفراشة إلى محل التحف أو أنه «متحف» كما يصفه، حتى الأريكة المقابلة لمكتب الأستاذ عبدالله والتى يجلس عليها ضيوفه، تشعر أنها أحد ديكورات المكان!
ويرى الأستاذ عبدالله أن «فراشة الأفراح أكثر تنوعا وتطورا من فراشة المآتم، لأن مصيبة الموت تأتى مفاجئة وبشكل عام يسود التعجل فى مراسم التشييع بعكس الأفراح التى يعد لها قبل الحفل بشهور».
وضرب مثالا: «مؤخرا ظهرت فراشة خاصة بكراسى الأفراح، وأحيانا يطلب منى العروسين لونا معينا، فلو المدعوين ألف شخص يكون على تفصيل ألف كسوة باللون المطلوب». وعلى خلاف الاعتقاد الشائع بأن العاملين فى الفراشة هم صاحب المحل وعمال النقل والرص يشرح الرجل أن هناك عمال كهرباء وخياطين للفرش والستائر وفتيات يعملن فى الزخارف والاكسسوار، ويدخل مجال الفراشة مع قطاعات كثيرة منها الحدادة مثلا.
يحاول الحاج عبدالله توضيح ذلك، فيفتح جهاز الحاسب الآلى على مكتبه، ويدير لى تسجيلات فيديو لفراشة نفذها فى مدينة الإنتاج الإعلامى ودار الأوبرا وإعدادات لخيام رمضانية واحتفالات رأس السنة. ويعلق على أحدهم: «انظرى إلى هذه الخيمة، ليست قماش أو بلاستيك إنما فورجيه، وهذا الكلوب مثلا ليس كلوب بالمعنى الذى قد تتصوريه، إنما فايبر جلاس يعطى إضاءة وفقا للشكل الموضوع داخله».
ويلفت نظرى وجود بعض التكييفات، فيوضح صاحب الفراشة أنها تكييفات صحراوية، قائلا: «أحيانا يكون العمل فى ظروف صعبة للغاية، مثل افتتاح أحد المسئولين لمنشأة معينة أو وضعه حجر الأساس لها، معنى ذلك أن الطرق غير ممهدة بعد فنقل الفراشة صعب، وربما لا يوجد ماء أو كهرباء».
وعند إعداده فراشة إحدى المناسبات ينشغل الأستاذ عبدالله فى كثير من التفاصيل، منها شكل الترابيزات التى سيتخدمها وعدد الجالسين على كل منها، وما سيوضع على كل منها من قطع ديكور.
يعتبر صاحب فراشة «المقدم» أن الأمور أكبر من ذلك متسائلا «هل تعرفين أن هناك أكثر من 30 نوعا للكراسى، لكل منها استخدامها والمناسبة والمكان الذى أضعها فيه. «كار جرجرة وهجر مرة»، أى أن العالم فيه يكون كثير الانتقال وقد لا يرى زوجته وأسرته.
وهى مهنة مكلفة لصاحب الفراشة الذى يشرح: «الفرد يشترى 4 أو 3 كراسى للأنتريه يشعر أن سعرها مرتفع، ما بالك بمن يشترى عشرات أو مئات الكراسى»، ويضيف إلى ذلك أجور العمالة والضرائب والنثريات. ولا ينكر الأستاذ عبدالله أن الأزمة الاقتصادية قد أثرت على سوق الفراشة، كذلك «ظهور قاعات الأفراح والمآتم فى المساجد والكنائس والنوادى، وكلها يحاول تحقيق نوع من الاكتفاء الذاتى، فيتشرى فراشة يستخدمها لكل عملائه» وثمة منافسين أخذوا من مكسب أصحاب الفراشة هم منظمو الحفلات «ما كنت آخذه، يأخذ منظم الحفل نصفه أو أكثر، لأنه يطلب منى الأشياء الأساسية دون أية لمسات، وعمله يكون تركيب عناصر الفراشة مع بعضها ووضع اللمسات الأخيرة».
وصف مصر فى صفحة الوفيات
كانت صفحة الوفيات على مر العصور ديوانا للحياة الاجتماعية ومرآة لكواليس عالم السياسة والاقتصاد، فهى صفحة إعلانية تروى حكاية بلد بأمواتها وأحيائها.
يبدأ المهندس عمرو يومه بقراءة متأنية لصفحة الوفيات، عملا بالمقولة الشائعة «من لم ينشر نعيه فى الأهرام، لم يمت»! فقبل أن يتوجه للعمل اعتاد أن يمكث فى دورة المياه ويتفقد أخبار من رحلوا عن عالمنا بمنتهى التركيز. لمدة نصف الساعة يوميا يتابع كواليس عوالم السياسة والاقتصاد والمال والفن من خلال متابعة العلاقات بين الأفراد ودراسة الأنساب والصداقات.
