(1) يسيطرعلى الإنسان وهم أن الموت لا يأتى ، حتى عندما يشاهد جنازة مارة فى الطريق، أو عندما يسمع بوفاة شخص ما لا معرفة له به ، بل حتى وهو يمرّ بعينية على صفحة الوفيات فى الجريدة ، فهو يفعل ذلك ليعرف ما إذا كانت هناك حالة وفاة تستلزم منه أداء واجب العزاء ، ويكره أن يفوته هذا الواجب . فى كل هذه المواقف تقع حالة موت الآخرين فى هامش دائرة الشعور لا فى مركز الشعورنفسه ، ولعل هذا من رحمة الله بالإنسان ، ذلك لأنه إذا وقعت كل حالات الموت التى تمر بوعى الإنسان ، كل يوم وكل لحظة ، فى مركز شعوره لاحترق ، ولأصيب عقله ووجدانه بالشلل، أو التّلف بحيث يتوقف الإنسان عن مواصلة فاعليته فى الحياة، ولانتهت حياته هو نفسه إلى موت سريع . (2) فى مقابل هذه الصورة توجد صورة أخرى شديدة الاختلاف ، عندما يكون شخص المتوفي صديقا حميما أو حبيبا لصيقا بشغاف القلب ، هنا لا تتسلل واقعة الموت إلى الوعى أو تنتقل من هامش الدائرة الشعورية إلى مركزها تدريجيا ، وإنما تنقض على وعى الإنسان كله انقضاض الصاعقة .. يأخذه خبر الموت على غرّة فيشل مراكز تفكيره ومشاعره لحظات تطول أوتقصر ، يرتبك فيها ارتباكا عظيما فلا يدرى ماذا يفعل أو ماذا يقول ، قد تتفجر الدموع من عينيه دون إرادة منه ، وقد يبكى بكاء حارقا، حتى يثوب إلى رشده قليلا .. فإذا أدرك طرفا من حقيقة الفاجعة التى ألمّت به .. يبدأ الألم يعتصر قلبه اعتصارا .. يغمره شعور غريب من الألم والحزن الهائل يتصاعد إليه من كل خلية فى كيانه ، حتى يصل إلى حلقه فيشعر كأن غُصّةً فيه تكاد تخنقه .. يهبط صدره ويعلو يلتمس نفسا لا يوجد ، كأن الهواء قد تسرّب خارج المكان إلى الأبد .. وتتسارع ضربات قلبه .. يسمعها وكأنها تدقّ فى رأسه وتزلزل كيانه بأسره .. عيناه زائغتان لا يكاد يرى أمامه .. هنا ينحصر الوجود كله فى نقطة سوداء كالحة السواد .. يشعر الإنسان معها أن الحياة على وشك الأفول وأن الموت أقرب إليه من حبل الوريد .. هل أستعيد هنا إلى الذاكرة خبرة خاصة بى .. ؟؟ ربما .. ولكنى لا أزال حين أتأملها مكتوبة بكلمات اللغة أشعر أن خبرتى الحقيقية التى عانيتها كانت أشد وطأة و أهول وقعا مما لا تستطيع كلمات اللغة أن تعبر عنه .. لقد عانيت هذه التجربة عدة مرات خلال ثلاثين سنة فتماسكت فى المرات الأولى حتى خفّت حدّتها فى عدة أيام أو أسابيع ، ولكن قصمت ظهرى الأخيرة .. ربما لأنها جاءت فى سن الشيخوخة وقد استنفد الزمن والأحداث ماتبقّى فى طاقتى العصبية من رصيد .. خلال هذه التجارب بدأت وجدانيّا استوعب موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وسرت صورته فى سويداء قلبى وهو يحتضن رفات ابنه الوحيد إبراهيم حزينا علي فراقه .. يذرف الدموع وهو يقول:"يا إبراهيم إنّا لا نُغنى عنك من الله شيئا ، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون، تبكى العين ويحزن القلب ولا نقول مايُسْخط الربّ " .. (3) معذرة للقراء عن هذه المقدمة الحزينة .. وربما كان عذرى أنها جاءت عفوية فى أجواء مأساوية تمر بوطننا التعيس وهو يتخبط فى سياسات غبية ويجلب على نفسه الخزى وسوء السمعة : من جدارعار.. إلى ممارسات قمعية إرهابية لمن جاءوا من أقصى الأرض يكسرون طوق الحصار القاتل عن غزة وأبنائها ، وكنا نحن أولى بفعل الخير منهم .. إلى محاولات عبثية أخرى فى واشنطن لإحياء ما أسموه " عملية