أصبحت تسليته الرئيسية كل صباح هى حصر عدد الأطباء وأساتذة الجامعة الذين ينتمون لأسرة واحدة، والشىء نفسه بالنسبة لرجال الشرطة والمحامين والمهندسين، بل داهمته فكرة مجنونة نابعة ربما من «خلوة المرحاض».
فقد فكر فى تصميم برنامج خاص لتحليل مضمون صفحة الوفيات سعيا للتعرف على صلات القرابة بين هذه العوالم وبالتالى كشف الفساد وتبادل المصالح أو استغلال المناصب. وقام بالفعل بجمع صفحات الوفيات فى الصحف القومية فى الفترة بين عامى 2003 و2008، كى يبدأ فى تنفيذ مشروعه. وهو يعتقد «أن صفحة الوفيات هى التعبير السرى والصادق والحقيقى عن حياة المصريين، إذ إنها تكشف شجرة العائلة والارتباطات الاجتماعية بين الأفراد وتربيطات العمل، بل تلقى الضوء أيضا على علاقة المرءوس برئيسه لو مات له قريب لا قدر الله».
يتفق معه فى الرأى الدكتور محمود خليل رئيس قسم الصحافة الإلكترونية بكلية الإعلام جامعة القاهرة والذى أشرف على عدد من الدراسات حول هذا الموضوع: «أثبتت البحوث الميدانية أن صفحة الوفيات فى الجرائد تحظى بأعلى نسبة قراءة، بل وتعد من أكثر الأبواب مصداقية، فلا مجال للكذب فى أمور تتعلق بالموت. وقد ظلت هذه الصفحة على مدى عشرات السنين‏، وإلى يومنا هذا، من أهم الصفحات نظرا لما تمثله من قيمة إنسانية وإخبارية ومعلوماتية‏».
لا ينظر المصريون وحدهم لهذه الصفحة كمرآة لأحوال المجتمع، ففى عام 1935 أصدر الصحفى السويسرى برتولد جاكوب كتابا حول خطط الزعيم أدولف هتلر لغزو العالم وتأسيس إمبراطورية نازية قبل أن يعلن الأخير عن نواياه. وعندما أمر هتلر خبراء الأمن باختطاف جاكوب للتعرف على مصدر معلوماته قال الصحفى إنه اعتمد فى تحليله على صفحة الوفيات التى نشرتها الجرائد الألمانية.
‏ويوضح الدكتور محمود خليل أن فى فترة ما بعد الثورة ارتبطت إعلانات الوفيات بالطبقة الحاكمة أو النخبة السياسية الثورية آنذاك، لكن عندما بزغ نجم بعض رجال الأعمال مع بداية الانفتاح الاقتصادى أصبحت النسبة الأكبر من إعلانات الوفيات ترتبط بتمويل هذه الفئة الصاعدة. أما اليوم فتعكس صفحة الوفيات أوضاعا اقتصادية واجتماعية مختلفة على حد تعبير الدكتورة سهير سند، الباحثة فى المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية.
فسعر سطر الوفيات يتراوح بين 125 جنيها و500 حسب البنط من (12 إلى 18)، بل وسعر صورة المتوفى يبدأ من 1465 جنيها (على نصف عامود)، وسعر المشاطرات يفوق سعر النعى بخمس عشرة فى المائة.
الأمر الذى جعل دفع الفاتورة مقتصرا على فئة اجتماعية بعينها من الحريصين على إبراز مكانتهم الاجتماعية وسطوتهم الاقتصادية وأحيانا عضلاتهم السياسية، فالمردود والفائدة قد يفوقان بكثير سعر هذه السطور. ويقول الكاتب شريف الشوباشى فى مقاله المنشور بجريدة الأهرام يوم 20 فبراير 2008: «من المتفق عليه أن صفحة الوفيات غنية بالمعلومات عن الحالة الاجتماعية فى مصر‏، وعن التحالفات الأسرية والأنساب‏.‏ وقيل إن المخابرات الإسرائيلية كانت تتابع صفحة الوفيات بالأهرام لتعرف‏ (من هو من‏) فى مصر طبقا للتعبير الإنجليزى الشهير‏.
لكن هذه الصفحة أصبحت أخيرا تكشف سمة من سمات المجتمع‏،‏ حيث صارت مرآة عاكسة لحالة من النفاق الاجتماعى تتصاعد منذ فترة‏،‏ خاصة مع ظهور طبقة الأغنياء الجدد والتعاملات المالية والتجارية فى السوق‏.‏
ويتمثل هذا النفاق فى المشاطرات التى صارت مساحاتها تفوق مساحات النعى للمتوفين‏، وكأنها إعلان عن اسم الشخص وعن شركته‏.‏ وقد أدى الطلب المتزايد على المشاطرات إلى أن أفردت صفحات إضافية من أجل تلبية رغبات المشاطرين المتزايدة‏».