السلام" التى ماتت وتعفّنت .. و إنك لا تحيى الموتى ولا تُسمع الصّم الدعاء إذا ولّوْا مدبرين . بين هذه الأجواء المأساوية المحزنة فوجئت بنبأ وفاة واحد من أعز أصدقائى هو الدكتور عبد العظيم الديب .. لم تكن علاقتى به مجرد زمالة جمعتنا لعشر سنوات بجامعة قطر فى الفترة من سنة 1980 إلى سنة 1990ولكنها علاقة إنسانية وصداقة حميمة بدأت فى الخمسينات من القرن الماضى واستمرت بعد جامعة قطر إلى يوم وفاته .. نعم .. لقد سافرت كثيرا وتغيبت طويلا عن مصر والعالم العربي سنوات عديدة ولكنى ما أن أعود وألتقى به حتى نستعيد معا ذلك الدفءْ العاطفى الأخوي وتلك الصلات الروحية والفكرية المتبادلة التى لم تستمر فحسب وإنما ازدادت ثراء وتدفّقا مع مرور الأيام ونُضج الخبرة واتساع آفاق المعرفة .. (4) أذكر أن أول لقاء لى به كان فى مسكنى بمنيل الروضة فى القاهرة .. كان هو طالبا فى كلية دار العلوم وكنت طالبا فى كلية الآداب بنفس الجامعة .. كان سكنه على مقربة منى .. وكنا فى شهر رمضان فدعوته لتناول الإفطار فاستجاب.. ثم امتد الحديث بنا فى تلك الليلة إلى قرب وقت السحور ، فطلبت منه البقاء لنتناول السحور معًا .. ولكنه اعتذر لتوقّعه ضيوفا من بلدته سيصلون إليه فى ذلك الموعد .. وبينما نحن واقفين خارج الشقة نودّعه هبّ هواء من الداخل فأغلق الباب ومفتاح الشقة بداخلها.. وحاولنا فتح الباب فاستعصى .. وأُسْقط فى يديْ .. فقد كان الوقت متأخرا ولا أمل فى الحصول على مساعدة من أحد .. ولكن الدكتور عبد العظيم هوّن الأمر عليّ .. قال: لا تيأس سنجد حلا إن شاء الله وإن لم نجد فستقضى الليلة عندى حتى الصباح .. لم نجد فى الحي كله ساهرا سوى صاحب مخبز قريب فاتجهنا إليه وسألناه أن يقرضنا مفكّ لمعالجة باب شقتنا الذى أغلقه الهواء علينا .. ولكن الرجل تشكك فى هذا السلوك وسألنا بخبث : شقة منُ ياترى تريدون سرقتها .. ؟؟ وهممت أن أعنّفه على سوء ظنه .. ولكن صديقى عبد العظيم تدارك الموقف ودخل فى حوار هادئ مع الرجل حتى أقنعه بمساعدتنا فقام بنفسه وجاء معه بأدواته .. ولم يتركنى الدكتور عبد العظيم حتى أطمأن عليّ ثم استأنف رحلة العودة إلى مسكنه .. كان الدكتور عبد العظيم يكبرني سنا ببضع سنوات قليلة ولكنّ هذه الواقعة كشفت لى فيه عن روح أبوّة رحيمة ، وشعور ناضج بالمسئولية تجاه أصدقائه .. وصبر عجيب على مواجهة المصاعب .. وقدرة على الاحتمال وعلى الإقناع والتفاهم حتى مع البسطاء من الناس .. ومع أكثر الأيديولوجيين المخالفين شراسة وتعصّبا.. وهى خصال لم تكن متوفّرة عندى .. إنما اكتسبتها منه .. فيسّرت عليّ كثيرا من الصعوبات فى مستقبل حياتى .. منذ تلك الواقعة لم تنقطع صلتى بالدكتور عبد العظيم الديب .. (5) أعلم أننى لا أستطيع أن أنافس إخوانه وأصدقاءه ومريديه ومحبّيه -وما أكثرهم- فى إحصاء أعماله وإنجازاته العلمية وعشقه للمعرفة .. ولكنى اطلعت على بعض جوانب من شخصيته الإنسانية ربما لم يطلع عليها أحد غيرى .. وهى ما أريد الإشارة إليها هنا لتجلية جوانب من هذه الشخصية الفذة التى لم تجد ما كانت تستحقه من تكريم فى وطنه الأم مصر . (6) فقدت ابنى "باسم" سنة 1983 فى حادث أليم أثناء وجودى فى قطر فى بعثة مع اليونسكو.. وكان فى السنة الأولى بالجامعة فى كانبرا.. فسافرت مسرعا إلى استراليا حيث حضرت إجراءات دفنه وعدت بعد عشرة أيام إلى عملى فى الدوحة ولكن أي عودة ..! لقد شعرت أن عشر سنوات قد انسلخت من عمرى لا عشرة أيام فحسب .. عدت شبح إنسان .. وأدرك الدكتور عبد العظيم هول ما تحوّل إليه حالى فلازمنى بالزيارة اليومية فى منزلى على مدى شهر كامل بانتظام .. دون ملل .. كان يقضى معى يواسينى ساعة أو ساعتين كل يوم .. أستمع إلى حديثه طول الوقت وهو يمدّنى بحكمه وقصص من مخزونه الثقافيّ الواسع .. ويغوص بى فى أعماق تراث النبوّة والصالحين من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين .. ويستدل فى أحاديثه بالآيات المناسبة من القرآن الكريم .. وفى كل هذا كنت أشعر منه بفيض من الرحمة والحب والصبر لم أجد مثله عند أحد غيره .. وكان هذا أكبر عون لى على التعافي من هذه الأزمة النفسية التى ألمّت بى فى فترة عصيبة من حياتى .. (7) أدركت منذ وقت مبكرنعمة وجود صديق مخلص على مستوى فكرى رفيع مثل الدكتور عبد العظيم واسع الثقافة .. ليس منغلقا على تخصصه الضيق.. أن أشاطره همومي واهتماماتى الفكرية .. وأناقشه بحرية تامة فيما يعنّ لى من أفكار وانتقادات .. بل وشكوك أيضا قد أتحرّج من ذكرها أمام الآخرين .. فأجده واسع الصدر عميق النظرة .. لا فى الفقه فحسب وإنما فى التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية.. ووجدت لدهشتى أننا نتفق فى وجهات نظر كثيرة رغم الاختلاف الظاهر فى خلفياتنا التعليمية .. لقد كشف لى عن أهمية فكر أستاذه محمود محمد شاكر ، واهدانى كتابه "أباطيل وأسمار" مع كتب أخرى له .. كان يعرف مدى حبى واهتمامى بشخصية على عزت بيجوفيتش وفكره .. ويعلم أننى قد جمعت كتبه كلّها ولكنى لم أستطع الحصول على مقالاته المبعثرة .. فسعى صامتا لدى معارفه وأصدقائه للحصول على ماينقصنى ، حتى فوجئت به يوما يقول لى: " لك عندى هدية قيّمة ".. فإذا بها كتاب جامع لكل مقالات على عزت القديمة .. ولم تكن فرحته بالحصول عليه بأقل من فرحتى. (8) تناقشنا طويلا فى موضوع الفتنة الكبرى التى شقّت الصف الاسلامي فى أحرج مرحلة من مراحل تطوّر الدولة الاسلامية .. وكنا نقرأ فى ذلك الوقت آراء مالك بن نبى فى تقييم هذه المرحلة .. كانت للدكتور عبد العظيم بعض أفكار مبدئية فى هذا الموضوع .. ولكنى فوجئت خلال عامين أنه كان عاكفا على الدراسة والبحث حتى خرج بأفكار ونتائج موثّقة تدحض ما شاع فى كتب التاريخ الاسلامى الدارجة .. لقد تبين له مثلا أن قصة التحكيم الشهيرة التى تُحكى عن أبى موسى الأشعرى وعمرو بن العاص هى مجرد قصة خرافية .. وأن أبا موسى الأشعري لم يخلع خاتمه ويقول : لقد خلعت عليّا كما أخلع خاتمى هذا ، ثم جاء عمرو بن العاص وقال إننى أثبّت معاوية فى الخلافة كما أثبت خاتمى هذا .. فلم يكن التحكيم أصلا عن أحقية عليّ أو معاوية بالخلافة .. ولم يكن من صلاحياتهما خلع أو تثبيت أحد .. وإنما القضية كما عرضها الدكتور عبد العظيم موثّقة هى محاكمة قتلة سيدنا عثمان : هل كان من الضروري أن تبدأعلى الفور كما أراد معاوية..؟ أم أنه كان ينبغى الانتظار حتى تتم المبايعة للخليفة الجديد على ابن أبى طالب رضى الله عليه ، وتستقر أوضاع الخلافة الوليدة فى أجواء بالغة الآضطراب ..؟؟ لقد أخذ رجل يدّعى العلم هو جمال البنا قصة التحكيم كما شاعت دون تحقيق أو تمحيص ورتّب عليها حُكما أطلقه باستخفاف على صحابيّ جليل فى برنامج متلفز قال: " لقدكان إبى موسى الأشعرى رجلا ساذجا مغفلا.." والله أعلم من هو الساذج الحقبقى ومن هو المغفل ...؟! (9) كذلك رأى الدكتور عبد العظيم من دراسته أن الفتنة الكبرى كان يغذيها من وراء ستار أفراد من اليهود والمنافقين .. اخترقوا صفوف المسلمين من الجانبين وقاموا بتزوير رسائل وتوقيعات لشخصيات قيادية من الصحابة وتناقلوها فيما بينهم لتزداد الفتنة اشتعالا .. وقد نجحوا بهذه الحيلة الماكرة نجاحا شيطانيا كبيرا ... ويخلص الدكتور عبد العظيم إلى نتيجة بالغة الأهمية وهي أن التاريخ الإسلامي فى تلك الفترة المضطربة لم يُكتب كتابة صحيحة ولا بد من إعادة النظر في كتابته من جديد .. (10) منذ بضعة أعوام كتب الدكتور صلاح قنصوه مقالا فى مجلة الهلال عن النسْخ فى القرآن بطريقة ساخرة .. أنا أعرف صلاح قنصوه منذ كنا طُلاّبا فى قسم الدراسات الفلسفية .. لم نكن أصدقاء .. وكنت أستخف سلوكه وكلامه .. وأعتقد أنه لم يأخذ شيئا مأخذ الجد فى حياته أبدا .. وقد بدا لى شابا مستهترا وأظنه لم يتغير كثيرا بعد أن أصبح عميدا لأكاديمية الفنون ..! وظهر استهتاره واضحا فى عبارات مقاله المذكور عندما كان يشير إلى آية معينة بأنها منسوخة ثم يضيف بين قوسين (يعنى قرآن ملْغى ..!) كتبت ردّا عليه .. ولكنى تريثت فى نشره حتى أناقش الموضوع مع الدكتور عبد العظيم .. اتصلت به هاتفيا وظللنا ساعة نقلب الرأى فيما بيننا .. وكان رأيه أنه من الأفضل تجاهل الكاتب فهو ليس مشهورا ولا مقروءًا .. وأن ردّى عليه قد يمنحه الشهرة التى يتطلع إليها .. وترُكه سوف ينتهى بموت مقالته .. وقد عملت بنصيحة أخى ومزقت الرد .. وماتت مقالة صلاح قنصوه كما توقع الدكتور عبد العظيم ..! (11) كان الدكتور عبد العظيم الديب شديد الإخلاص لأساتذته .. وكان محبا عاشقا لإمام الحرمين ( الجويني) عمدة الشافعية ومرجعهم الأكبر .. وقد خصص الدكتور عبد العظيم رسالتيه فى الماجستير والدكتوراه فى تحقيق ودراسة آثاره .. ولم ينقطع عن اهتمام بفكر هذا الإمام والفقيه الجليل فانكب على تحقيق و دراسة آخر أعمال إمام الحرمين " نهاية المطلب ..." حيث جمع عشرين نسخة من هذا المخطوط النادر وقد كانت مبعثرة فى أنحاء شتّى من العالم .. سافر إليها حيث مظانها وصوّر نسخها فى عدد كبير من الجامعات .. حتى خرج الكتاب فى دراسة موسوعية تتألّف من أربعة وأربعين مجلّدا .. قضى فى دراستها وتحقيقها وإخراجها عشرين سنة من عمره .. يصف أستاذنا العلامة الدكتور يوسف القرضاوى دقته وقدرته فى البحث فيقول أن الدكتور عبد العظيم الديب: " قد عُرف بقدُره فى الفقه ومنزلته فى التأصيل والاستنباط..." ويلفت نظرنا إلى حقيقة هامة يُرجع فيها حب الدكتور عبد العظيم لإمام الحرمين إلى مابين الرجلين من نسب جامع وصفات مشتركة جعلته ينجذب إليه ..." ويفصّل سرّ هذه العلاقة الروحية فيقول: كان الإمام الجويني على رسوخ قدمه فى الفقه من أصحاب القلوب" فرجال الفقه لاستغراقهم فى القضايا العقلية والمجادلات الكلامية .. قد يصابون بجفاف الروح وقسوة القلوب .. أما الجويني فكان من الفقهاء القلائل الذين احتفظوا بقلوبهم حية لم تمت .. وكذلك كان الدكتور عبد العظيم الديب -كما عرفته- رحيم القلب رقيقا باش الوجه .. صاحب فكاهة رصينة تأتى فى وقتها ومكانها فتلطّف النفوس وتشيع البهجة فى المواقف المتجهّمة ... رحم الله الدكتور عبد العظيم الديب العلامة الجليل وجزاه الله عن أمته خير الجزاء...