وبالطبع كلما ازدادت المكانة الاجتماعية للفرد ازداد عدد المشاطرين والعكس صحيح، فلا عجب أن نجد مثلا مشاطرة تقول إن رئيس شركة كذا ينعى بمزيد من الحزن والأسى‏ «جار ابن عم‏» المسئول الفلانى‏.‏
الصياغة تختلف والموت واحد
وتشهد أحيانا هذه الصفحات على لعبة القط والفأر بين السلطة والمعارضة، فمثلا منذ ثلاثة أعوام كان هناك صراع قوى بين النظام وجماعة الإخوان المسلمين المحظورة التى أرادت نعى أحد زعمائها مستخدمة عبارات تدل على البطولة والفداء، استفز هذا الأمر مسئولى الأمن فقرروا فرض رقابة على هذه النوعية من الإعلانات على حد رواية أحد محررى الوفيات الذى رفض ذكر اسمه. فقد اعتبرت الجهات الأمنية ذلك النعى اختراقا من الجماعة للصحيفة القومية وأجرت عليه بعض التعديلات فى الطبعة الثانية!
يشرح الباحث عماد سليم: «صيغة النعى اليوم أصبحت تحمل فى طياتها الاتجاهات الحزبية للمتوفى ومشاطريه، فالإخوان المسلمون يستخدمون صيغة مثل (يحتسبون عند الله أخاهم)، بينما يفضل اليساريون سرد الأسماء على أن تتبعها (ينعون المناضل)، فى حين يحرص الوفديون على وضع تعبير (القطب الوفدى)».
وتعكس صفحة الوفيات أيضا الصراعات العائلية وربما خبايا العلاقات الزوجية، فقد استلهم الحاج محمود من رواية نجيب محفوظ الشهيرة «اسعد الله مساؤك» وسيلة لمعاقبة الأفراد الخارجين عن زعامته القبلية. كتب الحاج محمود نعيه مرارا وتكررا منقحا بالحذف والإضافة لأفراد الأسرة حسب رضاه وغضبه عنهم، وهو ما دفع الأسرة بعد مماته إلى إلحاق أسماء من سقطوا سهوا حتى لا تتقطع صلات الرحم بعد رحيله، فالعائلة لم تجد بدا من تنفيذ وصيته بنشر نعيه كما كتبه بخط يده لكن لم يشأ حكماء الأسرة أن يغضبوا بعض الفروع التى لم يضعها الحاج محمود فى الحسبان.
من ناحية أخرى، قد تفتح هذه الصفحة الباب أمام الشائعات، كما حدث وقت رحيل قاض اشتهر بالصرامة وقسوة الأحكام‏،‏ إذ فوجئ الجميع بعبارات تدعو إلى الثأر وتغمز وتلمز كما لو أن الوفاة كانت غير طبيعية‏،‏ واحتار الناس فى أمر ذلك النعى وانتشرت الشائعات وترددت الأقاويل والتأويلات‏.
ولتفادى كل هذه الخلافات يوصى البعض بعدم نشر نعى أو إقامة سرادق للعزاء، وهو ما حدث مع صفاء بعد أن داهمها مرض السرطان إذ أوصت زوجها بصرف فلوس النعى كصدقة جارية «تنفعها فى قبرها»، وينتشر هذا الوضع تحديدا بين «الملتزمين الجدد».
فى الوقت نفسه يبدو الأقباط الأكثر حرصا على نعى ذويهم، على حد تعبير محرر الوفيات بإحدى الصحف القومية، فالمطلع على صفحة الوفيات يعتقد أن المسيحيين يمثلون نسبة أعلى من المعلن عنها، ويفسر بعض الباحثين ذلك بأنهم الأكثر حرصا على طقوس الموت لتأثرهم الشديد بالثقافة الفرعونية. وهم يبدون استياء واضحا عبر المواقع القبطية على الإنترنت لعدم سماح بعض الصحف بوضع البسملة المسيحية، مما اعتبر شكلا من أشكال التمييز ضد الأقباط وقد دعوا لمقاطعة الإعلان عن الوفيات فى هذه الجريدة القومية كوسيلة للضغط عليها.
وبما أن شر البلية ما يضحك، فقد ظهرت النكتة من رحم صفحة الوفيات وكاد الروائى الراحل عبدالحميد جودة السحار يدخل السجن بسببها! فقد كان يردد نكتة عن أحد الأشخاص الذى كان يتردد على بائع الجرائد ليقرأ العناوين ثم لا يشترى الصحيفة، وعندما سأله البائع عن سبب ذلك أجاب أنه ينتظر موت أحد المعارف، وعندما ذكره البائع أن الوفيات تنشر فى الصفحة الأخيرة، أجابه أن الرجل الذى ينتظر موته لن ينشر اسمه إلا فى الصفحة الأولى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.